أحاول أن أتخيّل أحياناً نظرات أحفادي عندما سأروي لهم بعد ثلاثين عاماً "كيف كنّا نقود السيارة بواسطة عجلة دائرية إسمها المقوَد"! وأكاد أسمع من الآن مواساتهم لي عندما سألهيهم في أثناء خروج والديهم الى السهرة، بتحديثهم عن دوّاسات الوقود والكبح والتعشيق، و"نعم يا جدّي، كنا نضغط عليها برجلنا، كما ترى في الصورة. تصوّر كم كانت الحياة شاقة". أما رزمة المفاتيح اللازمة لشرح كيف "كنّا" نفتح باب السيارة ثم نشغّل محرّكها، فتلك ستصبح مسألة مجرّدة مثل معادلات الجبر، لأن عليهم الإقتناع بإمكان إستخدام تلك القطع المعدنية "البدائية" الخالية من أي عنصر إلكتروني أو بطارية. من يدري، قد يسمع مفتاح سيارتك الحالية، إذا عُرِضَ بين تحف "أنتيكية" أخرى في صالون أحد أحفادك بعد 150 عاماً، كلاماً من نوع: "... وهذه قطعة تعود الى أواخر الألف الثاني، وكان أحد الأجداد يستعملها، على ما يُروى، لتشغيل سيارته أو شيء من هذا القبيل"... ومن منا لن يضحك في المستقبل عند مشاهدة أفلام تعرض طريقتنا في وقف السيارة اليوم: لفّتان الى اليمين ورجوع، وأخريان الى اليسار ثم تقدّم، ثم يمين ورجوع فيسار وتقدّم... ولم تكن أعناقنا تتشنّج! لا تضحك، فهل تتصوّر نفسك اليوم تحمل جرّة المياه التي كانت النساء تحملنها مليئة، وعلى رؤوسهن، من النبع الى البيت؟ نتذمّر اليوم من نقل قناني الليتر ونصف من المتجر الى السيارة ومنها الى البيت! بلغ التسارع التكنولوجي في زمننا حداً يكاد يمحو بقايا الخط الفاصل بين الخيال والتوقّعات. خذ المفتاح المعدني مثلاً: مرسيدس-بنز تخلّصت منه في "سي إل كاي" لتكتفي ب"شبه" مفتاح بلاستيكي يبث من رأسه رموزاً رقمية تجيز تشغيل المحرّك، أو أخرى للتحكم بالقفل المركزي من بُعد. زوال المقود والدوّاسات؟ في أحد نماذج موديل "900" الإختبارية، إستعاضت ساب عن المقود قبل بضعة أعوام بمقبض Joystick تحرّكه يميناً أو يساراً للإنعطاف. بل مضت مرسيدس-بنز خطوة أبعد مع نموذجها "إف 200" في الصورة قبل عامين: لا دوّاسات ولا مقود، بل مقبض بين المقعدين الأماميين، تدفعه الى الأمام فتتقدم السيارة، الى الوراء لتخفيف السرعة أو للرجوع، ويميناً أو يساراً للإنعطاف، مع تدرّجات الدفع والسحب يميناً ويساراً للإنعطاف قُدُماً أو رجوعاً. لا، لن أحسد أحفادي أبداً على تكنولوجيتهم، ف"رياضة" الإلتفات يميناً أو يساراً لا تتعبني. ويوم ستفعل، ستحل تلك التكنولوجيا على الرحب والسعة. فالمقوّمات العلمية والتقنية موجودة اليوم، ولو في صيغة إختبارية، لإغناء السائق حتى عن توجيه سيارته التي يمكن تصوّر برمجتها معلوماتياً لسلوك طريق معيّن تُدخل مقصدك بواسطة كومبيوتر جهاز ملاحة إلكترونية مثلاً، حسب توجيهات أجهزة بث أرضية حول الطرقات، أو فضائية تتلقاها السيارة مثلما نتلقى مخابرات الهاتف الجوّال! ماذا ننتظر إذاً؟ نعمة أو مشكلة، على الإنسان أن يرى أموراً كثيرة في بصيرته قبل إبصارها. وعندما يبصرها، قد لا يراها هي بمقدار ما سيرى، في بصيرته من جديد، ما سيليها. الجزرة المتحرّكة! فما نتصوّره اليوم لا ينتظر إلا شيوع بعض تقنيات الحاضر والمستقبل القريب لخفض كلفتها، ولنقترب أكثر من تكنولوجيا المستقبل الأبعد. الأمثلة كثيرة. في السيارات المجهّزة اليوم بنظام وصل كهربائي Drive-by-wire بين دوّاسة الوقود وبين نظام الإدارة الإلكترونية للمحرّك، تمكن الإستعاضة عن دوّاسة الوقود بزرٍ كهربائي متحرّك مثل الأزرار التي تجيز إضاءة المصابيح المنزلية بدرجات مختلفة. ومنذ إطلاقها في بعض السيارات الفخمة أواخر الثمانينات، أخذت هذه التقنية تروج في عدد من السيارات الأقل فخامة، في طريقها الى إلغاء الوصلة الميكانيكية كابل عادة التي قد تستمر موقتاً كوسيلة بديلة في حال تعطّل الوصلة الكهربائية. سيمكن أيضاً الإستغناء عن المقود بعد رواج إستخدام نظام التعزيز الكهربائي وليس الهيدروليكي لنظام التوجيه أو اللف. وهو نظام آخذ في التقدّم، إما في صيغة كهربائية بحتة أو في صيغة جامعة بين التدخّل الكهربائي والهيدروليكي في أوبل "أسترا" الجديدة مثلاً. وإذا أمكن تشغيل آلية توجيه العجلتين الأماميتين يميناً أو يساراً، بطريقة كهربائية، ماذا يمنع الإستغناء عن المقود المستدير ليحل محله مقبض أو زر كهربائي كما في ألعاب الكومبيوتر؟ يمكن حتى الإستغناء عن الدوّاسة لكبح السيارة، بإعتماد مبدأ الوصلة الكهربائية أيضاً لتشغيل المكابح الكهربائية في المستقبل المتوسط الى البعيد، أو الهيدروليكية المعروفة في المستقبل القريب يمكن للنظام الكهربائي أن يحث الهيدروليكي على التدخّل ليقبض فكّا الكبح على العجلة. وعوضاً عن الدوّاسة يمكن تشغيل المكابح بزر خاص، أو بمجرّد سحب مقبض التوجيه الى الوراء. لن نختلف على سهولة إلغاء دوّاسة التعشيق، ليس فقط مع العلبة الأوتوماتيكية التي أطلقتها أولدزموبيل في 1937، بل حتى مع اليدوية المصنّفة نصف أوتوماتيكية، كما في سيتروان "جي إس" مثلاً في السبعينات، أو حتى في ساب "900 سنسونيك" منذ 1995. ماذا يمنع بالتالي تصوّر بضعة أزرار مرقّمة تسمح بالغيار من نسبة الى أخرى؟ لكن القدرات العلمية والصناعية ليست هي وحدها التي تحدد مواعيد تسويق تقنيات كهذه، بل قدرتنا نحن على الوثوق بسيارات لا مقود فيها ولا دوّاسات. لذلك فما نراه اليوم من التقنيات المذكورة قد لا يكون إلا خطوات مرحلية تحضّرنا لتقبّل ما نراه في النماذج "العجيبة". منهم من يسمي هذا بال"خوف من التغيير"، ومنهم من يرى فيه بكل بساطة، تباين سرعة تقبّل العقل للتغيير، وبطء هضمه في النفس البشرية. وتلك أمور أستبعد أن تتغيّر كثيراً بين اليوم وبين المساء الذي سأروي فيه قصتي هذه الى أحفادي. بشاره أبو النص