لا يزال أدب الأطفال في العالم العربي يسير وفق منهج الكتابات القديمة نفسه، مع أن أساليب التربية والحياة الاجتماعية عموماً تختلف من جيل إلى آخر، وهي في تطور مستمر. وكان من المفروض أن تُطّور مناهج وأساليب الكتابة للطفل العربي عن السابق، لأنه يدرك في حياته الحالية أكثر ما كان يدرك أمثاله منذ خمسين سنة خلت. وهذه الحال لا تخص الكُتّاب فقط، ولكن تنطبق أيضاً على الأسرة، إذ كان عليها أن تتغير في تعاملها مع طفلها عما كانت منذ فترة، لأن المعطيات المعرفية تغيّرت. كما أن الطفل ازدادت حاجته إلى إحداث توازن معرفي من خلال التنشئة الأسرية، وإلا سيحدث خلل يؤدي الى تدمير الطفل، خصوصاً من خلال ما يقدم له على صفحات الكتب والمجلات وحتى السينما والمسرح. لا شك في أن الكتابة الحالية في وطننا العربي أثرت بشكل مباشر في الأطفال، حتى أن كثيراً من المفردات يرددها أولئك معبرين في ذلك عن عدم إشباع حاجاتهم في هذا المجال. ويبدو الطفل الأكثر معاناة هو ذلك الذي تزيد سنه عن الثانية عشرة، إذ يشكو من ندرة المواضيع التي تقدم له. وهذه ليست نتيجة عشوائية إنما حقيقة يقرها الواقع، لجهة خلو مكتباتنا من كتب تراعي هذه السن، بينما تزدحم بكتب أطفال الحضانة، وإن كانت هي الأخرى تعد هزيلة من حيث المحتوى. إن الكتابة للطفل في هذه المرحلة ليست بالأمر الهين كما يتصور كثير من الكُتّاب، إذ تتنوع كتاباتهم طبقاً لمدى إدراكاتهم المعرفية، وإطلاعاتهم وتجاربهم، والتي غالباً ما تكون متأثرة بأفكار الكبار، ومواقفهم وثقافتهم أيضاً. ولهذا يمكن حصر تلك الكتابات جميعها في جملة من الأنواع - إن جاز التعبير - تبيّن ما ذكرناه آنفاً، ويمكن إيجازها في ما يلي: 1- النوع الأول من الكتابة يغرق في الماضي، لجهة أنه يعيد إنتاج الكتابات السابقة بالأسلوب نفسه وبنسخة مكررة، وغالباً ما يقوم بتغيير الأسماء فقط - أقصد أسماء الأبطال - ولذلك كثيراً ما تجد القصة الواحدة تنشر بأسماء متعددة. وهي إرث مشترك للجميع، تُعلّم الطفل - في اعتقادي - منذ الصغر كيفية السطو على حقوق الآخرين، وإلغائهم، وحدوث ضبابية بين الأمانة في النقل وبين سرد القصص. 2- النوع الثاني من الكتابة للأطفال يغرق في تقليد ما يطرحه الآخر، مدعياً محاولات إنقاذ الطفل من التراكمات السلبية للثقافة العربية، فمثلاً يحدثه عن الفضاء وعن التكنولوجيا وعن الاستنساخ من دون أن يكون الكاتب نفسه ملماً بما يقول: إنه باختصار يغرق الطفل في معلومات متراكمة وغير موظفة وغير هادفة أيضاً. 3- النوع الثالث من الكتابة يعتمد على شهرة الكُتّاب أنفسهم في ميادين أخرى من الكتابة لا علاقة لها بالطفل. إذ نجد كبار الكُتّاب مثلا يتطفلون على عالم الصغار، ويفرضون انفسهم عليه قسراً بل وقد يجدون إستحساناً لدى النقاد، في وقت يُرفضون من طرف الأطفال، لكن لا أحد يحاسب، ثم من يحاسب من؟ 4- النوع الرابع من الكتابة تحدده طبيعة المسؤولية داخل المجلات ودور النشر. فالموقع والمسؤولية والمكانة والوظيفة هي التي تجعل من هذا أو ذاك كاتباً للطفل، وعلينا أن نقبل بذلك ما دامت المجلات ودور النشر ترى أن ذلك هو الأفيد للطفل. إن هذه الأنواع من الكتابة وغيرها من الكتابات الأخرى لا يمكن تعميمها بالطبع، لكن في الوقت ذاته تعتبر محاور أساسية في أدب الأطفال في منطقتنا العربية. فهناك تكرار لقصص تجسد الخرافة، وتثبت في ظاهرها القيم، لكنها وهي تقوم بذلك تؤدي الى نتائج عكسية لأنه غالباً ما يصادف الطفل تلك القصص نفسها في أماكن أخرى. ناهيك عن أن سرد التجربة الذاتية للكاتب وتحويل نفسه الى بطل يؤديان بالطفل الى الملل والى كراهية هذا النوع من الأدب. ثم أن التضخيم وحشر القيم الأخلاقية بشكل لا يترك مجالاً لخيال الطفل ولإعادة النظر في ما يطرح يُعدان من العوامل التي تحول دون الوصول إلى أية نتائج. يلاحظ أيضاً أن اللغة التي ُيكتب بها كثير من الأعمال، سواء في الكتب المدرسية أو في القصص وأعمال الطفل الأخرى، هي لغة مبسطة وسطحية في عمومها. وعملية التبسيط هنا مقصودة وكثيراً ما توقع الطفل في تناقض، فمثلاً هو يدرس قصائد شوقي، ويحفظ القرآن الكريم، وحين تكتب له القصة تكون بلغة بعيدة كل البعد عما حفظه من آيات القرآن الكريم أو من الشعر. وهذا يؤكد حالا من العجز لدى كتاب يتوارون خلف القول إن الطفل ضعيف، ولا يستطيع أن يستوعب كل مفردات اللغة. وهذا القول ليس صحيحاً بدليل أن كثيراً من التلاميذ يحصل على الدرجات النهائية في اللغة العربية، وفي نصوص هي عالية المستوى. والنظرة السابقة لا تخص الكُتاب فقط، بل هي أيضاً خاصة بدور النشر، إذ تطلب من بعض الكتاب الذين يقدمون نصوصاً ذات لغة عالية الجودة - تقدم الجديد من المفردات للطفل - أن يبسطوا مفرداتها، بحجة أن أولياء الأمور يطالبونهم بذلك. وعلينا أن نسأل ما هو المستوى العلمي لأولياء الأمور؟ وما مدى مشاركتهم في قضايا العصر ومشاكله؟ فالشعارات والإعلانات التي تروج لها دور النشر والقائلة إن القصص بسيطة وسهلة، تجعل اللغة مجردة من كل قيمها وقضاياها المعرفية، حتى لم يعد في إمكان الطفل العربي إيجاد مرادفات كافية للتعبير عن أفكاره. لقد انعكس هذا الأسلوب في الكتابة على الطفل، وقبله على الكاتب نفسه. ويتضح ذلك في اسلوب الخيال الذي يلجأ إليه أولئك الكتاب، ولا شك في أن الطفل ميّال الى الخيال في مراحل تفكيره الأولى، لكن لُعبه ووسائل تعليمه وعلاقته بالعالم كله هي حقائق علمية وليست خيالية، ثم أن الخيال يؤدي الى الابتكار. وإذا كان الكبار لم يستطيعوا التجاوب مع العصر، والاكتفاء بإحلال الفترات المظلمة من العصور القديمة، فلا غرو عند ذلك أن يصبح الخيال بلا معنى، ويصبح هدفاً في ذاته، مع أنه كان من المفروض أن يكون مجرد وسيلة. وإذا تحقق ذلك فإن أنواع الكتابة للطفل جميعها ستتغير، بتغير أهدافها وبإيجاد مساحة أوسع للتعامل بين الأجيال. ولن يتم ذلك إلا بإلغاء نرجسية الكتاب، وعدم وقوفهم ضد حركية المجتمع وتطوره. وأعتقد بأن كثيراً منهم يدركون ما يفعلونه في الطفل العربي، وقد يكون بعضهم على غير وعي. لكن مهما يكن فإن ساعة الحسم حانت، لأننا لم نعد معزولين عن العالم كما يظن البعض. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر.