الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات خواطر وذكريات . كنت رئيس تحرير "الرأي العام" وموزعها ومحصل مبيعاتها وفي لبنان كنت سفير المغرب للقضية العربية والثورة الفلسطينية 2
نشر في الحياة يوم 11 - 08 - 1998

الحق أنني بعد المعركة الأولى التي اندفعت إلى أتونها منذ طفولتي، وبعد الاستقلال، لم يكن لدي تصور محدد ومرسوم لما ينبغي على أن أفعله وأقوم به بقية حياتي، فحينما حصل المغرب على استقلاله كان عمري 36 سنة، كنت متزوجا وأبا لطفلين وبنت: خديجة، ومالك الذي توفي رحمه الله في تلك السنة، ومحمد، لم أكن أتقن مهنة ولا منخرطا في وظيفة وإن كنت قد مارست التعليم واستاذا ومديرا لمدرسة في نطاق الكفاح وليس كمهنة أو مصدر للعيش. أما الصحافة فلم أمارسها هي الأخرى كعمل أو وظيفة، ولكن كساحة جهاد ومنبر توجيه وتعبئة، ومنصة أعتليها للدفاع عن المبادىء التي آمنت بها والاختيار الذي عانقته، وسواء في التعليم أو الصحافة فقد أنفقت عليهما أكثر مما كنت أكسبه منهما.
لم يكن لي بيت أملكه، ولا ثروة آلت أو ستؤول إلي من عائلتي، ولم يكن لي تجارة أو خبرة بشؤونها، ولو كنت أملك ذهب الدنيا لأنفقته على معركة استقلال بلدي غير آسف ولا نادم ولطالما ضننت على أهلي ونفسي بدريهمات أصرفها للحزب أو الجريدة أو عائلة مناضل مغيب في السجون.
واخترت الحزب الذي اختار الطريق الصعب وجاهر بالحق ودافع عن كل ما يراه حقا في ظروف كان فيها الحق في نظر الكثيرين هو أن يصمت فيها كل صوت يعلو فوق صوت الحزب الوحيد والرأي الوحيد. وكنت داخل قيادة الحزب الذي اخترته الوحيد المتفرغ للعمل السياسي، لم تكن لي وظيفة ولا تجارة، ولا مصدر أعيش منه، فالعمل الحزبي هو يومي وليلي، كان كل زملائي في القيادة لهم شؤون أخرى يتدبرونها ويصرفون جزءا من وقتهم وجهدهم لها: الأخ عبدالهادي بوطالب كان استاذا بالمدرسة المولوية، المرحوم عبدالقادر بنجلون كان محاميا، الأخ الشرقاوي له فلاحته التي تأخذ حيزا هاما من وقته ومتابعته واشرافه، الحاج أحمد معنينو مهتم بمدرسته، الأخ التهامي الوزاني منكب على ملفات القضايا في مكتبه. وكان عملي الوحيد هو الحزب، من الصباح إلى الليل، تركت عائلتي وأهلي وانقطعت عن متابعة أي اختيار يؤدي بي إلى أن أكون مثل الآخرين محاميا أو فلاحا أو تاجرا أو استاذا، وقد أهلتني دراستي أن اختط لي طريقا كعالم أو باحث أتدرج في مسالك العلم استاذا أو مؤلفا في القرويين أو الجامعة، ولكن شيئا من هذا لم يكن يشغلني أو يغريني، فالعمل السياسي النضالي الحزبي كان هو حياتي، أجد فيه نفسي وراحتي وألبي به طبيعة نشأت عليها: أن أكون بين الناس يفزعون إليّ بهمومهم فأنصت وأشاركهم وأخفف عنهم، أن أجد نفسي في كل لحظة مشاركا في بلورة فكرة أو انبثاق أخرى، ساهرا على تنفيذ أمر وقع الاتفاق عليه، لا أضجر ولا يعتريني قنوط أو ضيق من تعثر عمل ما فأنا منشغل به وراءه حتى ينتهي وتتحقق البغية منه.
وكنت عماد جريدة "الرأي العام" منذ نشأتها، قامت واستمرت وانتشرت بجهدي وتفرغي، كنت أحررها، وأسهر على طبعها وأتابع نشرها وتوزيعها، وسىأتي في مكان آخر الحديث عن الرأي العام، عن هذه المعلمة النضالية والصحفية والأدبية في تاريخ المغرب قبل الاستقلال، وبعده، ولكنني هنا، بصدد سرد ما يتعلق بتلك الوضعية التي عشتها كمناضل متفرغ، فجريدة "الرأي العام" كان لها انتشار واسع، وكنت إلى جانب التحرير والوقوف بالمطبعة على كل صغيرة وكبيرة حتى يتم توضيب كل الصفحات بالشكل الذي ارتاح له، أقوم بعمل ادارة بكاملها، من المدير إلى المحاسب إلى محصل المبيعات. ففي كل شهر كنت أقوم بجولة في المدن للاتصال بالمسؤولين عن توزيع الجريدة وبيعها، وأغلبهم كانوا مسؤولين حزبيين، لم تكن عندي سيارة خاصة بطبيعة الحال، فكانت وسيلة التنقل شركة الحافلات "الستيام"، وعندما أصل إلى مدينة ما فإن الفندق الذي اقيم فيه هو بيت المسؤول عن توزيع الجريدة، وكان عليه، إذا أراد أن يكون ضيفه خفيفا وظريفا أن يسرع بسداد ما بذمته من محصول، مثبتا بالمرجوعات، إذا كانت هناك مرجوعات، كمية الاعداد التي باعها، فأسلمه وصلا يثبت سلامة ذمته، واجمع الايراد معدا ومرتبا أوراقا وقطعا نقدية في محفظة كانت بنكا وخزانة طعام ولباس في نفس الوقت! وكنت إلى جانب هذه المهمة أعقد الاتصالات مع المناضلين وأتعرف على قضايا الحزب وأبلغ ما ينبغي من تعليمات ثم أقفل راجعا إلى مقر الجريدة.
ولكن بعضهم وقد رأى ما للجريدة من انتشار، اعتقد أن احمد بن سودة قد اكتشف كنزا فهو يستفيد منه وحده، وصلتني أًصداء ما يقال فلم أعر للأمر اهتماما، وتحت ضغط المتشككين والغامزين تقرر أن يكون للجريدة مسؤول اداري ومالي يشرف على هذا الامر و "يضبط" الحسابات ويضمن سلامتها، وهكذا عين السيد الشرايبي مسؤولا اداريا وماليا، فعقد معي جلسة سلمته اثناءها الكنانيش والدفاتر المالية، جلس بالمكتب، ووضع على بابه ساعيا ينقر عليه الباب قبل الدخول ويعد له كأس الشاي، وانصرفت إلى عملي مطمئنا راجيا له التوفيق. فأخذ يبحث، وينظم ويضبط ويحسب، وذات يوم طلب عقد اجتماع لقيادة الحزب ليدلي بما توفر لديه من معلومات وأسرار. وفي الاجتماع قال:
أستأذنكم في العودة إلى عملي، فالرأي العام هي أحمد بن سودة، وابن سودة هو الرأي العام.
وشرح لهم الأمر:
إن أحمد بن سودة هو المدير والمحصل المالي والمحاسب وهوالذي يعرف كيف يستوفي حقوق الجريدة من المسؤولين عن بيعها، وخلال هذه المدة التي أشرفت فيها على هذه المهمة وجدت صعوبة كبيرة في الاتصال بأولئك المسؤولين، إن طريقة المكاتبة معهم لا تجدي، والأفضل أن يعود أخونا أحمد بن سودة لمهمته كما كان!.
تجربة علمتني الصبر والأناة
إن انقطاعي للنضال الوطني قبل الاستقلال أكسبني تجربة لا يتيسر الحصول عليها في أي مجال من مجالات العمل أو الممارسة، وهذه التجربة كانت لي خير معين فيما تحملته من مسؤوليات أو كلفت به من أعمال منذ الاستقلال إلى الآن. فتجربة النضال علمتني الصبر، والأناة، وكبحت جماح كل غضب أو انفعال أو تصرف غير محسوب، كما أن تلك التجربة علمتني أن كل شيء سواء كان كبيرا أو صغيرا خطيرا أو هينا على المرء أن يواجهه بكامل اليقظة والتبصر والاهتمام، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بمصير أو حياة أو مصلحة فرد أو مجموعة أفراد، وبسبب الاحتكاك اليومي المستمر بالناس في ظروف الشدة أو ظروف الانفراج فقد انضمت الى حواس السمع والبصر والاحساس عندي، حاسة أخرى أتعرف بها، ولا تخطىء، على ما يحمله كلام الناس أو سلوكهم أو تصرفاتهم من صدق أو افتراء، من حقيقة أو ادعاء، فالكذب أسوأ وأرذل صفة من الصفات المذمومة، ليست هناك كذبة صغيرة وأخرى كبيرة، فالكذب نقيض الايمان، والنضال الوطني الذي نسج وكيّف أخلاقنا استكبر الكذب وعدّه نقصا ومثلبة لا يجوز للمناضل أبدا أن يتصف سلوكه بهما. كذلك علمتني تجربة النضال الانضباط في العمل. والعلاقات والوعود والمواعيد، وعلمتني الاعتماد على النفس، فكل شيء ينبغي عليّ أن أحمل نفسي للتعرف عليه عن كثب، ولم يكن هذا يعني عدم الثقة بالآخرين، ولكن مشاركتهم لي ومشاركتي معهم في كل عمل لتوفير أقصى الضمانات بنجاحه، ومن هذا المفهوم ارى قيمة وأهمية وايجابية العمل الجماعي، فهو عمل يجب أن تنكسر ازاءه قواعد وضوابط "التسلسل الاداري" بالنسبة لمن يقود هذا العمل ويوجهه ويشرف عليه.
دخلت إذا المرحلة الثانية من عمري وحياتي الوطنية، وأنا مجرد من أي عمل، ولا وظيفة ولا مال ولا مهنة، وأنا في عنفوان شبابي وقوتي الجسدية ودفق حيوتي، ولكنني مسلح بقوة لا تقهر قوة الايمان، والتجربة، والثقة، والسعادة، بأن حييت وعشت وخرجت من ظلام السجون وعواصف المخاطر لأرى بلادي حرة كريمة وقد حقق شعبي ما كان يطمح إليه وما كنا نعده به ونزرع في قلبه الثقة بتحقيقه.
ومن وزير، إلى عامل، إلى مدير للاذاعة والتلفزة ،إلى سفير، إلى مستشار لجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله.
في سنة 1963 عند أول محاولة لكتابة المذكرات، إلى سنة 1987 حيث، بعد التوكل على الله، عزمت وشرعت في تحريرها، كانت قد مضت على التجربة الاولى أربع وعشرون سنة.
ومن عامل اقليم الرباط إلى مدير عام للاذاعة والتلفزة حيث ألتقي مرة اخرى مع القلم والكلمة، مع الخبر والتعليق، مع الأدب والفن، من الصحافة المكتوبة الى الاعلام المسموع، من الجريدة التي تطبع في أوراق، وتجمع رزما محسوبة وتنقل باليد إلى الحافلة ومن الحافلة إلى الموزعين... ومنهم إلى من يجد الوقت لاقتنائها وقراءتها، إلى الكلمة يحملها الأثير فتقتحم على كل واحد بيته أو مكان عمله عاملا كان أو موظفا أو فلاحا أو تاجرا، تصله الكلمة في يسر لا يبذل من اجل اقتنائها عناء، فهي تنقل له الخبر، والحديث الأدبي والسياسي والرياضي والعلمي، وتطربه أغنية يصاحبها لحن موسيقي. ومع الكلمة المسموعة كانت الصورة المرئية، والشاشة المخيفة والخطيرة والمفيدة. ها أنا ذا أخوض تجربة عليّ أن أتكيف معها من جهة وأكيفها من جهة ثانية. ولن يرحم أحد فشلي، ولن يغفر أحد لي إن لم اطبع هذا الجهاز بطابع يميز مرحلتي عن ما سبقتها أو ما ستتلوها، وهكذا خضت التجربة بكل ما أملك من جهد ووقت وعناء وصبر ومعاناة. وخلال مدة ادارتي للاذاعة والتلفزة لم أكتب سطرا واحدا في مذكراتي.
على موعد مع الكارثة في لبنان
ويعينني جلالة الملك حفظه الله سفيرا في لبنان، وتعاودني همة التفكير في كتابة المذكرات، وكنت أعتقد أن مهمة السفارة في لبنان لن تأخذ مني وقتا كبيرا، وأن الأمر سيقتصر على تصريف شؤون سفارة لا يتعدى عدد موظفيها عدد مصلحة واحدة من مصالح عمالة اقليم الرباط أو الاذاعة والتلفزة، ومع تصريف تلك الشؤون هناك والاتصالات والعلاقات وما تفرضه مسؤولية تمثيل بلدي من تحرك، وحينما كنت أتهيأ لتخصيص وقت أملي فيه على الكتبة فصولا من مذكراتي وجدت نفسي أرجىء التنفيذ من يوم لآخر. ومن أسبوع لأسبوع. ومرت بضعة أشهر على هذا الوضع وحلت كارثة الخامس من حزيران يونيه 1967، الكارثة التي حملت عدة اسماء: النكسة، الهزيمة، ولكن الوجوه العربية كانت تحمل اسمها الأكثر دلالة على فظاعتها، وفي لبنان كان أثر تلك الهزيمة بحجم ما كانت تمثله لبنان من استقطاب لكل الهموم والآمال والتطلعات العربية، كانت لبنان في ذلك الوقت المرآة التي تعكس عليها خلجات الوجه العربي عبر صحافتها، ومنتدياتها ومنابرها، والحرية الحقيقية التي كانت سيدة الحياة السياسية في ذلك البلد الذي كانت تتعايش فيه المتناقضات العربية وتتوالد ايضا، واستحييت أن أدعو كاتبتي لأملي عليها مذكراتي. مذكرات تتحدث عن الماضي فيما الحاضر يحترق كغابة من الأخشاب اليابسة.
وانطلقت في عملي... وانغمرت في خضم القضية الفلسطينية التي برزت بعد النكسة لتمثل أمام العرب التحدي الذي عليهم أن يواجهوه لينتصروا على هزيمتهم الذاتية اذا أرادوا الانتصار على الهزائم التي يلحقها بهم عدوهم الرئيسي: الصهيونية المدعومة بالقوى الاستعمارية.
كانت القضية الفلسطينية قد طرقت بقوة بوابة الحضور المغربي، بدبلوماسيته، وتجربته النضالية، وسمعته الدولية، وغيرته القومية، وكل ما يتوفر عليه من وسائل وامكانيات، وكان لبنان مركز الانطلاق والتحرك عبر القضية الفلسطينية وفي صميمها.
وهكذا كنت في لبنان سفير المغرب للقضية العربية بجميع تشعباتها، والقضية الفلسطينية التي جعلت من لبنان مركز تحركها واشعاعها، ومرة اخرى لم يبق لي وقت لكتابة مذكراتي.
وعدت إلى المغرب من مهمتي في لبنان ولم أكتب سطرا واحدا.
وبعودتي، عادت الهمة مرة أخرى تستحثني على الكتابة، وكان الأصدقاء من المغاربة والعرب يلحون عليّ أن أنصرف إلى تحرير المذكرات، وبين الفينة والأخرى كان يقصدني هذا الطالب أو ذاك ممن اختاروا لأطروحاتهم قضية أو مرحلة للكفاح الوطني، يسألونني ويتقصون مني الأخبار والأسرار، وكنت أجيبهم إلى ما يطلبون، وأشعر في كل مرة أن تاريخ الكفاح الوطني لابد أن يكتب كاملا وسيوضع بين يدي شبابنا من الباحثين وبين يدي المؤرخين، وهي مهمة لا يعوضها حديث هنا وحديث هناك، وكان الصحفيون العرب يقصدونني بدورهم سائلين عن خفايا وأسرار القضية العربية وعن تجربتي في مجالاتها ودروبها.
وسنة بعد أخرى يصبح موضوع المذكرات عندي هاجسا يشكل ضغطا لا أستطيع الافلات منه.
جزارو التاريخ
ولكن الوازع اشتد عندي واصبح الدافع لا يقاوم أمام اجتياح كنت أراه يملأ الساحة بأحاديث وكتب وروايات عن تاريخ الحركة الوطنية، وحينما أقرأ ذلك أرى أن اغلبه صادر إما عن أناس يكتبون عن تاريخ لم يعيشوه أو يشاركوا في صنعه، وإما عن أناس آخرين امسكوا بعنق التاريخ يلوونه كما يفعل الجزار بالذبيحة حينما يريد اجتثاث رأسها للتمكن من سلخ جلدها، ليطوعوا التاريخ لهواهم، وليجعلوا من أنفسهم أبطالا، وليحرقوا البخور على نصب وزعامات وليغضوا الطرف عن زعماء ومناضلين ومقاومين شرفاء منحوا دمهم وحياتهم وشبابهم فداء للقضية المقدسة.
كان ذلك يحز في نفسي، ويغرس في صدري الخناجر الحادة، كيف يحدث هذا التطاول على تاريخ الحركة الوطنية أمام أعيننا. اللهم هذا منكر!. إن سكوتي وسكوت غيري أمام الافتراء والمزايدة يعتبر من قبيل "مؤامرة الصمت" أو هو استنكاف مخجل عن الادلاء بشهادة تبرئة لمتهم يواجه حكم الاعدام بجريمة لم يرتكبها ونحن نملك الحجة على اثبات براءته!
لذلك أصبح لزاما عليّ أن أتحدث... وأن أتحدى كل الصعاب، وقبل كل شيء أن أقرر أن ما من شيء يمكن أن يطيل عمر اليوم من 24 ساعة إلى ثلاثين ساعة، والوقت لا يرحم، والعمل والمسؤوليات قدر تعودت على تحمل تبعاته وما يفرضه من نظام على حياتي من الصباح إلى الليل.
عزمت واعتزمت وقررت لاسيما وقد ودعت إلى غير رجعة الحياة الحزبية، فعندما بلغت سن الأربعين طلقت تلك الحياة طلاقا بائنا، ورددت قوله تعالى: "إذا بلغ أشده وبلغ أربعين يوما..".
سأكتب للحقيقة... للتاريخ... للشعب، أدلي بشهادتي طاهرا طهورا، لن أكتب في حمأة حملة انتخابية... ولا طالبا لمجد أدبي أو سياسي. أو سمعة، أو منصب، فقد عرفت بفضل الله الكثير من المناصب السامية في ظل جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، وفي كنف وارث سره أمير المؤمنين جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله.
وهاهو عمري وأنا أكتب المذكرات يشرف على الثمانين، فما بقي من العمر أقل مما مضى. اقل كثيرا. كثيرا!
وبين التجربة الأولى وعمري 43 سنة، وعكوفي الآن على تحرير مذكراتي، مرحلة تغيرت فيها أشياء كثيرة، غابت وجوه من رفاقي وطواها الثرى، امتدت مساحة بلدي لتعانق حدودها التاريخية وحدود رسالتها وتربط من جديد ما انقطع أو وهن من حبال وخيوط مع شعوب وبلدان وحضارات، وتدفقت وتدافعت أجيال جديدة تبحث عن موقعها ودورها في المغرب المستقل، انتصرنا في معارك وبرزت في الساحة معارك جديدة، امتلأت الجامعات وتدلت من جوانبها قناديل مضيئة لعلماء وباحثين ومبدعين، هبت كل الرياح من كل اتجاه على المغرب وفتحت كل الأبواب. وتوارى شيئا فشيئا كآخر خيوط الشمس وهي تغوص كقرص ذهبي في زرقة المحيط، ذلك الوهج الذي كان ملتهبا في الصدور، متأججا ألا وهو لهيب الحزبية الضيقة المقيتة، فأصبح الحزب تنظيما بعد أن كان نظاما مسلحا، وغدا أفراد كل حزب منتخبين ومنتخبين كسرا ونصبا بعد أن كانوا مدججين بالأسلحة متربصين ببعضهم بعضا في رؤوس الأزقة وخفاياها.
الآن يمكنني أن أقول: لقد فعلت خيرا، أو فعلت بي الأقدار خيرا إذ لم اكتب مذكراتي سنة 1963. لو كنت كتبتها في ذلك الوقت، ولم يمض على انسحابي الارادي والطوعي من الحياة الحزبية والمعارك التي ترتفع زوابعها بسبب معقول وبغير سبب أحيانا إلا بضعة شهور، لجاءت اجزاء وفصول وأحكام في مذكراتي موسومة بالانحياز المطلق، فالمرء حتى لو ادعى القدرة على التحكم في عواطفه وتحكيم عقله، فإنه موضوعيا غير قادر على ذلك إلى أن يمر وقت يطفىء لهيب العاطفة أو يهدمها ليفسح المجال للحقيقة والتقييم الهادىء الرصين، "فالتقادم العاطفي" له في نظري القوة المعنويةالتي تفقد حجة الاتهام بالتحيز قوتها، تماما كما هو الشأن بالنسبة للتقادم في عرف قانون المتابعات والحق العام!
ولا أريد هنا أن أعمد إلى التورية عملا بمقولة "اللبيب بالاشارة يفهم"، لذلك سأشرح الموضوع بما يكفيه حقه من الوضوح والايضاح!
في سنة 1962 غادرت مسرح الحياة السياسية الحزبية، لم أعد منتميا لحزب ولا كان في نيتي أو خطتي أن آخذ فترة من الراحة أو التأمل استعدادا للعودة الى الحزب. أو تأسيس حزب، وكان قرار تلك المغادرة حاسما بالنسبة لي، قرار كمن يشق بدنه بمشرط حاد يريد سلخ جلده عن جسده، ولكنني وأنا أتخذ ذلك القرار وأنفذه، لم أكن تحت تأثير خيبة أمل كانت وليدة حادث واحد بحد ذاته، فلو كانت واحدة لحاصرت أثرها وطويت بالصبر والتسامح صفحتها، ولكنها كانت خيبات أمل متتابعة متلاحقة بلغت في مرحلة أوج ضغطها وكشفت لي بما لم يدع لي مجالا للشك أنني مخير بين أمرين:
الأمر الأول: أن أعيد النظر جذريا في تفكيري وقناعتي لأكون قادرا على تكييف نفسيتي، وتغيير لغتي وخطابي "لأنسجم" مع المتغيرات التي كانت تنبىء بقوة خفية، ولكنها مصممة، عن خط سياسي، يريد أن يحقق في عهد الاستقلال والحرية والديمقراطية ما عجز عن تحقيقه في عهد الكفاح الوطني، وهو خط الهيمنة السياسية الحزبية مضاف إليها دفع جديد قوي من الاديولوجيا المتجددة.
الأمر الثاني: ببساطة وبعفوية نضالية صادقة، واعية ومدركة لا مجال لاتهامها بالقصور الاديولوجي، على أن أبقى وأتشبث بثوابت ومرتكزات العقيدة الوطنية، بأهدافها ولغتها وخطابها ووسائل عملها. تحت ضوء الشمس!
لقد حققنا الاستقلال بكفاح مرير. وتضحيات جسيمة، وفي خضم معركة الكفاح التحرري كنت مع وإلى جانب الذين ربطوا كلمتي الاستقلال والديمقراطية ربطا جدليا، وكان صوتنا داخل معركة الكفاح الوطني متميزا، واضحا: الاستقلال في ظل الملكية الدستورية، ورضينا بالاضطهاد وتحملناه، وكنا واثقين أن صوتنا يتجاوب وينسجم مع ما كان يريده ويصرح به ويطمح إليه ويعمل من اجله قائد وموجه وروح معركة الكفاح الوطني جلالة الملك محمد الخامس رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد ست سنوات من الاستقلال وما تخللتها من أحداث وتطورات وتغيرات ستكون لي وقفة متأنية معها في مكان آخر، وجدت نفسي كمن يسبح وحده ضد التيار، ولم تكن المشكلة أو الازمة مشكلتي أو أزمتي، ذات طابع شخصي يتعلق بمصيري أو مكانتي أو بحساب الخسارة أو الربح، كانت المشكلة وتجلت امامي، تمس في الصميم الاختيار الذي إما أن يكون... أو لا أكون!
وضعت نفسي رهن جلالة الملك
عندما تولى جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله وأطال عمره قيادة البلاد والأمة، وهو المجاهد المقاوم وارث سر والده ورسالته، اعتقد بعضهم أن الفرصة قد سنحت ليخطوا للمغرب المصير الذي يحلمون به، وكان تحليلهم أن ينفضوا من حول الملك الشاب ويتركونه، كما توهموا، وحيدا بلا سند، فلا يمكن لقطار المغرب، كما تخيلوا، أن يتحرك بدونهم، بل إن أحدهم قال لصحبه: والآن لنتوجه إلى سويسرا لقضاء أيام للراحة وقراءة ما جدّ من كتب، وسيطلبنا جلالة الملك ويدعونا للانضمام إليه، وحينئذ نطرح شروطنا!
ولكن جلالة الملك الحسن الثاني، أمير الأطلس الذي كان عتاة المستعمرين يتجنبونه ويضمرون له العداء، ويعتبرونه المحرض لوالده وللوطنيين، الملك المجاهد الأبي المكافح، بوطنيته، وصدق نيته، بعبقريته وصمود، بتعلق شعبه وثقته به بلا حدود، الملك الحسن الثاني لن يكون أحد أكثر مغربية منه، وهو إلى ذلك الملك الشرعي المبايع المطوق برسالة، سار في طريق وعلى نهج والده واسلافه المنعمين، كأب للمغاربة جميعهم فاتحا أبواب القصر لكل طارق وقاصد، فالتف حوله رجال وقفوا وراءه وإلى يمينه وشماله، جنود مجندون كما فعل المخلصون في كل وقت والى جانب كل ملك عهد إليه الشعب بالامانة.
وكنت واحدا من الذين وضعوا أنفسهم رهن إشارته وطوع أمره وتوجيهاته.لقد كان هذا التوجه بالنسبة لي قرارا عانقته وسعيت إليه ورغبت فيه ووجدت فيه ليس فقط التشريف الكريم الذي حظيت به لدى السدة العالية بالله، بل وأيضا بدء مرحلة جديدة في مسيرة كفاحي الوطني، وفي طريق الفضيلة الوطنية، وفي انسجام، ووئام مع عقيدتي ومعتقداتي، كان القرار فتحا وهداية من الله، وسبيلا ميسرا فتح لي الاستمرار في أداء رسالتي واكتساب المزيد من المعرفة والتجربة، وتوسيع دائرة تحرُكي وحركتي واستشراف عوالم وآفاق واسعة غنية.
وأذكر هنا، والله شاهد على قولي وروايتي، أن المرحوم الاستاذ علال الفاسي تغمده الله بواسع رحمته، أسرّ إليّ ذات يوم بمكنون عاطفته التي لاشك في صدقها.
كان ذلك قبل سفره الأخير إلى الكويت ومنها إلى رومانيا حيث وافاه الأجل المحتوم، وكان على اتصال دائم بي في تلك الأيام انتظارا للتوجيهات الملكية السامية له قبل سفره، اتصل بي تلفونيا، وقال لي:
لقد ادركت الآن انك على صواب، وأن ما كنت تدعونا إليه وتحثنا عليه هو الطريق السليم والسبيل المستقيم.
وكان يقصد بقوله هذا ما كنت أقوله دائما له رحمه الله ولغيره من الزعماء والقادة الوطنيين ومنذ الأيام الأولى للاستقلال: إن علينا أن نتخلى عن الاحلام وأن نوصد كل باب تقودنا إلى تلك الأحلام، الأحلام التي قد تزينها لنا الطموحات الشخصية الضيقة، أو يغرينا بها من لا يعرف بلادنا، علينا، بعد معركة الكفاح التحرري، وبعد أن حصلنا على استقلالنا بالتفافنا حول العرش وحول ملكنا، أن نواصل الطريق بنفس الصمود والوفاء والالتفاف لنثبت دعائم الديمقراطية في اطار الملكية الدستورية، وأن نوطد العزم على إبراز أن معركة الديمقراطية هي استمرار وتواصل لكفاح العرش والشعب.
عقيدة الديمقراطية
لم تكن الديمقراطية بالنسبة لي مجرد توجه اديولوجي سياسي نظري، بل كانت ولاتزال عقيدة راسخة في نفسي وسلوكي، هي مقياس وموجه تصرفاتي ومواقفي، ومعيار التعامل مع الأحداث والناس، ومن أراد أن يحلل أو يحكم على حياتي السياسية الوطنية داخل الأحزاب أو خارجها فعليه أن يرجع الأمر كله للديمقراطية: اختيارا، وعقيدة، وموقفا لا يتزعزع عندي.
إن التربية الدينية التي تشربت رحيقها منذ نعومة أظافري، في بيتنا وأسرتنا وبيئة الحي ثم المدينة حيث تسكن قلوب الجميع خشية الله تعالى الذي نهى عن الظلم وحرمه على عباده وجعل عقاب من يرتكبه شديدا لا رحمة فيه، الظلم بجميع أشكاله وأنواعه، إن تلك التربية كانت أساس ومرشد سلوكي ومواقفي ومعيار التمييز بين ماهو حق وباطل، مقبول أو مرفوض، فلا مبرر للظلم، ولا مسوغ له، وقاومت في كل وقت الرضوخ إلى ما تفرضه اللعبة السياسية احيانا من ترجيح موقف ينطوي على الاجحاف أو الظلم، لأن في ذلك مصلحة ترجى وفائدة تتوخى، إن البرغماتية والوسيلة تبرر الغاية ليس لهما مكان في ضمير وسلوك وهدف المناضل المؤمن، وفي الفكر السياسي الاسلامي المستمد من سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وقادة الأمة الاسلامية المصلحين ما يغني عن استعارة الفلسفة البرغماتية، وغيرها والتي نشأت في ظل اجتياح ونمو الفكر الاستعماري، ففي التاريخ السياسي الاسلامي دروس في كل ما يمت بصلة إلى المناورة السياسية ومواجهة المواقف الحرجة بما لا يتعارض في الجوهر والنتائج مع ما يأمر به الدين الاسلامي الحنيف من تجنب الظلم والاجحاف والمكيدة المبيتة وإلباس الباطل لباس الحق.
لقد ظلمت في حياتي، ذقت طعم الظلم من الاستعمار، كما تجرعت مرارته من ذوي القربى. عرفت الجوع وعرفت قسوته، كما عانيت من الفقر والحاجة، كل هذا لم يمر في حياتي كتجربة طواها النسيان وأسدلت النعمة بيني وبينها ستائر الغفران، بل ظلت التجربة جزءا من كياني وطبيعتي كمناضل، كإنسان، كمواطن يتطلع إلى اليوم الذي ينعم فيه كل مواطن مغربي بالأمان والاطمئنان من الظلم والجوع والذل والفقر والحاجة.
أما فقدان الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن، حرية الفكر وحرية العاطفة في حدود شريعة الله التي كرمت الانسان وجعلته خليفة في الأرض، فتلك كانت قضيتي، عرفت بسببها السجن اربع مرات وأنا ابن 17 سنة، وابن 18 سنة، وابن 19 سنة، وابن 24 سنة.
من اجل هذه الحرية العزيزة الغالية عشت حياة مختلفة وغريبة عن حياة الناس العاديين، فالحرية هي قضيتي، هي حياتي ومصيري وهدفي وأهلي وراحتي وعذابي.
فمن أجل الحرية اخترت فراق والدي ووالدتي، وكان حبي لهما ملء نفسي وقلبي، فارقتهما امتثالا للواجب المقدس، واجب تحرير الوطن.
لم يكن أفراد عائلتي يلبسون الجديد من الثياب، ولا هم يتزينون في الأعياد، ولا يقيمون الأفراح، ولا يتبادلون التهاني بالمناسبات، كان جو الحزن هو الجو المهيمن، فاذا زفت عروس الى زوجها فلا حفلات ولا غناء، كما اعتادت الأسر أن تفعل في مثل هذه المناسبات، واذا ازداد مولود لم ترتفع الزغردات في البيت. كل ما كنت اسمعه وأراه هو الدعاء الذي لا ينقطع في بيتنا بالويل والثبور للعدو المستعمر، واخراج السلك القرآنية وقراءة الأوراد والإكثار من الدعوات.
وماتت والدتي كمدا وحسرة على فراقي وأنا في غياهب السجن، فلم أمتع نظري بوجهها الكريم، ماتت وعمرها لم يتجاوز الأربعين.
اما والدي فقد كانت وطأة الحزن شديدة على نفسه وهو يرى ولده الأثير وفلذة كبده يتنقل من سجن إلى آخر، مطاردا محاصرا، مهددا في كل وقت، فأصيب رحمه الله بالشلل ولزم الفراش أكثر من ثلاثين سنة يذكر الله غدوا وعشيا، وبالرغم مما ألم بوالدتي ووالدي من هم وكمد بسببي فقد كانا راضيين فخورين بأن أعطاهما الله ولدا يجاهد في سبيل الله ودينه ووطنه وملكه مطيعا أمر ربه في كل ذلك.
لذلك، فإن الحرية كان لها في تاريخ حياتي وجود، وثمن وأثر، وجزاء، وامتحان!
* تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.