عنوان يثير الدهشة بحق. ولكن ما يجري أمامنا في كثير من شؤون الحياة، بعد انتهاء الحرب الباردة بين العمالقة وانتشار الخصخصة في كل نواحي النشاط في الدولة، وانهيار الحواجز في التعاملات، علينا أن نتحفظ في دهشتنا إزاء أي تغييرات، حتى تلك التي تجري في الثوابت التي اعتدنا عليها وأصبحت من لوازم الحياة. وللحق فإن "الجيوش قطاع خاص" قديمة قدم الحروب نفسها وإن اختلفت في دوافعها وتنظيماتها. استخدمتها دول المنشأ، أو قامت بوضع نفسها في خدمة من يدفع الأجر المناسب من حركات ومؤسسات ودول في ظل وجود الجيوش الوطنية. وانتشر استخدام القوات المرتزقة التي كان أول من انتقدها نيقولا ميكيافيللي في "مطارحاته"، وفي كتابه "فن الحرب" منذ بداية القرن 16، إذ ثبت فشلها في محاولات فلورنسا على مدى 12 عاماً لاستعادة بيزا. وخوفاً من الاستطراد، نقتحم الموضوع مباشرة من دون التوسع في مقدماته وتفاصيله المعقدة. فقد حدثت أمور كثيرة وتطورات أساسية بعد انتهاء الحرب الباردة نتيجة لبيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف، أدت إلى تغير كامل في استخدام القوة على المستوى العالمي، كما أدت الى زيادة الإقبال على استخدام "الشركات الحربية الخاصة" في واجبات ومهمات كانت تقوم بها وحدات الجيوش التقليدية. وأصبح من الصعب تحديد العدو الذي توجه إليه الترسانات المشحونة بكل أنواع الأسلحة، وبعضها يمكنه تدمير العالم أكثر من مرة. وفي هذا المجال تتردد حكاية عن حوار جرى بين "بيل وجيمي"، وهما جنديان من إحدى الوحدات المدرّعة الاميركية، بعد انتهاء إحدى المناورات التي يبدو أنها نالت إعجاب الجنديين، فقد قال بيل لزميله وهو يحاوره: "ألست راضياً يا جيمي عن سير المناورة وعن الأساليب الجديدة التي تدربنا عليها"؟ فرد جيمي من دون تحمس: "طبعاً يا بيل، ولكن من هو العدو الذي كان يواجهنا في المناورة؟ وعلى أي أرض سنطبق ما تعلمناه بطريقة عملية"؟ هذا الغموض الذي أحاط بتحديد "العدو"، أدى الى أن يستبدل اللفظ بكلمة أكثر دقة وهي "التهديدات"، التي تشمل مساحة أكثر اتساعاً مثل: الحروب الأهلية بدوافعها المختلفة، الحروب الاقليمية التي يدار معظمها بالوكالة، انتشار الأسلحة شديدة التدمير التي تعالج في ضوء الشرعية الدولية الانتقائية، انتهاك حقوق الإنسان مع التمييز بين الناس حسب ألوانهم وجنسياتهم ومدى ارتباطهم بمصالح الدول العظمى، الإرهاب، مع عدم التمييز بين إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد أو عدم التفرقة بينه وبين الكفاح من أجل استرداد الحقوق أو رد العدوان، انتشار المخدرات والعدوان على البيئة مع التساهل في دفن المخلفات النووية في المحيطات أو "المزابل" الأخرى حسب التسهيلات المقدمة. وكما نرى فإن التهديدات توجد على مساحات وواجهات متسعة، وتتصف، علاوة على ذلك، بأنها ليست تهديدات حربية. وبالتالي فإن تدخل القوات المسلحة التقليدية بأسلحتها وتنظيماتها وتكتيكاتها، لا يصلح لمواجهتها بطريقة صحيحة، لدرجة أن قوات حفظ السلام أو القوات متعددة الجنسية أو القوات الدولية الأخرى، يُعاد تنظيمها وتسليحها لتتناسب مع المهمات الموكولة إليها، ما يدفع بعض الحكومات أو التنظيمات والحركات الى الاستعانة ب "الشركات الحربية الخاصة" تبعاً لقواعد السوق. ومن التطورات الملموسة أنه بينما انتشر الاستقرار على المستوى العالمي بل زادت المشاركة بين الدول، حتى تلك التي كانت متعادية قبل فترة قصيرة، في مواجهة التهديدات، نجد أن علاقات الدول على المستوى الاقليمي وربما الجبهات الداخلية لهذه الدول، تتجه الى عدم الاستقرار، إذ زادت المواجهات الدموية بينها وبين بعضها بعضاً، بل في داخلها، نتيجة لضعف النظم الاقليمية والسلطات المركزية. وفي الوقت نفسه زاد إحجام الدول الكبرى عن التدخل لحسم المواقف، كما جرت عليه العادة من قبل. فدروس التدخل في ليبيريا وسيراليون أفادت بأن الجماعات المتصارعة كانت تتصدى لأي محاولة لفرض السلام، لأنها كانت تحقق مكاسب مادية من استمرار عدم الاستقرار. وكذلك الحال في أنغولا وموزمبيق، حيث وجدت القوات الغربية نفسها عاجزة عن مواجهة الحروب تحت التقليدية التي تربح فيها العصابات. والتحول من خوض حروب تقليدية الى صدامات تحت تقليدية، سيحيل معظم عائلات الأسلحة الحالية، بخاصة المتقدمة منها، الى أكوام الخردة أو الى المتاحف. وقد واجهت القوات الاميركية موقفاً صعباً في الصومال خشيت من تورطها فيه، كما سبق أن تورطت من قبل في فيتنام وكمبوديا، وزادت خسائرها مع عدم قدرتها على حسم الموقف سياسياً، ما أدى الى انسحابها والعودة الى السياسة التي كان كاسبار واينبرغر وزير الدفاع الاميركي قد وضعها العام 1984 "بعدم التدخل في حرب لا تخدم المصالح الاميركية، شرط أن يكون التدخل - إذا تقرر ذلك - مضمون النتائج". وصدر القرار الرئاسي عام 1994 يوضح التوجيهات الرئاسية بخصوص اشتراك الولاياتالمتحدة في عمليات حفظ السلام في "المجالات التي تهدد الأمن والسلام العالمي أو إذا رؤي أنها تخدم المصالح الاميركية". وكان الحل البديل اللجوء الى "الشركات الحربية الخاصة"، خصوصاً حينما تراجع عدد قوات الأممالمتحدة لحفظ السلام من 000،76 فرد في ايلول سبتمبر 1994 الى 000،19 فرد في آب اغسطس 1997، وحينما قل حجم القوات المسلحة الاميركية الى الثلث منذ انتهاء الحرب الباردة والقوات البريطانية الى إجمالي 000،112 فرد، وهو أصغر حجم منذ معركة وترلو عام 1815، وقل حجم القوات الفرنسية من 547000 فرد عام 1987 إلى 000،381 فرد عام 1997. كما لوحظ أن غالبية الصدامات الداخلية لا تحسم إلا عن طريق القوة، ففي الفترة من 1900 الى 1980 كان حل 80 في المئة من هذا النوع من الصدامات عن طريق الانتصار في الحرب، 15 في المئة فقط عن طريق التفاوض، وفي الفترة من 1945 الى 1993 حدث 91 صداماً داخلياً ثم حل 57 نزاعاً منها 76 في المئة من هذه النزاعات كان نتيجة للانتصار الحربي، 14 في المئة منها عن طريق التفاوض، الأمر الذي جعل استخدام القوات التقليدية النظامية عالي الكلفة واضطر الدول الغربية الى السماح بتكوين الشركات الحربية الأمنية الخاصة لأنها تخدم سياستها الخارجية ومصالحها التجارية وأصبحت الشركات الاميركية والبريطانية تسيطر وتهيمن على السوق. وهناك تساؤلات جدية عن الفرق بين هذه "الشركات الخاصة" وجنود المرتزقة، ويتضح أن الفروق بسيطة غير حاسمة، ما يجعل تعريف هذه الشركات من الناحية الدولية يدخل في المناطق الريادية، علماً بأنه جرت محاولات جادة سواء في بروتوكولات، اتفاقية جنيف، أو ميثاق منظمة الوحدة الافريقية لتعريف المرتزقة بطريقة محددة: فالجندي المرتزق هو الجندي الذي يجند ليحارب في نزاع مسلح، وله دور في ذلك عن طريق المشاركة، وتكون له دوافع مادية من وراء هذه المشاركة، ويحتفظ بحقه في التعويض من الجانب المستخدم، وألا يكون عضواً في الأطراف المتنازعة أو مقيماً في مناطق النزاع بصفة دائمة. ولكن هناك فروقاً بين المرتزقة والشركات الخاصة، فعضوية الأفراد في الشركات دائمة وليست لمجرد المشاركة في عملية بعينها، وبذلك تكون المدد طويلة تبعاً لقواعد ثابتة. علاوة على أنه ليس محتماً أن يشترك أفراد هذه الشركات في المواجهات الدائرة كما هي الحال في وحدات المرتزقة. إذ يمكن أن تستخدم الوحدات لتقديم الخبرة في نواحٍ معينة أو لتدريب وحدات خاصة. كما أن هذه الشركات الخاصة لها علاقة بالحكومات التي تسمح بإنشائها بل تتعاقد معها لأداء واجبات معينة نظير أجر متفق عليه أو لتوفير دخل لهذه الحكومات. وعلى الرغم من احتجاجات بعض الدول ضد استخدام دول اخرى للشركات الحربية الخاصة، كاحتجاج استراليا على استخدام حكومة غينيا الجديدة عام 1997 لشركة "الساند لاين العالمية Sandline International"، وهي شركة بريطانية مركزها في لندن، بناء على عقد مقداره 37 مليون دولار للقضاء على إحدى الحركات الانفصالية، إلا أن هذا الاحتجاج وغيره لم يمنع بعض الدول من الاستمرار في ذلك على اساس أن تعرض مصالح الدولة للتهديد مع عجزها عن مواجهته، يبيح استخدامها أي عون خارجي بغض النظر عن القواعد الأخلاقية التي يتذرع بها البعض لنقد هذا الإجراء. أما الشركات البريطانية مثل "ساندلاين" و"خدمات كيني ميني"، فهي أقل اتصالاً بوزارة الدفاع وأصغر حجماً من الشركات الاميركية وأفرادها من المسرحين، خصوصاً من وحدات العمليات الخاصة. وهي أكفأ في تقديم الخدمات لخبرتها السابقة مع الحروب تحت التقليدية في آسيا وافريقيا. ويعمل بعض هذه الشركات حالياً في عمان بعدما تمت تجربتها بين 71 - 1976 لمواجهة الثورة في ظفار ويتم تعاقدها مع الحكومة العمانية. وتخدم هذه الشركات السياسة المرسومة لبلادها بطريقة غير مباشرة وتحقق دخلاً مالياً من مبيعات الأسلحة بتوجيه الحكومات التي تعمل معها الى الاسواق الوطنية، كما تعمل كساتر لأعمال الاستخبارات، وترفع من القدرة القتالية لجيوش البلاد ذات الأهمية الخاصة لبلد المنشأ، على أساس استخدام وحدات خاصة موجهة تُعفي الحكومات المعنية من التدخل المباشر بأفرادها كما تعفيها من النفقات. وأحياناً تقوم بالقتال لمصلحة الحكومة أو الجهة المستأجرة مثل شركة "العوائد التنفيذية Executive Outcomes EO" وهي تتبع جنوب افريقيا، ولا تخضع تماماً لسيطرة الحكومة، مثل الفرقة الأجنبية الفرنسية Foreign Legion، ولواءات الغوركا Gurkha البريطانية في الاربعينات والخمسينات وهي بمثابة "جيوش للإيجار" تعمل في إطار بعض الاحتياطات التي تفرقها عن المرتزقة المحرّمة دولياً، فهي تعمل "لخلق أجواء للسلام والاستقرار لتشجيع الاستثمار الأجنبي والمشاركة في قوات حفظ السلام وتقدم خدماتها لشراء المعدات تبعاً لطلب الزبون". وتحاول تلك الشركات أن تتأقلم مع تطور نوع الأزمات، فشركة "اتحاد المصادر العسكرية المحترفة قامت بأعمال مهمة بناء على تعاقد وقّعته معها الخارجية الاميركية أثناء أزمة يوغوسلافيا التي انتهت بتحللها، مثل وضع أجهزة مراقبة وتشغيلها على حدود صربيا، تنفيذاً للعقوبات الموقعة عليها. وانتهى التعاقد بعد 8 أشهر، بعد رفع العقوبات بعد اتفاق السلام في البوسنة والهرسك في تشرين الثاني نوفمبر 1995. ثم قامت الشركة نفسها بالتعاقد مع كرواتيا لتأهيلها للتحول من دولة عضو في حلف وارسو إلى نظام غربي يمكنها على المدى الطويل من الالتحاق بعضوية حلف الاطلسي، وعقدت اتفاقاً آخر معها لتحويلها الى النظام الديموقراطي وغير هذا الكثير مثل تعاقدات الشركة نفسها مع البوسنة في مجالات متنوعة، وتوفير صفقة أسلحة اميركية لها دفعت قيمتها كل من بروناي والكويت وماليزيا والسعودية ودولة الامارات، وبذلك فإن الشركة "تنفذ السياسة الاميركية بأموال غيرها"، كما قال أحد موظفي الخارجية الاميركية. ولهذه الشركات سلبياتها كما نرى، ولكن لن تمنع المستفيدين من طلب خدماتها واستئجارها. فالحكومة التي تعجز عن الانتصار على خصومها ستلجأ اليها تحقيقاً للاستقرار حتى لو كان موقتاً وحتى تتوفر الظروف الافضل للحسم السياسي. وسيستمر هذا الاتجاه ما دامت توفرت رؤوس الأموال التي تدفعها دول أخرى قادرة مثل ما حدث في البوسنة والهرسك. أو إذا تعذر ذلك فيكون الدفع من حصيلة ما يباع من مواد خام تستخرج من المناجم أو أشجار الغابات، مثل ما حدث في انغولا وسيراليون. وهذا يجعل مصادر المواد الخام غرضاً رئيسياً لعمليات الشركات الحربية الخاصة، فتعطي اسبقية للاستيلاء عليها ضماناً لسداد الفواتير. وإزاء تنامي تردد الدول الكبرى في نشر قواتها في المناطق القلقة فإن مستقبل هذه الشركات سيتعزز أمام النداءات التي تحرم استخدامها، فهي لا تحتاج لانشائها الى موافقات دولية، كما أن القوانين الدولية لا تحرمها أمام قدرتها الخارقة على الالتفاف من حولها، ولأنها - وهذا هو الأهم - جاهزة تحت الطلب لمن يطلبها ما دام سداد الفواتير مضموناً! * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.