ما زلنا نناقش قراراً بعقد القمة العربية لا يريد أن يصدر، ولا يبدو أنه سيصدر قريبا. وقد تجاوز المتناقشون مرحلة التحاور بالأيديولوجية، ليس لأنهم اكتشفوا أن الايديولوجية عار أو ملهاة. ولكن لأنهم أدركوا أن قرنين من محاولة النهوض، منهما قرن من الصمود ضد محاولات دول غربية والصهيونية العالمية فرض الهيمنة وتهويد فلسطين يوشكان على الانتهاء. ولم تنهض دولة عربية واحدة إلى الحد الذي يبرهن بالاستثناء على أن العجز عن النهوض ليس لصيقاً بخصال العرب ولا هو نتيجة مؤامرة ضد العرب. يدرك العقلاء أن يوميات السياسة وليس الأيديولوجية أو الأيديولوجيات السائدة هي العقبة، وعند هذه اليوميات يوجد التفسير. واليوميات في عالمنا العربي لا تصنعها مؤسسات ولا أفكار ولا خطط وإنما أفراد. فالمؤسسات قائمة، بل زادت وانتشرت الى حد لم نعد نعرف عنده الحدود الفاصلة بين مؤسسة وأخرى، والى حد اختلط عنده واحتار فهمنا لأدوارها ومهامها ودوافع وظروف نشأتها. أكثرها ينشأ لأسباب غير مفهومة أو لضغوط غير معروفة، وفي أحيان غير داخلية. والأفكار تعمقت ونضجت واتسعت الرؤى عند الذين يكتبون وأكثر عند الذين يتحدثون عبر الفضاء إلى مشاهدين ومستمعين. بمعنى آخر اتسعت الرقعة العربية التي تسمح بتداول الأفكار. ولا يقلل من شأن وأهمية اتساع هذه الرقعة أن معظم أفكار الفضائيات ما زال يتعلق بشؤون الغير. أي بشؤون "بقية" العرب أو "الأشقاء" العرب. والقليل أو النادر منها يناقش بموضوعية شؤون بلد الإرسال. ولذلك لم يصنع انتشار الأفكار ونضوجها نسيجاً متكاملاً. دائماً توجد ثغرة، ودائماً يشعر الانسان العربي أنه محروم من المعلومة الصحيحة والدقيقة، ودائماً يبذل جهداً لا يبذله مشاهد آخر في ركن آخر من العالم في محاولة لتخمين الحقيقة وراء النبأ والتصريح، وفي محاولة يثبت لنفسه من خلالها أنه ليس غبياً كما تظن أو تتصرف غالبية الأجهزة الاعلامية العربية. أما الخطط فهي أيضا متوافرة. ففي أنحاء العالم العربي نشأت طبقة بيروقراطية اشتغلت بالعمل الأكاديمي، أجادت فنون وضع الخطط. انتشرت مراكز البحوث، خصوصاً تلك التي اختارت اضافة وصف الاستراتيجي الى عنوانها ونوعية نشاطها. ولكن كأي بيروقراطية اخرى، صارت هذه الفئة الأكاديمية تتغذى على ما تقدمه ولا يقرأه المسؤولون. واستمرت الفجوة متسعة بين من يقرأ الكتب والدوريات ومن يقرأ الوثائق والمكاتبات والكتابات الرسمية. الأول يعتقد أن الثاني في حاجة الى تنمية قدراته على التحليل وتوسيع مداركه المنهجية، والثاني يعتقد أن الأول لا يحلل بموضوعية وقدرته محدودة لأنه لم يطلع على المعلومات السرية التي اطلع عليها البيروقراطي السياسي. ما لا يعرفه البيروقراطي السياسي وقد لا يعرفه البيروقراطي الاكاديمي، هو أن الخطط التي يضعونها لا تحمل في معظم الأحيان الى صانع السياسة والقرار الذي يقرر مثلا موقف بلاده من عقد قمة أو عدم عقدها. فالبيروقراطي يعمل في مؤسسة، وواجب المؤسسات أن تتواصل أفقياً مع مثيلاتها في الدول الأجنبية، ورأسياً مع بقية المؤسسات المتخصصة في داخل الدولة. لكن ما يحدث في الواقع هو أن أموراً بعينها يسمح بمناقشتها عبر مؤسسات، وأموراً أخرى هي من اختصاص فرد أو أفراد، أما المؤسسات الأكاديمية، خصوصاً الاستراتيجية، فجُزُر منعزلة. وهنا يكمن الخطر الذي أردنا أن ننبه اليه ونحذر في بداية المقال. إن المؤسسات البيروقراطية - على رغم كل تعقيداتها ومشكلاتها - تقوم بدور "المصفاة" للرسائل المتبادلة بين الدول قبل ان يتلقاها الرجل الفرد الذي يصنع السياسة أو القرار، وغياب هذه المؤسسات أو عجزها يحرم صانع القرار من هذا الدور المهم المُلقى على عاتق المؤسسات. فالرسائل الخارجية تكون دائماً محملة بأثقال هائلة من الايماءات والاغراءات والتهديدات والضغوط، ولا تختلف الرسائل المتبادلة بين الدول الصغرى والرسائل الموجهة من الدول الكبرى الى الدول الصغرى اختلافات كبيرة. فقد تحمل رسالة من مسؤول في دولة صغرى الى مسؤول آخر في دولة صغرى أخرى تهديدات لا تقل خطورة عن رسالة من مسؤول في مؤسسة في دولة كبرى، كالخارجية مثلا أو مؤسسة دولية كصندوق النقد الدولي، إلى مسؤول في دولة صغرى. وإذا لم تخفف هذه الرسائل من أثقالها وتصفّ، ففي الغالب سيصدر القرار السياسي في ظل انفعال أو خوف أو غضب. وكلها أحاسيس طبيعية وإنسانية لكنها خطيرة. ومن أجل التخفيف من آثارها على صنع القرار السياسي، اخترعت المؤسسات. وقد تكون الرسائل إعلامية، وقد تكون استخباراتية، وقد تأتي عن طريق ملتوية أو غير مباشرة. وقد يحصل المضمون متكرراً في صورة متعددة فتتأكد لدى صانع القرار جديته وأهميته، وبالتالي يزداد اقتناعه بخطورة عدم الاستجابة. يسود بعض عواصم العالم النامي شعور متزايد لدى أفراد في الحكم، وبالتحديد على قمة الحكم، أنهم مهددون بالاقتلاع، ويزداد الامر خطورة إذا أخذنا في الاعتبار عوامل أخرى عبر الرسائل الرسمية المباشرة وغير المباشرة التي تصل الى شخص الفرد الحاكم أو الافراد في الحكم. تشكل كل هذه العوامل البيئة السياسية - الاجتماعية - الثقافية التي تضغط بدورها على عملية صنع السياسة والقرار في دول العالم العربي. وتتصدر هذه الحزمة، أو هذه البيئة، عوامل خمسة، على الأقل. فمن ناحية تضغط تكنولوجيا الاتصال والمعلومات بكل قسوة على عملية صنع القرار، إذ أدت الى اتساع الفجوة بين مجتمع تنفتح أبواب ونوافذ فيه كما لم تفتح أو تنفتح في كل تاريخه، ومع ذلك تظل عملية صنع القرار السياسي أسيرة نظام محكم الانغلاق متجاهلة كل هذه الانفتاحات وكأنها غير موجودة، ما يجعل القرار الصادر غير مناسب للواقع، أو يجعله قصير العمر. من ناحية ثانية لم يعد الغزو الثقافي قضية يبحثها اكاديميون ومثقفون باعتباره خياراً يمكن صده نهائياً. فالثقافة الوافدة - وأقصد الثقافة بمعناها الواسع ابتداء بجوهر الثقافة مثل القيم والعقائد وانتهاء بتوافه الثقافة مثل مشروبات الكولا وموسيقى البوب وشطائر ماكدونالد - لا تنتظر إذناً أو ترخيصا ولا تعرف حدودا سياسية ولا تأبه بحملات اعلامية متناثرة تشن لمقاومتها وصدها. لكن الصدام لا يتوقف عند شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد وخطب الوعظ وأحاديث الندوات والمؤتمرات. فالصدام امتد الى داخل قصور الحكم ذاتها، وداخل النخب الحاكمة نفسها، وفي حالات كثيرة، لم تعد من الأسرار، يضغط الأبناء والاحفاد وذوو القربى من الشباب المتأثرين بالثقافة الوافدة أو الغازية على الأجداد والآباء صانعي القرار والسياسة، لاتخاذ قرارات وسياسات أكثر انسجاماً مع جوانب الثقافة العالمية الجديدة، بما فيها جوانبها السياسية. من ناحية ثالثة. نحن كأفراد أصبح اكثرنا يعاني من اعراض لم يتعرض لها السابقون، نحن نعيش مستقبلا مفروضاً على حاضرنا وضاغطاً بكل قسوة على ماضينا. وقد لا يكون هذا المقال المجال المناسب لطرح هذا الموضوع بالتفصيل المناسب، ولكن يعنينا منه آثاره المباشرة على عملية صنع القرار السياسي. فقد عرفتُ ان مسؤولين كبارا من واشنطن، باعتبارها العاصمة الاميركية، وكذلك باعتبارها مقر صندوق النقد، ومن باريس ومن جاكرتا وكوالالمبور، ومن كمبالا وموسكو، حملوا رسائل الى رجال حكم عرب وغير عرب معظم ما فيها من تحليلات وتوقعات يستند الى ان التطورات المالية والاقتصادية والسياسية التي تحدث هذه الايام على مستوى الكون هي خطوط مشروع هندسة مستقبلية بدأ تنفيذه. ولا يخفى ان رجال الحكم في بعض الدول يتحدثون عندما يجتمعون عن السقوط في موسكو والانهيار في آسيا والانخفاض في أسعار النفط واستمرار حصار العراق وايران وليبيا والسكوت عن ازدياد التطرف في اسرائيل كحلقات منسجمة - أي غير متناقضة ولا متنافرة - في سلسلة واحدة وليس في مخطط او مؤامرة كما يزعم البعض. وهو تحليل يثير قلقاً اكبر، وبالتالي فإنه يؤثر بشدة في عملية صنع القرار السياسي. من ناحية رابعة: لن يكون العربُ، دولاً وحكاماً، أكثر إدراكاً ومعرفة بالتطورات الحادثة في الخريطة السياسية داخل مجتمعاتهم من دول وحكام آسيا وبالنسبة لمجتمعاتهم، ولذلك لن يكونوا اقل قلقاً وأرقاً. في كل المجتمعات يحيط الغموض بكل التطورات والتغيرات، فالغموض يلف التحولات الحادثة داخل طوائف المجتمع وفي ما بينها، ويفرض عشرات الاسئلة المتعلقة بطبيعة التطورات في النظام الطبقي، خصوصاً داخل الطبقة الوسطى التي تتحمل معظم عبء العولمة الثقافية والاقتصادية. وتتحمل في الوقت نفسه مسؤولية ترشيد هذه العولمة في اطارها المحلي والاقليمي. هذه الطبقة، باعتبارها الطبقة الأقرب والأكثر تأثيرا بعملية صنع القرار السياسي وتأثيرا فيها، فقدت هويتها في معظم الدول النامية تماماً كما تفقد حاليا الطبقة العاملة هويتها في الدول الأعظم والأقوى تكنولوجياً واقتصادياً. وحين تفقد الطبقة الوسطى هويتها يتعرض المجتمع "الحديث" او الساعي الى التحديث الى الارتباك والفوضى. الطبقة الوسطى هي بوصلة اي مجتمع، واذا غابت او ضعفت او ترهلت، عاد هذا العبء - عبء توجيه المجتمع - ليقع على عاتق صانع السياسة والقرار، وسيكون عبئاً ثقيلاً وبخاصة في غياب المؤسسات العصرية التي لم تقم بعد، أو قامت شكلاً وتجمدت فعلاً، وفي غياب المؤسسات التقليدية التي انفرطت او ضعفت تحت ضغط "العولمة" أو القمع أو "تأميم" المجتمع، ثم خصخصته تجارياً. من ناحية خامسة واخيرة، تعيش عملية صنع القرار والسياسة مرحلة ازدادت فيها أهمية المؤسسات الدولية على حساب الدول. بمعنى آخر أصبح على الدول الصغيرة أو المتوسطة، أو حتى الكبرى مثل روسيا، ان تتعلم وبسرعة قواعد التعامل مع المؤسسات الدولية التي تضغط محتمية بالدولة الأعظم أو بمجموعة الدول الأغنى. وأن تتعلم في الوقت نفسه التعامل مع الدولة الأعظم المتخفية أحيانا وراء مؤسسات دولية. هذه المؤسسات ليست جديدة على النظام الدولي. وقد اهتم علم العلاقات الدولية بدور وسياسات هذه المنظمات والمؤسسات الدولية، ووضع القانون الدولي قواعد وأعرافاً تحكم العلاقات بين الدول كوحدات مستقلة ذات سيادة وبين هذه المؤسسات كوحدات متعددة الأطراف في النظام الدولي. لكن الجديد في الموضوع ان بعض القواعد تغير، وجاء التغيير على حساب استقلالية الدول وسيادتها، ولمصلحة الدولة الأعظم المهيمنة وحدها، أو مع دول غنية أخرى. وجاء كذلك يحقق اهدافاً مضاعفة للدولة الأعظم المهيمنة ليس فقط من واقع وضعها المتميز والمتفوق عسكريا او اقتصاديا ولكن ايضا من واقع استخدامها "الشرعية الدولية" التي كانت تساوي في التعريف مفهوم "الشرعية الامبراطورية". * كاتب مصري.