عندما تشتط الإدارة الاميركية في انحيازها الى اسرائيل، وعندما تتجاهل المصالح والحقوق العربية، تتجه أذهان القادة العرب الى أوروبا لعلها تكون هي القوة الدولية التي تصحح هذا الواقع. وعندما تفكر القيادات العربية بأوروبا فإنها تتجه أولاً الى فرنسا وهي الأقرب الى العرب، والأكثر تفهماً لشكاويهم ومطالبهم، والأبعد حرصاً في اقامة علاقات وطيدة وصحية معهم. لقد اعطت واشنطن اشارات متعددة في الآونة الأخيرة تقول فيها، كما جاء في صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية، انها خسرت حرب الاستنزاف مع بنيامين نتانياهو، وانها لا تستطيع الضغط عليه، خاصة عندما يكون الرئيس الاميركي هو نفسه واقعاً تحت ضغط مونيكا غيت. كذلك بالغت الإدارة الاميركية في تقدير بعض الأوساط العربية، في تجاهل الرغائب العربية في جملة قضايا أخرى مثل العقوبات والحصارات الاقتصادية. من هنا بدا طبيعياً ان تلجأ بعض القيادات العربية الى الاتحاد الأوروبي عموماً والى فرنسا خصوصاً بقصد الحصول على دعم منها لإخراج الاسرائيليين من الأراضي العربية المحتلة، ولتحقيق المطالب العربية الأخرى. وفيما يبدو التوجه نحو فرنسا صحيحاً بصورة عامة، وبينما تبقى مبرراته، بصورة عامة، في محلها، فإنه من المفيد ان يؤخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية والأوروبية التي تؤثر على الدور الفرنسي وعلى قدرة باريس على التجاوب مع المساعي والآمال العربية المعلقة عليها. لعل فرنسا لا تزال كما يصفها جوناثان فيني في كتابه: على الحافة: مشكلة فرنسا، القوة الدولية الأولى التي تستطيع الاضطلاع بدور مؤثر ومستقبل بعد الولاياتالمتحدة على النطاقين الأوروبي والعالمي، إلا ان فرنسا خسرت جانباً من مكانتها الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة. فقبل ذلك الحدث كان التحالف الألماني - الفرنسي هو القوة الرئيسية التي تقود السوق الأوروبية المشتركة، وكانت بون تتكل اتكالاً قوياً على باريس لكي تعيد تأهيلها دولياً مقابل ان تقتفي، ولو ببعض التردد أحياناً، أثر فرنسا في السياسة الدولية. أما بعد انهيار الحرب الباردة فقد تحققت الوحدة الألمانية، ولم تعد توجد في الشرق دولة عظمى مثل الاتحاد السوفياتي تهدد المانيا وتمارس الضغط عليها. الى جانب ذلك، ذهبت التاتشرية، التي كانت أثراً من آثار الحرب الباردة والتي سعت الى احتواء المانيا مفضلة استمرار حلف وارسو على الوحدة الالمانية. هذه المتغيرات أثرت على محور باريس - بون، واستطراداً على دور فرنسا الأوروبي. في المرحلة الجديدة، بدأ الضعف يغشى المحور باريس - بون، فعندما جرى انتخاب رئيس للبنك الأوروبي في شهر أيار مايو الفائت، تخلل الانتخاب صراع واضح بين فرنسا التي رشحت فرنسياً، وبين المانيا التي رشحت أوروبياً من جنسية أخرى لهذه الوظيفة الحساسة. وعندما اتجهت حكومة بون في شهر تموز يوليو الفائت الى تكوين نواة للسوق المالية الأوروبية، عملت على عقد صفقة بين بورصتي فرانكفورت ولندن حتى تكونا هذه النواة، مع ان فرنسا كانت تحضر حتى تكون باريس هي الشريك الثاني مع فرانكفورت، أو الشريك الثالث معها ومع لندن، على الأقل، في تأسيس البورصة الأوروبية. معالم الوهن التي اخذت تنتاب المحور الفرانكو - الماني ظهرت أيضاً في التباين في موقف الطرفين من المنطقة العربية، ظهر هذا التباين عند اختيار الأولويات في رسم سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية. فبون كانت تريد اعطاء الأولوية المطلقة، من حيث الاهتمام والمساعدات، الى أوروبا الشرقية والى الدول المرشحة للانضمام الى الاتحاد في المستقبل القريب، أما فرنسا، ومعها عدد من دول أوروبا الجنوبية، فقد دعت الى الإلتفات جنوباً والى تقوية الشراكة المتوسطية. وبرز التباين بين بون وباريس عندما صوتت الأولى مراراً ضد مشاريع قرارات وتوصيات قدمت لهيئة الاممالمتحدة ضد الانتهاكات الاسرائيلية لقوانين الحرب، بينما مالت باريس الى تأييد تلك المشاريع. كذلك برز التباين بين الطرفين عندما أيد الفرنسيون اختيار شخصية أوروبية سياسية ومرموقة، مثل فيليبة غونزاليس رئيس وزراء اسبانيا السابق، كمندوب للاتحاد الأوروبي لمتابعة "عملية السلام" حتى يكون الحضور الأوروبي قوياً ومؤثراً في هذه العملية، بينما كان الألمان من دعاة الإكتفاء بشخص ديبلوماسي عادي لهذه المهمة لئلا يؤدي الأخذ بالاقتراح الأول الى إثارة استياء الاميركيين والاسرائيليين الذين لا يريدون مشاركة أوروبية جادة في العملية. أخيراً لا آخراً انتقل التباين بين الموقفين الالماني والفرنسي تجاه العرب والاسرائيليين الى ميادين أكثر دقة وحساسية. ففيما تتجه باريس الى دعم موقف الدول العربية بما في ذلك بيعها سلاحاً يعزز هذا الموقف من دون ان يخل بموازين القوى في المنطقة، فإن بون تسير على طريق تعزيز قوة اسرائيل بما في ذلك بيع اسرائيل غواصتين يمكن تزويدهما بصواريخ ذرية، والدعوة على لسان هلموت كول الى إقامة تحالف أوروبي - اميركي - اسرائيلي، وكلاً الأمرين يلحق بالعرب الضرر الفادح. قد تتمكن فرنسا من تعويض ما تخسره في علاقتها ببون، عن طريق علاقات نامية تعقدها مع روسيا. في اطار هذه العلاقات أظهر الفرنسيون حماساً ملحوظاً لفكرة المؤتمر الأوروبي الثلاثي الروسي - الالماني - الفرنسي. ولئن كان الرئيس الروسي يلتسن هو الذي اطلق فكرة هذا المؤتمر في شهر تشرين الأول من العام الفائت، فإن أصوله تمتد الى الحلم الذي راود الجنرال ديغول في الستينات عندما تنبأ بأوروبا موحدة تمتد "من الاطلسي الى الأورال". ولقد تعاونت موسكووباريس على إخراج ذلك المؤتمر الى الحياة خلال شهر آذار مارس الماضي وضغطا على بون لكي تشترك فيه بعد ممانعة راجعة الى حسابات ألمانية وأوروبية واطلسية. وأطلت العلاقات الفرنسية - الروسية النامية مرة أخرى على الساحة الدولية من خلال مواقف متقاربة تجاه بعض القضايا العربية مثل الموقف من الانسحابات الاسرائيلية من الأراضي المحتلة واحتمالات توجيه ضربة عسكرية ضد العراق في مطلع العام الحالي. ان نمو العلاقات بين موسكووباريس يشكل امتداداً لعلاقة تاريخية ولتحالف أوروبي عريق تساند فيه الطرفان ضد مشاريع التوسع الالمانية والبريطانية، ولكنه من المستبعد ان يصل من حيث عمق تأثيره على السياسة القارية والدولية الى ما وصل اليه تأثير محور باريس - بون لجهة تغيير خريطة العالم الجغرافية والسياسية. فموسكو تشكو من عدم الاستقرار على نحو يعطل قدرتها على الدخول في تحالفات ذات طابع استراتيجي، على الأقل في الوضع الراهن. استطراداً فإن موسكو لا تستطيع السير مسافة طويلة في اقامة محور خاص مع باريس يسمح للبلدين بانتهاج سياسة مستقلة، استقلالاً تاماً، عن السياسة الاميركية تجاه الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، هذا إذا أراد الفرنسيون، أصلاً، سلوك مثل هذه السياسة. ومن المرجح ان تخرج هذه الحقيقة الى العيان عما قريب حينما تنعقد القمة الروسية - الاميركية فتكون مناسبة لتأكيد التفاهم الاميركي - الروسي، أو بالأحرى مماشاة موسكولواشنطن، في الموقف من القضايا الدولية الرئيسية. إذا كان الدور الفرنسي قد تراجع على الصعيدين القاري والدولي، فإن ذلك لا يعني انه من الخطأ ان توطد الدول العربية علاقتها مع باريس، بالعكس، لعلها اللحظة الأنسب لكي يؤكد العرب فيها للفرنسيين انهم يؤمنون بأن في السياسة الدولية مصالح دائمة وصداقات وطيدة أيضاً، وبأنهم يقدرون لفرنسا مواقفها العادلة من القضايا العربية. وبمقدار ما تتكرس الصداقة مع فرنسا يكون الكاسب هو الطرف العربي الذي حقق نجاحاً باهراً في التفريط في الصداقات الدولية التي عقدها طيلة نصف قرن من الزمن. إلا أنه حتى تبقى الصداقة العربية - الفرنسية متينة ونامية، فإنه من الأفضل ألا تطلب الدول العربية من فرنسا أكثر مما عندها. فإذا أرادت هذه الدول تجاوباً أوروبياً حقيقياً مع مصالحها وحاجاتها فعليها هذه المرة ان تطرق بوابة بون، في نفس الوقت الذي تطرق فيه بوابة باريس، وأن لا تتصور ان الأخيرة قادرة على التأثير على مواقف الأول كما كانت تفعل في السابق. ومن الأرجح ان ترحب باريس نفسها بأي تقدم يحققه العرب في اقناع بون بأهمية تنمية العلاقات العربية - الالمانية كخطوة مهمة على طريق اقامة نظام دولي تعددي أكثر عدالة واستقراراً وسلامة من النظام الراهن. * كاتب وباحث لبناني