ألقى حادث ديبلوماسي صغير أخيراً الضوء على قضية أوسع وأكثر أهمية، فنائب رئيس الأركان التركي شفيق بير اتهم ايران بمساعدة المتطرفين الاسلاميين في تركيا، وردت ايران برفض التهمة والاحتجاج عليها. ورد السفير التركي في طهران على الرد بقوله "ان وزارة الخارجية التركية مسؤولة عن السياسة الخارجية للحكومة التركية. وما تقوله أوساط أخرى يعبر عن رأيها الشخصي فقط. وعلى ايران ان تأخذ بجدية تصريحات وزارة الخارجية التركية وحدها". وهو كلام جميل إلا أنه ليس دقيقاً، فثمة ازدواجية واضحة في السياسة الخارجية التركية، والمؤسسة العسكرية انتزعت لنفسها المسؤولية عن مناطق وقضايا، مثل اليونان وقبرصوالعراق وشرق تركيا، وتنافس وزارة الخارجية في العلاقات مع ايران وسورية، ودول آسيا الوسطى، مع ان وزارة الخارجية التركية مؤسسة عريقة، لها تقاليد راسخة، تضم نخبة ادارية قادرة. وإدا نظرنا الى إيران وحدها، فالعلاقات التجارية بين البلدين أهم كثيراً من أن تترك للعسكر، فهناك تجارة مباشرة بين البلدين ومشاريع اقتصادية مشتركة طرحت في مؤتمر عقد في بلدة فان، بشمال شرقي تركيا الشهر الماضي. وأهم من هذا كله مشروع الغاز الطبيعي الذي تبلغ قيمته 20 بليون دولار. ومع ذلك تتهم تركياايران بتأييد حزب العمال الكردستاني، وتتهم ايرانتركيا بدعم مجاهدين خلق، من دون أن يكون عند هذه أو تلك دليل على اتهاماتها. وقد نظّم عسكر تركيا عمليات كبرى داخل العراق لمطاردة الانفصاليين الأكراد من دون استشارة الحكومة في انقره. وفي حين أن عملية داخل العراق قد لا تثير ضجة عالمية بسبب العقوبات المفروضة على العراق والحصار، فإن تصرفاً مماثلاً في قبرص ستكون له مضاعفات دولية خطيرة. اليوم هناك حديث عن امكان وقف التدخل العسكري التركي في الشؤون السياسية، مع قرب انتهاء ولاية رئيس الأركان اسماعيل حقي قره دايي، فهو ونائبه شفيق بير، يعتبران من أكثر جنرالات تركيا حماسة للتدخل في الشؤون السياسية، وفرض إرادة العسكر على الحكومة المنتخبة. وعندما تنتهي ولاية قره دايي في 30 آب اغسطس القادم سيخلفه حسين كيرفتشي اوغلو، قائد الجيش، وهو صاحب الاقدمية بين كبار الضباط، لا الجنرال بير الذي يضعفه كذلك انه من علويي تركيا، في حين ان المؤسسة العسكرية سنيّة خالصة. غير أن الحديث عن تغيير عندما يخلف كيرفتشي أوغلو الجنرال قره دايي يقوم على تمنيات أكثر منه على معلومات مؤكدة، فلا بد أن يكون لشخصية رئيس الأركان خلال سنوات خدمته الخمس تأثير في توجه المؤسسة العسكرية، إلا أن التدخل في الشؤون السياسية لم يكن يوماً من اختراع جنرال واحد، وانما هو جزء من التركيبة العسكرية نفسها، واعتبار العسكر انهم اوصياء على النظام العلماني الذي أقامه أتاتورك. والواقع ان السياسات الداخلية للعسكر أقل شعبية من مواقفهم إزاء البلدان المجاورة، فهم ضغطوا حتى اسقطوا نجم الدين أربكان، أول رئيس وزراء اسلامي للبلاد، إلا أن خلفه مسعود يلماز لم يجارهم بالقدر الذي أرادوا في محاربة الأصولية، وعندما حاول انشق عليه عضوان من حزبه المحافظ التحق أحدهما بحزب الفضيلة، وأبلغه عدد كبير من نوابه ان القوانين المقترحة ستدمر شعبية حزب الوطن الأم، خصوصاً مع توقع انتخابات عامة في الربيع. ولعل يلماز يأمل الآن أن يعطيه الجنرال كيرفتشي اوغلو متنفساً قبل الانتخابات، فآخر ما يريد هو ان يرتبط اسمه أو حزبه بمؤسسة تفصل الضباط لأنهم "ضبطوا" يصلّون أو يصومون، وتتدخل في الشؤون الاقتصادية فتزيدها تعقيداً وسوءاً، ولا تحترم حقوق الانسان، وأحياناً القوانين نفسها، في حربها على المعارضين والمنشقين في الداخل. هل يؤدي تغيير رئيس الأركان الى الحد من تدخل عسكر تركيا في الشؤون السياسية؟ أفضل من التكهنات ان ننتظر لنرى، ولكن نستطيع ان نسجل بسرعة أن بعض القضايا معقد جداً، بتدخل العسكر أو من دون تدخلهم، والحكومة المدنية قد لا تجد حلولاً فورية حتى من دون ضغط المؤسسة العسكرية عليها. والاقتصاد من هذه القضايا التي لا توجد لها حلول فورية، اما العلاقات مع سورية واليونان، والخلاف على قبرص، فأكثر تعقيداً. والسوريون، مثلاً، يتهمون تركيا، بحكومتها ورئاسة أركانها، بالتحالف مع اسرائيل ضدهم. وهذا التحالف، الذي ترعاه أميركا، قائم فعلاً، ولن يغيّر منه تغيّر رئيس أركان، لذلك فالأرجح أن تستمر الحساسية في العلاقات. ومثل سورية اليونان، فمشاكلها مع تركيا تعود جذورها الى القرن الماضي ولا سبب منطقياً لتوقع حلها اليوم. ومع ذلك فوجود حكومة مدنية منتخبة، تعمل بحرية من أي ضغط عسكري، يعطي أملاً بامكان السير في الاتجاه الصحيح، لتصبح الحلول ممكنة، ان لم يكن اليوم، فغداً أو بعد غد