في نهاية القرن الرابع الهجري، بداية القرن الحادي عشر الميلادي، أسس حماد المنحدر من الاسرة الزيرية التي حكمت الجزائر باسم الفاطميين، عاصمته قلعة بني حماد - على بعد نحو ثلاثين ميلاً من مدينة المسيلة اليوم - واستقل عن الزيريين ابناء عمومته، بعد ان خدمهم بإخلاص وقمع تحت رايتهم ثورات الزناتيين. وتعد فترة حكم الحماديين من اغنى فترات تاريخ الجزائر الاسلامي، حيث بلغ الرقي الحضاري والثقافي شأواً بعيداً، خصوصاً في مجال العلوم والعمارة. بنى الحماديون قصوراً عظيمة ومساجد ما يزال بعضها قائماً الى اليوم، وسنذكر في هذا الصدد ثلاثة من المساجد التي شيدوها في كل من قلعة بني حماد وقسطنطينة وعنابة. لم يتبق من مسجد القلعة غير المنارة والاجزاء السفلى من الاسوار وبعض قواعد الاعمدة، ويبدو ان اندثار المسجد كان بسبب انتقال الحماديين الى مدينة بجاية التي اتخذوها عاصمة لهم منذ بداية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، فأهمل المسجد كما أُهملت القلعة كلها. ويتّضح من معاينة ما تبقى من هذا الاثر انه كان يتوفر على قاعة كبيرة للصلاة يتجاوز طولها خمسين متراً وعرضها ثلاثين متراً، وثمانية ابواب يوجد اثنان منها في الحائط الشرقي وآخران في الحائط الغربي وأربعة ابواب بالجدار الذي به المحراب اغلق أحدُها، وهو المؤدي الى قاعة سفلية. أما الاروقة الخمسة المركزية الموجودة بالمسجد فتبدو معزولة عن المساحة الباقية من قاعة الصلاة بواسطة سور يبلغ ارتفاعه اليوم نصف متر او يزيد قليلاً. ولم يعرف فناء المسجد تحولات. فبينما يوازي طوله طول قاعة الصلاة لا يتعدى عرضه ثلاثين متراً. وله بابان احدهما يفضي الى الشرق والآخر يفضي الى الغرب وباب ثالث يقع جهة الشمال. ويغطي الفناء سقف ابيض، ويتوسطه خزان يتخذ شكل قوس منكسر. وفي اقصى الفناء، جهة الغرب توجد المطاهر. وفي الشرق بقايا حجرة سقفها من الحجارة يقسمها قوس محمول على عمودين الى قسمين. اما الجدران الشمالي والجنوبي فلكل منهما حامية مسطحة، ولا شيء يلفت الانتباه في الجدار الغربي. ولم يتبق من اعمدة المسجد سوى تلك المصنوعة من الحجارة، اذ اندثرت كل الاعمدة التي قيل انها كانت مصنوعة من المرمر الوردي والابيض. تحتفظ قاعة الصلاة بآثار لأربعة اعمدة، كما عثر في الفناء على آثار اكثر من ثلاثين عموداً يتراوح طولها ما بين نصف المتر والمترين. ووجدت اربعة تيجان وهي على الاقل نوعان منها ما هو مصقول ومنها ما هو مزخرف بأوراق الاكاسيا. ومحراب المسجد اسطواني، وهو اكثر عمقاً من محاريب المساجد المشيدة في هذه الحقبة، واحتفظت لنا المنارة ببعض الاقواس التي تكشف عن اتجاهات الزخرفة في ذلك الوقت، وهي اقواس متنوعة ما بين نصف دائرية ومنكسرة ومفصصة. أما مسجد قسطنطينة فيعود تاريخ بنائه الى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، وهو اصغر مساحة من مسجد القلعة حيث لا يتجاوز طوله خمسة وعشرين متراً وعرضه اثنان وعشرون متراً. به اربعة ابواب يتجاوز عرض الواحد منها متراً ونصف المتر، اما اروقته فهي متباينة المسافة اذ يتراوح عرضها ما بين الثلاثة والاربعة امتار. ويعد المسجد متحفاً لأنواع وأشكال مختلفة من الاعمدة فمنها اللولبية والملساء والمحدبة، وكلها غاية في الصنع والاتقان، مع العثور ايضاً على الاعمدة المجمعة عند المحراب، ولا يتوفر اي من هذه الاعمدة على قواعد حيث توجد مغروسة في الارض مباشرة، وليست التيجان في هذا المسجد اسلامية الطابع، ما عدا التاج الذي يعلو اعمدة المحراب، وهو مصنوع من صف واحد من اوراق الاكاسيا. ويزخر مسجد قسطنطينة بتنوع اقواسه، حيث نعثر على الاقواس نصف الدائرية التي استعملت من قبل والقوس المنكسر الى اعلى والقوس الفارسي والقوس المفصص الذي نراه الى اليمين من المحراب على مساحة منقوشة على الجدار الجنوبي. وتوجد بلمسجد اشكال زخرفية متنوعة اهمها المنافذ التي نعثر على ابرزها ذلك الواقع في الجدار الجنوبي والذي يتخذ شكل القوس ويشكل اطاره اربع لوحات منقوشة عليها خطوط كوفية وأشكال هندسية. وأما المنفذ الثاني فيتخذ شكل القوس ايضاً وقد نحت داخل مستطيل طولاه من اسفل الى اعلى، ويقع يمين المحراب على الجدار الجنوبي، يتشكل محيطه من مستطيلات صغيرة ودوائر متعاقبة بانتظام. وفي الوسط تُلاحَظ مجموعة دوائر متشابكة وداخل كل دائرة مربع يشكل مركزُ الدائرة نقطتَه المركزية. أما المنفذ الثالث فيضمه الجدار الشرقي وهو مستطيل الشكل يتكون من ثلاث طبقات تتشكل الاولى، وهي السفلى، من اعمدة دقيقة تنتهي بأقواس تتصل بها انصاف دوائر محيطاتها الى اسفل وأقطارها الى اعلى وتتشكل الطبقة الثانية من شبكة تصنعها مجموعتان من الخطوط المائلة: إحداهما من اليمين الى الشمال والثانية الى الاتجاه المعاكس. وأما الطبقة الثالثة، وهي الاكبر فتنتشر فيها نقوش تتخذ اشكال الدوائر الصغيرة والمثلثات. والمسجد غني بالزخارف المتنوعة، اذ نعثر به على زخارف نباتية استعملت فيها السيقان والسعف والازهار والفواكه، وزخارف هندسية من مربعات مختلفة الاشكال ومثلثات ومُعينات ونجوم ودوائر وأقواس، وزخارف خطّية كتبت بها آيات قرآنية والبسملة والادعية في اماكن كثيرة. وقد استعمل الفنان المسلم في ذلك العهد موادَّ متنوعة للبناء والزخرفة اهمها المرمر والجبس والخشب والزجاج والخزف. أما مسجد عنابة والمعروف بمسجد سيدي أبي مروان فقد بني في اوائل القرن الخامس الهجري وعرف عدة تغييرات اهمها تلك التي ألحقها به الاتراك. ومع مجيء الفرنسيين شوّهت صورته الهندسية واتخذ منذ العام 1841 مستشفى، قبل ان يعاد له اعتباره فيما بعد. قاعة الصلاة بهذا المسجد مربعة يبلغ ضلعها نحو عشرين متراً، وهي بذلك اصغر من قاعتي المسجدين السابقين، وبها ستة ابواب توجد ثلاثة منها بالجدار الغربي، وتضم القاعة سبعة اروقة وسبعة ممرات. ولم يحتفظ الفناء بالكثير من ملامح الحقبة الزيرية الحمادية عدا المنارة والحجرة التابعة لها حيث يرقد الولي الصالح سيدي أبو مروان منذ اوائل القرن السادس الهجري. ويحاط الفناء برواق يقوم بائكةً يحمل جزؤها الجنوبي ثمانية اقواس موجهة من الشرق الى الغرب محمولة على اعمدة وتسعة اقواس موجهة من الشمال الى الجنوب، وعلى محور المحراب توجد قبة البهو. وكان يوجد ناحية الغرب والشرق ستة اقواس محمولة على خمسة اعمدة. والاعمدة في مسجد سيدي أبي مروان لولبية وذات ابعاد متساوية اذا قسنا على تلك الموجودة في مقدمة المحراب وتلك التي ترتفع فوقها القبة. والاقواس في هذا المسجد نصف دائرية كلها تتخللها زخارف متنوعة من الجبس، وحسب كثير من الدارسين فإن مسجد سيدي أبي مروان يشبه المسجد الكبير بالقيروان وكثيراً من الآثار التونسية المشيدة في القرن التاسع الميلادي من حيث: الرواق المركزي العريض والقبتان المحمولتان على اعمدة ويشبه النمط المعماري الصنهاجي من حيث طريقة التلبيس. وفي قبته، والتي على غرار قبة الزيتونة، لا تحتوي على الصحن المضلع بين الصحن المربع والقبة النصف دائرية، ويظهر التشابه ايضاً من خلال زخرفة القبة المكسوة بحلقات. كما استعملت فيه ادوات وعناصر الزخرفة ذاتها التي نجدها في مسجد قسطنطينة مع فارق بسيط في التنويعات الخاضعة للاذواق المتجددة. وواضح، من خلال هذا، ما كان للحماديين والزيريين من دور رائد في طبع المعالم الدينية الاولى في الجزائر بطابع اسلامي يجمع بين فن العمارة الشرقي وبعض الملامح المحلية ذات البعد الافريقي. وفي ذلك كله تأكيد على اسهام اهل هذه المنطقة، وخلال تلك الحقبة من التاريخ في اثراء جانب مهم من جوانب الحضارة العربية الاسلامية، ولا يزال الناس، الى يومنا هذا، ينظرون الى تلك المعالم باعتزاز شديد،