ثمة شعر في غزة، المدينة الوحيدة، المتروكة للنسيان، ومخالب المستوطنات الصهيونية، التي تتّسع ما بين ليلة ونهار، غزة المسوّرة بمخيمات البؤس والضنى الانسانيّ الغريب، المضمومة على نفسها، كذنب غير مغفور امام مجزوءٍ من الابيض المتوسط، ضامرٍ، وضعيف السمك. ثمة شعر هناك، وثمة فتية آمنوا بالكتابة والنشيد، يمشون الى القصيدة كما لو انها خلاص العالم، وخلاصهم الذاتيّ، إنهم جيل من الشعراء، يتحرّكون على اعتاب الثلاثينات، ويرهصون بالأجمل والأنقى، ألهذا لا يذهبون الى البحر، مخافة ان يروا البحر الغائب، أو يواجهوا الهشاشة التي يحاربون، فتساءل احدهم: "من سيقطع رأس البحر"، مذكّراً بمقولة "مَن يعلّق الجرس؟". غزة هذه، وشقيقاتها النادبات من المدن، ثمة شعر فيها، وثمة اصوات، من بعيد، منذ سنوات، منذ ما قبل الحجارة وانتفاضاتها، منذ تفتّح الحاجة، واكتشاف الخطأ، مذ ذاك وهمً يلثغون بالمواويل في تمارين صوتية، ويجترحون لدفاترهم لغة لا تتضافر مع السائد العام، لغة تتعدّد بهم، تشفُّ، وتبرق بآتي الأغاني، ويفلقون الوقت قصائد واحلاماً، وهم ينسلون خيوط الضوء، من قميص العتمة الواضح. من خلالهم، وعلى مدى أسابيع، عرفتُ وجه غزة، وتضاريسها العميقة الموجعة، وعرفتُ فيها وجهي، عرفت الشوارع المسفلتة، وأزقّة المخيمات، الاكثر بؤساً في العالم، التي بالكاد تأخذ حصّتها من الهواء، كما عرفت البرَّ، وحقول اللوز الاخضر، ووقفنا على الاسلاك الشائكة، مطلّين على الجزء المحتل من فلسطين، حيث زفرنا الصمت والمرارة. بهذه المختارات، أريد ان احيّي هؤلاء الشعراء الجميلين، الواقفين في الألم، عبر تقديمهم للقارىء العربيّ، فهم باختلاف ادواتهم الجمالية، يجهدون جادّين في رسم بداية ما، لانعطافة مختلفة في التجربة الشعرية في الارض المحتلة، وهم: - باسم النبريص، اصدر عمله الاول "تأملات الولد الصعلوك" عام 1990. - عثمان حسين، له: "البحّار يعتذر عن الغرق" - 1993، و"من سيقطع رأس البحر" - 1996. - خالد جمعة، أصدر بالاشتراك مع عثمان حسين ديوان "رفح.. أبجدية ومسافة وذاكرة" - 1992، ويتهيأ لاصدار عمل جديد بعنوان "نصوص لا علاقة لها بالامر". - صباح القلازين، صوت نسائي شاب، أصدرت مطلع العام مجموعتها الاولى: "اعترافات متوهجة" في غزة. 1- توطئة لَغَمٌ على كفّيكَ يُنبىءُ كلّما منهُ اقتربتُ بأنه سيثورُ ويَذوبُ لوحُ الثلج فوق أصابعي ويطيرُ منْ كُمِّ المدى عُصفورُ 2- أمام عينيك لا يحضرني غيرُ الشِعْرِ، وغيرُ الوردِ، / وأنتَ أمامي لكنّ، آهٍ، في عينيكَ أضعتُ الشعرَ، أضعتُ الوردَ، وطارَ بعيداً كلُّ كلامي. صباح القلازين 1- هذيان حزنٌ ثقيلٌ، مغمضُ العينين، أعمى، يستبيحُ القلبَ في وسط الطريق، ويستفزّ الدمع، يوشك ان يدثّرني برعْشاتِ البكاء، انا المضيَّع والمحاصر والمطارد، غايتي قبر، وأمنيتي السلامة والهدوء المستحيل بجنب بيتٍ.. ايها الرب الكبير القادر القدّوس، إني استخيرُكَ في الرحيل، وفي الوصول الى الحقيقة: جوهر الاشياء. ما بين انتظاري للإشارة، واحتضاري دونها، عانيتُ موتاً واغتراباً، قلّة في الحظ، شوقاً للبديل الواعد الموعود. اكتبُ غُربتي وضياع عمري، أختفي في الريح والطُرقات، والمطر المباغت، أرتجي يوماً، سويعاتٍ محمّلة بوعد الدفء، دفء الوعد، وجه الاصدقاء الغائبين المُتعبين اليائسين، حلمت بالوطن البعيد، وكنت أوشك ان أطال ترابه الذهبيّ، لكني هنا استيقظت، ضاقَ تنفّسي واسودَّ في وجهي المكان، فقمت، أهذي حائراً بين الحقيقة والمنام، تضخّم الكابوس حتى صارَ جزءاً من وجودي. ايها الرب الكبير القادر القدّوس، منذا يحتفي بالنار في ليل الصقيع، تعادل الميزان، واعتدل المزاج المستثار، فقمتُ أسعى في مناكبها التي ضاقت وضاقت، لم يخُفني ان أرى الانسان ذئباً مرةً، كلباً وتنيناً وخنزيراً، ولكن الذي أعيا مخيلتي، وآلمني وأرعبني هو الفوضى، وهذا الانفلات التام من كل الاصول، فكفّ عنّي، ليتني ذئباً انا الآخر، كلب، أو حَصَى.. ما هذه الدنيا تليقُ بعبدِكَ المفجوع في أحلامه، ونقائه: الوجع الملازم.. في زمان الزيف والمنفى، بكيتُ وأغرق الدمع الخدود، ولم أُدارِ صدمتي، ونفادَ صبري.. ايها الربّ الكبير القادر القدّوس، اني موغلٌ في الذنبِ، لكن ايّ ذلٍ مثل هذا الذل يعرفه الأناس الآخرون، وأي عار مثل عاري، يا رحيماً في النهاية، انني أستلّ حُزني القاتل المقتول، ابدأ في انتحاري، معلناً ان الحياة الصعبة السوداء ليست غايتي ابداً، ولا ليست شعاري. 2- مراقبة يجلسُ في الشرفةْ كلَّ صباح، يجلسُ في الشرفَةْ يشربُ قهوَتَهُ، ويطالعُ صُحُفَهْ يغفو، يأخذهُ سِنَةُ نُعاسْ توقظُهُ شمسُ ظهيرةِ إبريلْ يستيقظُ دونَ حماسْ يندهشُ قليلاً / يرتابُ قليلاً ينهضُ مُرتعشَ القدمينِ، كَليلا يُقفلُ شُرفتهُ ويغيبْ وأظلُّ أنا في نفسِ الوقفةِ مذهولا أشربُ قهوتي المرّةْ وأنامُ وتبقى الحسرةْ سيدة الكونِ الأولى سيّدة دونَ حسيبٍ ورقيبْ! باسم النبريص 1- علّقي على جدار الجسد ما تشائين من وصف البنفسج أُدوّنُ ثلاثينَ خريفاً ثلاثينَ غيمةً، أُدوّن الساعاتِ أو سذاجةَ الماءِ، في كرَّاسةِ المذابحْ! من سيفقأُ عينَ الوقتِ، ويبحثُ عن خاتمِ الذكورةِ خلفَ الجنودْ؟ مَنْ سيطرّقُ جُدران البحرِ، وبواباتِ الكتبْ؟ أعرفُ أنكِ حبيبتي كذلك، لا أصدّقُ رقصةَ الزلزالِ، وحينَ تُلاحقينني أبعثرُ الجسد المُهيّأَ لنصفِ حكايةٍ أداعبُ لغة الشوارعِ التعبةِ، أصطادُ مفردةً قرمزيةً من قاموسٍ مُلقىً بعدَ انحناءةٍ قصيرةٍ من جنونكِ وكم أعرفُ أنكِ حبيبتي أنني متى شئتُ بكيتْ هكذا أبدو للاصدقاءِ المربتينَ على كتفيَّ اذين يكنسون أوساخَ المراحل عن عتباتِ الفصول ويلبسونَ حرارة الثلاثينَ يم ينهشونَ الصدقَ من بين أصابع المساء قلتُ: كيف أحتمل جرأة الليل؟ من سيربطُ ضُعف المدينةِ بجدائلي؟ الصُبحُ دجّالٌ عريقْ! 2- مقاطع من رفح على شَفا دولةٍ كان يمشي قصيّاً /كنهرٍ تمادى كان يمشي ويرفعُ ليلً البلادِ، التي أوشكتْ كان لونُ النوافذِ لا يحتمي بالصبايا حين يُقسمنَ ان السماءَ استبدّتْ كثيراً بأشواقهنَّ يمشي على حدِّ ريحٍ / تُجيدُ العَواءَ ولا تكتفي بالثياب التي أشهرتْ صمتَها فوقَ ساقٍ، تُراوغُ ظلَّ الجسدْ. *** الازقّةُ سياطُ المخيّمْ كلما مرَّ جنديٌّ عليها أوشكتْ ان تخيط الهواءْ. الريح تتعرّى جملةً جملةً تسقطُ عن صدرها الكلامُ وتمضي / كبغلٍ مُعافى. عثمان حسين مقاطع من أبجدية ومسافة وذاكرة تعثّرتْ قيامةُ العشقِ ، بعمقِ هذا الليلْ والكتابةُ تقرشُني الكتابةُ تفركني بمساحةٍ بيضاءْ الكتابةُ بطنٌ مزدحمٌ بالقلقْ الكتابةُ فتحٌ رائعٌ للموتْ الكتابةُ قانونُ اللاقانونْ الكتابةُ حذاءٌ مهملٌ عند حافةِ النهر الضحل الكتابةُ رثاءٌ وحيدٌ لمن لا رثاءَ لهم الكتابةُ وسامٌ كفيفٌ يلدغُ الأصابعَ الكتابةُ جَرَبٌ مبهمٌ يحلو له المجيءُ والكتابةُ صفرٌ مدوَّر في عينِ الوقتْ أما الكتابةُ.. فالتهامُ الناسِ دونَ الشعورِ بمرارةِ لحمِهمْ. *** تمنّيتُ حينَ شقّني الشتاءُ ان أصبَّ مفارقَ النجمِ على كفِّ بريقٍ جائعٍ للظلامْ لكنَّ الصيفَ تأخرَ، وانتعشتْ ثعابينُ القلقْ. خالد جمعة التقديم والاختيار: محمد القيسي