حين زرت ليبيا في الخريف الماضي في مؤتمر أكاديمي حول الأمن والتعاون في حوض البحر المتوسط، اتيح لي التعرف عن كثب على الواقع الحقيقي لتداعيات المقاطعة المفروضة من مجلس الأمن الدولي على السياق اليومي للمواطن. فالحصار وهو التسمية الخطابية لقرارات المنظمة الدولية أرخى بثقله على وتيرة العيش في ليبيا وأحاط المخيلة الشعبية بسياج من الاسقاطات والأحكام والشعارات، بحيث انتفى التواصل الفكري والثقافي مع العالم، وبات التقوقع وتصديق الذات أو الخطاب البيتي على الأقل أرضية لعملية اجترار محلية قاتلة. علاقة المواطن في ليبيا مع الدائرة الكونية محكومة ومقننة وحتى اشعار آخر بعقدة "لوكربي". الداخل الليبي يتعايش مع يومياته على وتيرة ارتباط البلاد بتطور "القضية" "لوكربي" طبعاً، وانعكاس ذلك على المسلك الحكومي تجاه العالم الغربي أساساً. الحاضر الليبي متوقف على هذا "التفصيل" الثوري كونه محطة "استراتيجية في صراع الثورة ضد الامبريالية". وتحت سقف هذه الاشكالية - النظرية "الحضارة المقدسة"، يصادر الراهن الليبي كل افق لمستقبل يعيد دمج البلد بعالم ما بعد الناصرية قبل أن نقول ما بعد الحرب الباردة. القطيعة النهائية ما بين ليبيا والولاياتالمتحدة لم تولد من عدم أو لحظة ولادة "لوكربي"، فقد تدهورت علاقات البلدين قبل ذلك وبشكل دراماتيكي من خلال مسلسل تصعيد عسكري ابتداء بالاعتداء الذي قامت به ثماني طائرات أميركية على خليج سرت في 19 آب اغسطس 1981، مروراً بعدوان بري وبحري استهدف مواقع مدنية في الخليج نفسه في 24 و25 آذار مارس 1986 شاركت فيه ثلاث حاملات للطائرات، وصولاً إلى الاعتداء الشهير الذي استهدف في 15 نيسان ابريل بيت العقيد القذافي استتبعته إدانة صارخة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. أدركت الإدارة الأميركية بعد انهيار الصرح السوفياتي وذوبان الستار الحديدي واندثار الحرب الباردة، أن تفردها في قيادة العالم لا يعني الانفراد في تسيير شؤونه، وان شماتة وتشفي فوكوياما لا تشي بالضرورة بأن العالم صار قطيعاً أحادي اللون. ولعل الحنكة التي أعدت بها واشنطن حملة "عاصفة الصحراء" ضد العراق هي اسطع برهان على تطور التكتيكات الأميركية ليس في تقاسم الزعامة الأممية، بل في توظيف الشراكة من أجل تأكيد هذه الزعامة. في نزاعها مع ليبيا بشأن قضية "لوكربي" تبدلت الأدوات. لم يعد ال "كاوبوي" الأميركي يتواقح في رجم نيرانه الجوية والبحرية لتصفية حسابه مع طرابلس. صحيح أن التلويح بذلك حاضر دون هوادة، بيد ان الولاياتالمتحدة أعادت استنفار ترسانة من القوانين والحجج والاصول التي من شأنها تحويل الرغبة الأميركية إلى إرادة أممية يبدع مجلس الأمن الدولي في استنباط أسسها على شاكلة قرارات الحظر الشهيرة. الولاياتالمتحدةوبريطانيا تتهمان ليبيا بالمسؤولية في حادث تفجير طائرة ال "بان اميركان" فوق قرية لوكربي في اسكوتلندا في كانون الأول/ ديسمبر 1988 والتي راح ضحيتها 281 قتيلاً. بينما تتهم فرنسا ليبيا بأنها وراء تفجير طائرة UTA الفرنسية فوق صحراء النيجر في أيلول/ سبتمبر 1989. في كلتا الحالتين تنفي ليبيا التهمة وتبدي استعداداً ديبلوماسياً حاذقاً لتسهيل مهام التحقيق بغية كشف الحقيقة، شرط أن لا يمس ذلك "كرامة وسيادة البلاد". وهنا لب المعضلة! فواشنطن ولندن تطالبان طرابلس بتسليمها اثنين من الرعايا الليبيين يشتبه في ضلوعهما في حادثة "لوكربي" لمحاكمتهما في الولاياتالمتحدة أو بريطانية، بينما تطالب فرنسا باستجواب أربعة أشخاص تشتبه في أنهم قاموا بتدبير حادث نسف ال UTA التي راح ضحيتها 170 شخصاً. لا توجد أية معاهدة لتبادل الأسرى بين ليبيا والدول الغربية الثلاث. كما أن هذا النوع من النزاعات يخضع لما تنص عليه معاهدة مونتريال لعام 1971 الخاصة بقمع جرائم الاعتداء على سلامة الطيران المدني، إضافة إلى أن محكمة العدل الدولية في لاهاي أهل للبت في هذه المسألة كما ترى ليبيا وكما أقرت أخيراً المحكمة المنوه عنها. ناهيك عن أن التهمة والاشتباه لا تسمح بإصدار الحكم ومعاقبة ليبيا سياسياً في نزاع لم يفصل فيه حكم قضائي. جندت واشنطن هيبتها السياسية لتجاوز الأصول والأعراف القانونية الدولية وفرضت من خلال مجلس الأمن إصدار قرارات الحظر ضد ليبيا بغض النظر عن النتيجة التي ستكشف عنها المحاكمة المتوخاة. وقد استندت عقوبات مجلس الأمن على الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة لا سيما المادة التاسعة والثلاثين التي نصت على أن "يقرر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو اخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان. ويقدم في ذلك توصياته...". مع أنه كان يمكن حل القضية بالاستناد إلى الفصل السادس من ميثاق المنظمة الأممية الذي يدعو لحفظ السلم والأمن الدوليين والتماس حل النزاعات بطرق المفاوضة والتحقيق والوساطة. تجاوزت واشنطن معاهدة مونتريال ومحكمة العدل الدولية والفصل السادس من ميثاق مجلس الأمن لإصدار القرار 831 21/1/1992 المطالب بتسليم المتهمين الليبيين، والقرار 848 31/3/1992 والذي يفرض الحظر الجوي الكامل على الجماهيرية، والقرار 883 11/11/1993 والداعي إلى تجميد الأموال والموارد المالية الليبية في الخارج ما عدا تلك الواردة من مبيعات النفط. وقد أمعنت واشنطن في تضييق الخناق على ليبيا بعد ذلك، حين أصدر الكونغرس قانون "داماتو" 24/7/1996 والقاضي بفرض عقوبات على الشركات الأميركية والأجنبية التي تستثمر أكثر من 40 مليون دولار في العام في ليبيا وإيران. ازاء الهجوم القانوني الدولي ضد ليبيا، تعاملت هذه الأخيرة، وعلى عكس الخطاب الإعلامي الكلاسيكي السائد، بالتروي والعقلانية وبشن حملة مدروسة مضادة تستند على لغة القانون والتشريع الدولي. فبعد أيام من صدور القرار الأول 831 لجأت ليبيا إلى محكمة العدل الدولية 3/3/1992 للفصل في مسألة الاختصاص. وقد تسنى لي أثناء زيارتي لطرابلس مقابلة الدكتور محمد شرف الدين الفيتوري وزير الاعلام والثقافة السابق والذي كان ما بين عامي 1992 و1994 وكيلاً للجماهيرية لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ثم أتيح لي في ما بعد التحدث مع المحامي البلجيكي فيليب شانساي فيلموت والذي أعد تقريراً يفند ويكشف فيه زيف الآليات القضائية التي استخدمت للوصول بمجلس الأمن إلى قرارات الحظر ضد ليبيا. وبصرف النظر عن التفصيلات القانونية التي لا مجال لتناولها في هذه العجالة، فإن اللافت هو لجوء ليبيا ومنذ اللحظات الأولى للأزمة إلى الدفاع عن موقفها باستخدام أحدث الأساليب وأكفأ المحامين الدوليين للخروج بهجوم مضاد يتكافأ مع مستوى الهجوم المشن لدى المحافل الدولية. فقد رفضت ليبيا تسليم المشتبه بهما وطالبت بمحاكمتهما في بلد أوروبي محايد عدا بريطانيا، على رغم مخالفة ذلك مع نصوص التشريع الجنائي الليبي وأصول وقواعد السيادة. وبادرت طرابلس بعد ذلك إلى تشكيل لجنتين للتحقيق في الحادثتين برئاسة قاض من قضاة المحكمة العليا أعلى هيئة قضائية في ليبيا. غير ان هاتين اللجنتين اصطدمتا بعقبة قانونية تتلخص في عدم وجود مستندات أو وثائق اتهام غير تلك الصادرة عن الولاياتالمتحدةوبريطانيا. تعاملت ليبيا مع عملية تسييس قضية "لوكربي" بنمطين متوازيين، الأول يعتمد بناء صرح قانوني صلب يعمل على تشييده ذوو الاختصاص عرباً وأجانب مع ما يتطلب ذلك من خضوع إلى الاصول والاعراف في التشريع الدولي في هذا الشأن. أما النمط الثاني فهو سياسي ديبلوماسي يجهد في تجييش الدعم الدولي للموقف الليبي لدى التجمعات السياسية الاقليمية والدولية. وقد نجحت طرابلس حتى الآن في تحقيق انجازات على المستويين القانوني قرار محكمة العدل الدولية باختصاصها بالنظر في الشكوى الليبية المتعلقة بحادث "لوكربي" والسياسي دعم الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية وحركة عدم الانحياز وصولاً إلى ذهاب بعض الدول إلى حد عدم الامتثال لقرارات الحظر الأممية. واخفقت واشنطن من جهتها في فرض قانون "داماتو" على العالم. وكان أول من بادر لتجاوز القانون الأميركي تركيا الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة داخل حلف شمال الأطلسي بتوقيعها ثلاثة اتفاقات اقتصادية وتجارية مع كل من ليبيا وإيران، خصوصاً تلك المتعلقة باتفاقية الغاز الطبيعي والتي اعتبرت صفقة العصر. وقد جاء الاتفاق العملاق الذي أبرمته شركة "توتال" الفرنسية مع إيران بالتعاون مع شركتين روسية وماليزية بقيمة بليوني دولار لاستثمار حقول الغاز، بمثابة رصاصة الرحمة اطلقت على قانون "داماتو"، لا سيما حين ذهب الاتحاد الأوروبي إلى تكليف المفوضية في بروكسيل بإعداد قانون مضاد لمناهضة المقاطعة الأميركية المحتملة. التراجع المسجل حديثاً لدى الولاياتالمتحدةوبريطانيا ازاء قضية "لوكربي" يعكس قناعة الطرفين بعدم جدوى المكابرة في مسألة يجوز فيها الفصل بطرق قضائية ووفق الاصول التي تنص عليها التشريعات الدولية. وقد يمكن إعادة هذا التراجع البريطاني - الأميركي إلى حنكة ليبية مفاجئة بالنظر إلى ما اعتادت طرابلس التفطن به من ابداعات دعاوية لغوية فضفاضة. بيد أن ما تحقق حالياً ما هو إلا تصويب في الشكل لا في المضمون، ذلك أن ليبيا قد تستطيع الحصول على حق محاكمة اثنين من رعاياها في لاهاي مثلاً، أما تذنيبهما وتجريمهما فهو أمر آخر تحدده التطورات المقبلة. * كاتب لبناني مقيم في باريس.