في حين لا يهتم المواطن التركي عادة بالأخبار الخارجية، فأجور العمال أهم من وضع حكومة بنيامين نتانياهو، وموعد الانتخابات القادمة أهم من أخبار بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي، فإن هذا المواطن يبدي اهتماماً يشوبه القلق بتنامي العلاقات التركية مع اسرائيل، فهذه العلاقة لا يمكن ان تقوى إلا على حساب علاقات تركيا مع الدول العربية، خصوصاً سورية. عسكر تركيا، لا الحكومة المنتخبة وراء هذه العلاقات التي أساسها اتفاقان أمنيان وقعا في 1995 و1996. والآن تبني تركيا قاعدة عسكرية كبيرة في الأناضول لاستعمال اسرائيل، ستوفر لها "مجالاً جوياً هائلاً للتدريب"، كما ستفيدها في التجسس على سورية والعراق وايران. وكان وزير الخارجية اسماعيل جيم نفى وجود هذا المشروع، من دون ان يصدقه أحد، وهو زار اسرائيل هذا الشهر، وسيزورها الشهر القادم رئيس الوزراء مسعود يلماز. وأهم من هاتين الزيارتين العدد الكبير من الزيارات العسكرية المتبادلة، فهذه أساس التحالف الذي تباركه الولاياتالمتحدة، والمفاوضات فيها عادة ما تكون سرية لا ترشح منها معلومات تذكر. والآن يرأس نائب رئيس الأركان التركي شفيق بير، المعروف بعدائه للاسلاميين الاتراك، والعرب عموماً، لجنة الحوار التي هي أشبه بمجلس تنسيق عسكري تركي - اسرائيلي. ولا بد ان قضية القاعدة أهم موضوع على جدول الاعمال، إلا ان المعلومات الرسمية نادرة الى مفقودة. وكانت تانسو تشيلر زارت اسرائيل وهي رئيسة للوزراء سنة 1995، غير ان تنامي العلاقات العسكرية أقلقها فصرحت أخيراً أن هذه العلاقات "تقوم على حساب العلاقات العربية - التركية"، ودعت الى إقامة تركيا علاقات متوازنة مع العرب واسرائيل. غير ان المعارضة الأساسية للعلاقات العسكرية مع اسرائيل تأتي من النواب الاسلاميين في حزب الفضيلة، وبعض الاحزاب الاسلامية الصغيرة، ومع هؤلاء نواب من حزب الطريق القويم اليميني المعارض، وأيضاً من حزب الوطن الأم الحاكم نفسه، ما أثار غضب رئيس الوزراء لتأرجح هؤلاء النواب بين الحكم والمعارضة، خصوصاً في مجال الاجراءات التي يطالب بها العسكر لمكافحة الأصولية الدينية. بكلام آخر، لا يوجد من يمثل مصالح العرب في تركيا هذه الأيام سوى النواب الاسلاميين، غير ان العرب لا يريدونهم. والنواب هؤلاء عندهم من قضاياهم ما يكفيهم، من دون حاجة الى رفع لواء قضايا العرب، فالعسكر التركي يحاصرهم ويسعى الى استصدار قوانين تحد من نشاطهم. وفي البرلمان الآن مشروع قانون للانتخابات يقضي بإجرائها على مرحلتين، والهدف وا ضح، فإذا تبين تقدم الاسلاميين في المرحلة الأولى، يحشد العسكر كل القوى السياسية الأخرى ضدهم في المرحلة الثانية. والانتخابات على مرحلتين هو ما جربت الجزائر والنتيجة معروفة. وقبل الانتخابات هناك قانون العفو العام، فهو مشروع طرحه الاسلاميون للمرة الأولى ضمن الاحتفالات بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجمهورية التركية في تشرين الأول اكتوبر القادم. وكان الاقتراح الأصلي ينص على ان يشمل العفو جميع المعتقلين وسجناء الرأي والثوار. ولكن عندما تبنت الحكومة الحالية قانون العفو استثنت منه المتورطين في أعمال إرهابية، ما يعني استبعاد الأكراد، والمحكومين بموجب المادة 14 من الدستور التركي، أي استبعاد نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء السابق رئيس حزب الرفاه المنحل، وهكذا يمنع من خوض الانتخابات القادمة، والنتيجة انه لن يخرج من السجن تحت قانون العفو المطروح بصيغته الحالية سوى القتلة واللصوص ورجال المافيا الذين يمولون عادة حملات اليمين الانتخابية. وكانت المافيا المحلية خسرت كثيراً بإغلاق كازينوهات القمار، الا انها ستعود من الشباك بعدما طردت من الباب عند اقرار العفو. والحكومة التركية والعسكر يدركان مدى عدم شعبية سياسة التقارب مع اسرائيل، لذلك فالعسكر جعلوا من تجربة الصاروخ الايراني عذرا لتطوير تكنولوجيا الصواريخ مع اسرائيل في حين ان رئيس الوزراء أخذ يبحث عن قضايا جانبية لتحويل الانظار عن اسرائيل، وهو صرح أخيراً ان الذين ينظرون الى الأراضي التركية ويطمعون فيها "مصابون بالعمى". ولم يكن يتحدث عن الانفصاليين الاكراد، بل عن مطالبة سورية القديمة بلواء الاسكندرون الذي سلخته الدولة المحتلةفرنسا عن سورية، وفيه مدينة اسكندرون السورية المعروفة وانطاكية، والحقته بتركيا. المطالبة السورية باللواء السليب قائمة منذ نصف قرن، والخرائط السورية الرسمية تظهر اللواء هذا ضمن حدود سورية، ولكن لم يحدث أخيراً أي تطور يبرر اثارة يلماز الموضوع الآن، وهو لو كان طليق اليدين من سيطرة العسكر، لما فكر في لواء الاسكندرون، بل في الانتخابات ومثل الجزائر.