تهمة الخيانة التي يجيد بعض الكتّاب العرب اطلاقها على بعض الكتّاب العرب الآخرين ليست على ما بدا "شيمة" عربيّة فقط. فما تطلع به الصحف الأجنبية من حين الى آخر يجعل هذه التهمة شأناً شبه عالميّ. أمّا آخر الاتهامات التي عممها بعض الصحف الغربية فإثنان مفاجئان حقاً وقد وقع الأوّل على الكاتب البريطاني جورج أورويل والثاني على الشاعر البريطاني أيضاً وردزورث. والتهمتان تنحصران كلتاهما في خانة الوشاية السياسية على الرغم من الحقبة الزمنية التي تفصل بين الكاتبين. فالأوّل توفّي في العام 1950 والثاني في العام 1850. وقد لا يصدّق البعض أنّ الكاتب الكبير جورج أورويل كان مخبراً للحكومة البريطانية في فترة الأربعينات وأنّه وشى ببعض الكتّاب والفنّانين من أمثال شارلي شابلن وجورج برنارد شو وسواهما متّهماً اياهم بالانحياز الى الشيوعية. فالكاتب الذي كتب روايته الرائعة "1984" كان أحد المناضلين ضدّ النازيّة وفضح الأساليب الستالينية في مقالات كثيرة وانتقد النخبة الثقافية في بلاده لابتعادها عن هموم الطبقة العاملة. ولعلّ كرهه للأنظمة الديكتاتورية والشمولية ومنها الشيوعية، دفعه الى أن يؤدّي دور المخبر أو الجاسوس كما يُقال. طبعاً هذه التهمة لن تُغفر له وهي ربّما عقابه الذي يستحقه بعدما ألقى التهم على بعض معاصريه، لكنّها لن تسيء الى أدبه ولا سيّما روايتيه "مزرعة الحيوانات" وتلك التي تحمل عنواناً طريفاً "1984". في الرواية الأولى يرسم أورويل صورة هجائية للمجتمع الحيواني. وقد جعل شخصياته من الحيوانات التي تثور ضدّ استغلال الإنسان لها. والثورة يقودها خنزيران أحدهما يحمل اسم "قيصر". وما ان تستتب "الجمهورية" حتى يبدأ الصراع بينهما لينتهي في هزيمة قيصر ووقوع تهمة الخيانة عليه. "والمزرعة" هذه هي صورة مجازية عن عالم تحكمه الغريزة، غريزة التسلّط والعنف والكذب... أمّا في روايته الهجائية أيضاً "1984" فكان أشدّ سخرية وقسوة في رسم نموذج مستقبليّ عن الأنظمة الشمولية أو "التوتاليتارية". والرواية هذه كتبها أورويل في العام 8194 قبيل وفاته ليعبّر عن تشاؤمه حيال المستقبل الذي لا ينتظر لندن فقط وإنّما العالم أجمع. فالعاصمة البريطانية في الرواية تحيا حالاً من الخراب ويسيطر عليها الحاكم بيغ برازر وهو في الخامسة والأربعين من عمره وذو شاربين كثّين يذكّران بشاربي ستالين. أمّا الشعارات التي يتبنّاها الحزب الواحد والوحيد في المدينة فهي ثلاثة: الحرب هي السلام، الحريّة هي الاستبعاد، الجهل هو الثورة... وإن بدأت الرواية هكذا فهي ستنتهي عبر سيرة أحد المناضلين الذي يعلن تمرّده ويفشل طبعاً ويلقى عاقبته. تُرى هل ستؤثر التهمة التي طالت أخيراً جورج أورويل على قرائه وعلى العلاقة الوطيدة التي تربطهم به وبرواياته الفريدة؟ أم تراها ستكون مجرّد إشاعة حقيقية تنتهي حالما يفتح القراء كتب أورويل ويستسلمون لمخيّلته وسرده الفانتازيّ؟ وإن كان أورويل قابلاً للاتهام تبعاً لانجرافه في نهر السياسة فأنّ ما لا يُصدّق هو أن يكون الشاعر الرومانطيقي الكبير وردزورث مخبراً وجاسوساً بدوره. فالإشاعة التي أُطلقت أخيراً أفادت أنّ الدوائر السرّية البريطانية أوكلت اليه في العام 1799 مهمّة التجسس على حلقة المنفيين البريطانيين، المنشقين والثوريين في هامبورغ. وقد لبّى تلك المهمّة مرغماً أم غير مرغم، لا أحد يدري. بدا من الصعب فعلاً أن يصدّق قراء الشاعر الكبير اشاعة مماثلة وأن يقرأوا في الصحف: "جاسوس اسمه وردزورث". فالشاعر الذي نشأ الكثيرون من الشعراء على قصائده ونظرياته الشعرية الرائعة يستحيل أن يقع في خانة المخبرين. ولطالما تحدّث شاعر "القصائد الغنائية" عن "الروابط الخفية" التي تحمل على التعاطف مع الإنسان أياً كان وحيثما كان. ولطالما وصف الشاعرَ ب"صخرة الدفاع عن الطبيعة البشرية" والشعرَ ب"بداية كلّ معرفة ونهايتها". "جاسوس اسمه وردزورث": ما أصعب أن يصدّق قراؤه تهمة كهذه. شاعر الرّقة والطفولة والأسئلة الميتافيزيقية والحب أصبح "جاسوساً". ولكن متى؟ بعد قرابة مئة وخمسين عاماً على وفاته! إنّها لمن المفارقات الغريبة حقاً!