منعت السلطات الصينية ثلاثة صحافيين من "اذاعة آسيا الحرة" من مرافقة الرئيس الأميركي بيل كلينتون خلال زيارته الأخيرة للصين. وفيما رأت الأوساط المتحفظة ازاء توثيق العلاقات بين الولاياتالمتحدةوالصين أن هذا المنع دليل انتفاء للحريات الاعلامية في الصين، فإن المدافعين عن الموقف الصيني يشيرون إلى أن سبب المنع هو تجنب التشويش على الزيارة وحسب، لا سيما أن "اذاعة آسيا الحرة" والتي يساهم في تحرير أخبارها واذاعتها عدد من المنشقين الصينيين، هي بنظر السلطات الصينية أداة ترويج دعائي، وليس مؤسسة إعلامية حيادية. حسن منيمنة يتناول الاذاعة والخلفيات: لا شك أن المسؤولين الصينيين، من خلال توفير الفرص للرئيس كلينتون بمخاطبة الجمهور الصيني مباشرة عبر الاعلام المرئي والمسموع، أرادوا تبديد الاتهامات بأن المنصة الاعلامية في الصين محصورة بالطرح الرسمي. وقد استفاد كلينتون بالفعل من الفرص المتاحة له، فدعا إلى توسيع رقعة الحريات، وأكد على الطابع العالمي لحقوق الإنسان، كما جاء على ذكر الأحداث التي شهدتها ساحة تيان ان مين عام 1989، حين قمع الجيش الأحمر الحركة الطلابية المطالبة بالديموقراطية. إلا أن بعض المعارضين الصينيين المقيمين في الولاياتالمتحدة اعتبروا أن المستفيد من مواقف كلينتون هذه ليست الحركة الديموقراطية الصينية بقدر ما هو النظام الصيني الحالي. ذلك ان الرئيس الأميركي، بحكم اللياقة الديبلوماسية، وانطلاقاً من حرصه على العلاقة مع الصين، كان خجولاً في إشارته إلى أحداث الساحة، وكان مقتضباً ومقتصراً على العموميات في سائر المواقف الناقدة للوضع السائد في الصين. فنتيجة كلامه على الصعيد الصيني الداخلي هي إذن تنفيس الاحتقان عبر إيهام الجمهور بأن التضييق على الآراء المعارضة ليس مطلقاً، بدلاً من التحفيز الذي تتمناه بعض أوساط المنشقين عبر تكريس القطيعة بين الحكم والجمهور. فالسبيل إلى بلوغ الجمهور الصيني، برأي هذه الأوساط، هو البث الاذاعي المباشر الصريح غير الخاضع للاعتبارات الديبلوماسية، وهذه هي مهمة "اذاعة آسيا الحرة" Radio Free Asia. ولا يخفى من الاسم الذي اختير لهذه الاذاعة ان المقصود منها اتباع نمط "اذاعة أوروبا الحرة" Radio Free Europe التي اضطلعت و"إذاعة الحرية" Radio Liberty بدور رئيسي في المعركة الاعلامية والدعائية التي خاضتها الولاياتالمتحدة مع الاتحاد السوفياتي في إطار الحرب الباردة. و"اذاعة آسيا الحرة" ومركزها في العاصمة الأميركية واشنطن، تبث إلى عدد من الدول الآسيوية الصين والتيبت وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس وكمبوديا وميانمار على الموجات القصيرة، وباللغات الوطنية. أما برمجتها فتشمل الأخبار المحلية والتعليقات السياسية. وفي حين يؤكد المسؤولون عن هذه الاذاعة التزامها الموضوعية الصحافية، فإن الموضوعية لا تعني الحياد، بل أن الموقف الثابت لهذه الاذاعة هو الدعوة إلى الديموقراطية وحرية التعبير وصوت حقوق الإنسان والكشف عن التجاوزات على هذه الأصعدة في الأقطار المعنية. وعلى الرغم من ان المسؤولين عن هذه الاذاعة يقدمونها على أنها "مؤسسة خاصة لا تتوخى الربح" ويشددون على استقلالية طاقمي الإدارة والتحرير فيها، فإن تمويلها مصدره السلطات الأميركية، بل ان قرار انشائها قد صدر عن الكونغرس عام 1992، في عهد الرئيس السابق جورج بوش، إثر توصية لجنة مشتركة من الحزبين "الجمهوري" و"الديموقراطي". وينفي العاملون في هذه الاذاعة عنها صفة التبعية للسياسة الأميركية، ويفسرون الدعم المالي والمادي لها من السلطات الأميركية بأنه ليس إلا دليل اتفاق في الرؤى والمصالح. والمستهدف الأول من "اذاعة آسيا الحرة" هو طبعاً الصين. لذلك فإن قرار انشائها قد قوبل بمعارضة وامتعاض في قطاع الأعمال الأميركي المتفاعل مع الصين، وكذلك في الأوساط الديبلوماسية التي اعتبرت أن هذه الاذاعة قد تؤدي إلى الاضرار بالعلاقة بين الولاياتالمتحدةوالصين. وفيما تمكنت هذه العلاقة ذات الأهمية القصوى لهاتين الدولتين من تجاوز هذا الإضرار، فإن بعض التوتر قد طرأ على علاقة الصين بكل من قزاخستان وأرمينيا منذ أن باشرت هذه الاذاعة البث في أيلول سبتمبر 1996 من محطات أرضية في كل منهما. وثمة معارضة من نوع آخر كان على "اذاعة آسيا الحرة" ان تجاببها قبل أن يستتب القبول بها ضمن التشكيلة الاعلامية والدعائية الأميركية، وهي معارضة إدارية. ذلك ان "اذاعة أوروبا الحرة" و"اذاعة الحرية" قد انتقلتا إلى براغ عام 1994، بناء على دعوة من الرئيس التشيكي فاتسلاف هافل، في تكليل لدورهما في اسقاط المنظومة الاشتراكية. أما سائر الأجهزة الاعلامية الأميركية الموجهة إلى الخارج، فقد تم دمجها في إطار "مكتب البث الدولي"، فأبرز المؤسسات التابعة لهذا المكتب هي إذن اذاعة "صوت أميركا" و"اذاعة مارتي" التي تستهدف كوبا. ولم يبق خارج هذا الإطار الجديد إلا "اذاعة آسيا الحرة" وبعض التجارب الاذاعية المتردية باتجاه العراق والتي مولتها أطراف رسمية أميركية مختلفة. وفي غياب السياسة الأميركية الواضحة في موضوع التواصل مع الشعب العراقي والمعارضة العراقية، وتسليمها هذا الموضوع لشركة استشارية خاصة في المرحلة الحرجة التي تلت حرب الخليج، تلاشت هذه التجارب الأخيرة، والبعض منها لم يبصر النور "اذاعة العراق الحر"، و"اذاعة الحرية" العربية، أما "اذاعة آسيا الحرة" فقد أشار جون هيوز رئيس اللجنة التي أصدرت التوصية بانشائها إلى أنها شهدت بعض المعارضة من المسؤولين في "صوت أميركا" لخشيتهم أن تشكل منافساً لاذاعتهم، إلا أن الاتفاق على توزيع المهام بدد بعض هذه المخاوف. ف "صوت أميركا" مختصة أساساً بالاخبار الدولية، و"اذاعة آسيا الحرة" معنية أولاً بالأخبار المحلية. ويبدو أن المعارضات المختلفة، الإدارية والسياسية والاقتصادية، قد ساهمت في المحافظة على الاستقلالية التنظيمية ل "اذاعة آسيا الحرة"، ومكنتها من إعداد برمجة تفوق في درجة تسييسها القدر المتوفر للبث باللغات الصينية ضمن إطار "مكتب البث الدولي". وعلى الرغم من جهود التشويش التي تقدم عليها السلطات الصينية، فإن مصادر المنشقين الصينيين تشير إلى اتساع الاستماع إلى "اذاعة آسيا الحرة" داخل الصين. ويتحقق ذلك أيضاً من الادانات المتكررة لهذه الاذاعة التي توردها الصحافة الرسمية الصينية. وفي حين ان "إذاعة آسيا الحرة" تقدم فعلاً لعدد من المنشقين الصينيين المقيمين في الولاياتالمتحدة الفرصة لمتابعة نشاطهم التحفيزي، فإن جملة من العوامل تعترض طموح المسؤولين عنها لجعلها نظيرة "اذاعة أوروبا الحرة" و"إذاعة الحرية" في دورهما المفترض في اسقاط النظان الشمؤلي وإحلال الديموقراطية، ففي حين بلغت الميزانية السنوية لهاتين الاذاعتين 220 مليون دولار، فإن "اذاعة آسيا الحرة" قد ابتدأت بميزانية متواضعة لم تتجاوز 10 ملايين دولار، واكتفت باستئجار معدات البث. وعلى رغم الجهود المبذولة في الكونغرس لرفع مستوى التمويل، فإن الحاجات المادية لهذه الاذاعة من العتاد والتجهيزات تتعدى الأرقام التي يتداولها المتفائلون بزيادة المنحة السنوية، وحتى إذا ذلل دعاة دعم هذه الاذاعة المعارضات التي تواجهها، فإن الإدارة السياسية الأميركية غير متوفرة لالتزام تطويرها، إذ أن ذلك من شأنه أن تعتبره القيادة الصينية خطوة تصعيدية. والصحافة الصينية الموالية للحكم غالباً ما تلجأ إلى وصف "اذاعة آسيا الحرة" بأنها عودة إلى الحرب الباردة. والواقع ان الحكومة الأميركية ليست في موارد العودة إلى هذه الحرب، فلا بأس بهذه الاذاعة وسيلة ضغط بقدر محدود على السلطات الصينية، وطمأنة محلية للمعارضين الصينيين ودعاة حقوق الإنسان بأن التطبيع مع النظام الصيني سوف يبقى منقوصاً، أما التفريط بالعلاقة مع السلطات الصينية، فلا. ثم أن الوضع الاعلامي في الصين يختلف عنه في المعسكر الاشتراكي في زمن الحرب الباردة كماً ونوعاً، فعلى الرغم من استفحال الرقابة في الصين وملاحقة الصحافيين وسجن البعض منهم للتعبير عن آراء خارج الإطار المسموح به، فإن تكاثف النشر والبث يجعل من عملية الضبط أمراً شاقاً. وعودة هونغ كونغ إلى الصين، مع نجاح الحركة الديموقراطية فيها بالمحافظة على قدر من حرية التعبير غير متوفر في سائر الصين، تفتح المجال أمام تفاعل اعلامي لم تكتمل ملامحه بعد. وأخيراً، لا آخراً، فإن انتشار الانترنت، وفشل السلطات في ضبطه تحت شعار المحافظة على الاخلاق والقيم الصينية، يشكل منفذاً فائق الأهمية للحصول على المعلومات غير الخاضعة لرقابة الدولة. "اذاعة آسيا الحرة" هي إذن وسيلة واحدة وحسب من مجموعة وسائل تسمح ببلوغ الجمهور في الصين من دون واسطة الحكم. وتعدد هذه الوسائل بحد ذاته، يفرض على هذه الاذاعة الاجتهاد للتقيد بالموضوعية تحت طائلة إهمال الجمهور المستهدف لها. ليس بوسع هذه الاذاعة التي تمولها السلطات الأميركية إذن أن تكون مجرد أداة دعائية لخدمة المصالح الأميركية. والمفارقة أن هذا هو موطن الضعف وموطن القوة فيها على حد سواء.