توفيق الجبالي، كما يصفه بيار أبي صعب في كتيّب خاص عنه "فنان مزعج لا يستقر على يقين، ولا يدخل في إطار جاهز، ولا تحلو له الإقامة في غيتو المسلمات والأفكار الناشزة". فمن عمل الى عمل ينتقل هذا المخرج من عالم الى عالم. وكل عمل تجربة جديدة. بين "كلام الليل" و"عطيل" مسافات في مستوى الخطاب الموضوعي والفني... لكنهما تجربتان تتجادلان في نسج الخطاب القائم من أجل رسالة مسرحية جديدة ومختلفة وذات خصوصية. قدّم الجبالي "عطيل" في تونس وعمّان وسوف يقدّمها في عواصم اخرى وقد اقتبس نصّه عن النص الذي ترجمه الراحل جبرا ابراهيم جبرا. ساهم معه في انجاز العمل السينوغرافي والديكور الفنّان محسن الرايس، وقامت ملاك السبعي لتصميم الرقص، بينما قام بدور عطيل زياد التواتي، وفي دور دزدمونة عفاف الحاجي. وكلا الممثلين يخوضان، للمرة الأولى، تجربة التمثيل المسرحي. عن مسرحيته "عطيل" خصوصاً، وتجربته المسرحية عموماً، أقمنا معه هذا الحوار: لنبدأ من "عطيل" شكسبير، هذا العمل الكبير. أنت لم تأخذ منه سوى الجوانب التي تخص العنف وممارسة السلطة. هل حاولت ان تعكس واقعاً ما؟ وهل كان ذهابك الى شكسبير، أم الى عطيل تحديداً؟ - أولاً، لم يكن اختياري محدداً ب"عطيل"، ولم يكن مبرراً تماماً. فقد كان يمكن أن يكون نصاً آخر. ثم انني ذهبت الى شخصية "عطيل" اكثر من ذهابي الى عالم شكسبير كمؤسسة تاريخية. أعجبني في "عطيل" عدد من المواصفات المطابقة لشخصية تمارس القوة والعنف والسلطة في مجتمعاتنا، سواء كانت سلطة منظمة ولها شكل مثل الدولة أم كانت شخصية من الحياة العامة... من مواصفات هذا ال"عطيل" أنه ابن تربة فكرية وثقافية، ويمتلك نفسية معينة، انه شخص في مجتمع غير مجتمعه الثقافي، وهو خادم لهذا المجتمع، وعنده عقدة لونه الأسود - رغم كونه يتحدر من أسرة نبيلة. هذا جانب. ثم هناك البارانويا كونه عسكرياً أقرب الى العنف المنظم ولو لمصلحة شعب هو أجير عنده. تناولت أيضاً سذاجته في استقراء الوقائع بشكل فيه كثير من الفنتازيا. فهو يقدم نفسه كشخص لديه عقدة ذنب وحزين ومرهف ومأسوي. هذه المكوّنات تقيم جدلاً بين عطيل كخرافة وما يوجد منه في الواقع الاجتماعي، وهذا ما يمكّن من الصعود به الى الميثولوجيا من جهة، مثلما عملت على انزال عطيل الأسطورة الى الواقع من جهة ثانية، عن طريق ربطه بالواقع وتجريده من خياليته، ليكون جزءاً من واقع عام محكوم بمنطق العنف ضمن أسس فكرية وآليات نظرية. ووجدت ان احتقاره لنفسه كونه أسود - يظل يكرر "لأنني أسود" - يشبه حال الانسان العربي الآن. لهذا لم تكن معالجتي اجتماعية، بل كانت عبارة عن لعبة تبادل أدوار بين البطل النموذج والإنسان الواقعي الذي يصعد ويهبط في لعبة تقود الى اتحاد الواقع بالخيال. أنت قدمت عطيل الذي يخصك، فما الذي تبقى من عطيل شكسبير؟ - قيمة نصّ "عطيل" تكمن في شعريته وليس في حدثيّته، فهذه المسرحية تعدّ من المسرح الحديث لأنها لا تنطوي على البنية التقليدية حدث وذروة... عطيل قرر ان يقتل دزدمونة منذ الفصل الأول، وكانت الشحنة العاطفية تقود وتدفع باتجاه عملية القتل. وبدون تغيير السياق في نص شكسبير، وبالحفاظ على تسلسل النص، قمت بتجنب الفصول التي تحتوي على اللغو زيادات غير درامية، وحافظت على ما يقوله كل من عطيل ودزدمونة، وتصرفت بالمشهد الأخير فكررت عبارات القتل. وجعلت عطيل يتبنى مقولات ياغو، لأنه يغدو مسكوناً بياغو الذي يخصه. فيكرر مقولته "ليس لنا جميعاً أن نغدو أسياداً، ولا الأسياد جميعاً بإخلاص يُتبعون". أظن أن المواقف الصارمة التي يقولها نص عطيل بقيت موجودة، أنا نحيّت المتممات. وقد جعلت لغة العرض بالفصحى لأحافظ على شاعرية النص، كي لا ينزل الى المستوى الشعبي، ولأن اللغة الفصحى قريبة من لغة السلطة والحكم ومن الخطاب الرسمي والتفكير المؤطر. وكل ما عدا هذه الأقانيم جعلته باللهجة العامية، خصوصاً الحوار الذي لا تواصل فيه بين عطيل ودزدمونة. هنا كان ينبغي ابراز عدم التواصل عبر اللغة. ولكننا في العرض الأول لم نسمع الكثير من الحوارات، فهل كان من مشكلة، أم أنك قصدت عدم التوصيل؟ - نحن لم نسقط من الكلام شيئاً. لكنني لم أجعل من الكلام عنصراً زائداً، بل أسلوباً غير محمول على الشخصيات، يقولونه كصدى لكلام سمعوه، أو شعر يلقونه، لأنه ليس كلامهم، بل حفظوه وتبنوه كما يتبنى الناس ايديولوجيات لا يفهمونها. ربما كانت في العرض الأول مشكلة تقنية جعلت الكلام لا يصل، لكننا تداركناها في العرض الثاني. قنيات وجماليات بدا في العرض أن ثمة اشتغالاً على التقنيات والمشاهد الجمالية معزولاً عن النص وعناصره. فهل تعتقد ان الجماليات لذاتها يمكن أن تخلق عملاً مسرحياً؟ - أنا أرى أن التشكيلات الجمالية في حد ذاتها يمكن أن تكون هدفاً، وأن يقوم عمل على هذه التشكيلات، ويكون عملاً مسرحياً. أما في عملنا، فهي مبررة، وقد أردنا أن تكون اللغة الحركية لغة خاصة بالعرض، وخاصة بالحالات التي يمر بها العرض، فقد ابتكرنا "نحواً" حركياً خاصاً بهذه الشخصيات حتى لا تحيل الى أي سلوك يشبه السلوك الاجتماعي. أردت أن نخلق شخصيات تراجيدية بأن نأخذها من أسفل إلى أعلى وبالعكس، فهذا يقودنا الى سلوك تراجيدي - بالمعنى الطقوسي المسرحي. فيما عدا ذلك، لا أظن ان العناصر البصرية تتناقض مع بنية العرض التي اعتمدتُ فيها أن تكون السينوغرافيا فضاء للانعكاس الازدواج حيناً، وللتفرد والنرجسية والبارانويا والانفصام حيناً آخر. وللتجمل والأنوثة أيضاً، وللمفارقات بين الشخصيتين. الفضاء بالنسبة إليّ، إناء يحتوي ذلك بشكل بليغ. في الإضاءة، أردنا إظهار القبح الذي يمارس، ولكن في نتيجة جميلة مشهدنا. وكان - لذلك - لا بد أن نمر عبر تقنيات لا أعتقد أنها معقدة. فالعرض بسيط في تقنياته، لكنني اخترت له اشارات في الإضاءة غير رقيقة خام من أجل اظهار العنف والقسوة والقمعية التي نراها على أبواب السجون أو فوق التماثيل والأنصاب. من هنا كان الاستخدام الكثيف للأبيض والأسود؟ - تماماً. لم نستخدم الألوان، لأن الألوان توحي بالزينة، وهذه لا نريدها. حتى الملابس لم نستخدم معها الألوان الا في اللحظات الوهمية التي يتحول فيها الشخص الى آخر في المرآة. وقد كان اهتمامنا الأساسي بالتشكيلات البصرية الصور، وهذا مرغوب لكن ليس للتعتيم على النص أو لتغييبه. والحقيقة أنني حاولت ان اعطي للزمن بعداً قمعياً، لأن الفرضية والقوة تطرحان ذلك. لكن هذه المعالجة تبدو مرفوضة، لأن الناس تريد أن ترى الزمن النفعي. ولو كان المشاهد أكثر سخاء لكان في الإمكان تمديد الزمن القمعي فترة أطول. لكن زمن السجين غير زمن السجان. وزمن المخرج غير زمن الجمهور! أنت كمخرج تستمتع بخلق مشاهدك وجمالياتك وبربطها مع خطاب العمل، لكن الجمهور يحتاج الى وقت حتى يتابع هذا الربط، فما الذي تفعله؟ - لو أخذت حريتي، لكان زمن العرض 4-5 ساعات، بالمواد المستخدمة نفسها، ودون أية اضافات، أو اغراءات، لكن - للأسف - كون المتلقي، غير المتعاطف، يرى الأشياء من زاويته، يفرض علينا ان نأخذ رغبته بالاعتبار من أجل التواصل معه. لو عدنا الى أعمالك، وتحديداً "كلام الليل" لوجدنا التوازن بين النص والصورة أكبر مما هو في "عطيل". فهل ثمة فلسفة جديدة للعلاقة بين هذين العنصرين؟ - من خلال خبرتي المواضعة في فهم المسرح، لا أرى تناقضاً بين النص والصورة في العمل المسرحي. فكل عناصر العمل مترابطة. ربما أخذ النص الأدبي الآن يفقد السلطة، لأنه في سياق مسرح كان النص يلعب فيه دوراً أساسياً، وفي مسيرة تحولاته، وفي وجود فنون بصرية أعطت المسرح وسائل تعبير أكثر تجريداً من النص، صار المجال أمامنا مفتوحاً. أنا مع هذا المجال المفتوح. ثمة أعمال تحتمل النص وتقوم عليه، وأعمال تنهض على عناصر أخرى. و"كلام الليل" عمل مؤسس على اللغة - لغتنا المنطوقة. هذا لا يعني أنه يقوم على السرد. فهو أيضاً عرض بصري. وبدون هذه الثنائية يبدو النص غير مُمَسْرَح، وغير موجود في فضائه المسرحي. أردت أن أقول ان النص والصورة كانا في "كلام الليل" متوازنين. هنا، في "عطيل" نفتقد هذا التوازن وتهيمن الصورة؟ - ربما، هذا صحيح. لكني لا أتصور أن في عرض "عطيل" كلاماً ناقصاً أو زائداً. ما أتصوره هو أن الكلمات قد لا تعبّر عن هدف الفكرة، فتأتي الحركة لتعوّض عنها. وقد سبق وقدمت عملاً صامتاً دون حركة أو كلام، في كثير من المهرجانات، وقيل فيه ما قيل من إلغاء للفعل المسرحي. لكنه عمل مشغول بجدية. لا شك أن اللغة، كعنوان تفكير، أقرب الى الفهم، ولكن ليس دائماً. بين فضاءين عودة الى "عطيل"، فأنت استخدمت شاشة التلفزة لعرض مقاطع من فيلم "عطيل" او رسون ويلز، ومشاهد حروب وقمع... ما الهدف من اعتماد هذه التقاطعات؟ - كان هدفي، أولاً، إقامة علاقة جدلية بين الفضاء القمعي الذي تقبع فيه دزدمونة في فراشها أو سجنها... وما يتصل به من الفضاء الخارجي عبر الأداة الاتصالية الأشد تأثيراً في أدمغتنا وحياتنا - التلفزيون الذي نقلنا عبره مشاهد عنف وحروب ومسلسلات بوليسية. وكل المنظومة الفكرية التي تشكل الإنسان في عصرنا... فهذه هي التي تصنع أحاسيسه وكيانه، وتجعله أسيراً لها، توجه وجدانه وتفكيره. لقد وجدت في فيلم "عطيل" الحرب والمؤامرة والتجسس والقتل، فاتخذته نموذجاً. ووجدت اعلان بوش الحرب ضد العراق خبر تمثيل للعنف هنا يقول عطيل: في المدينة حرب، وقلوب الناس خائفة. ماذا عن اختزال شخصيات العمل الى شخصيتين فقط؟ - أنا أقمت العرض على فكرة سوء التفاهم والاتصال بين دزدمونة وعطيل، وهذا يبدأ من عدم المعرفة بالآخر، الأمر الذي أدى الى القطيعة ثم العنف. وفي نهاية الأمر تحدث الجريمة لأن دزدمونة لا تعرف لماذا يسألها عطيل عن المنديل ويلح على احضاره. ومن حيث المبدأ، فليس ثمة اتصال لعطيل بزوجته، وهي لا تقيم اتصالاً معه لأنه - بالنسبة اليها - اسطوري. أنا جعلت الحاجز بينهما طبيعياً وفكرياً وسياسياً، وليس عرقياً. ولهذا اخترت ممثلين أسودين؟ - تماماً، فقد أردت اسقاط المبرر العنصري وراء قتل عطيل لدزدمونة. لم أشأ أن يظهر هو شرقياً أهوج وهي شقراء حضارية... فهي تتحمل جزءاً من مسؤولية العنف لأنها صمتت عنه حين مارسه عطيل ضدها. وماذا عن النهاية - نهاية دزدمونة؟ - كانت الفكرة هي أن لا تكتمل صورة العنف لتبقى مفتوحة على احتمالات عدة، ولم يكن العنف مشخصاً كنهاية حاسمة، لأنه مستمر. وماذا تقول عن اختيارك ممثلين جديدين يمثلان للمرة الأولى؟ - سعيت منذ البداية للبحث عن ممثلين ببشرة سوداء. ولم أنجح في العثور عليهما في الوسط المسرحي التونسي. فكان عليّ! ما أن أعمل مع ممثلين ببشرة بيضاء ونصبغهما كما فعل ويلز، أو نبحث خارج المحيط المسرحي، وفوجئت أن تعامل هذين الشخصين كان سهلاً، لأنهما خام. وقد استطاعا أن يبتكرا حركات ليس فيها تقليد لحركات مألوفة، بل طبيعية وجديدة تعكس قيمته الإنسانية وتوقه ليلعب دوره بطبيعية واجتهاد. لديك وجهة نظر حادة في العلاقة بالجمهور المسرحي، فأنت تطالبه بالكثير ليتمكن من التواصل معك، في ظل تراجع ثقافي وانهيار للقيم؟ - بصراحة، نحن شعوب ليس عندنا شيء - لا مسرح ولا مسارح ولا مسرحيون. رصيدنا لا شيء. ما الحل؟ كيف نعيد مجتمعنا، ونساهم في المسرح العالمي، وكيف أسلك سلوكاً مسرحياً تلقائياً في بلدي، وفي الوقت نفسه أخاطب الآخرين في العالم؟ هذا كله صعب، لأنه يفترض منا إقامة الاتصال بلغة معينة. وإذا لم نكن نملكها - ليس في المستوى البيداغوجي/التربوي، ولكن الاتصالي - فكيف نتخاطب، سواء في مجتمعنا التائق الى الحداثة ووسائل الاتصال الحديثة، أو مع العالم! مجتمعنا الآن يؤسس حياة عصرية في جوانب كثيرة ما عدا المجال الفكري والثقافي عموماً فهو ينغلق. علينا أن ننتج مسرحنا و"خصوصيتنا" شرط ان نبتكر، والابتكار يعني التجاوز. وهذا لا يأتي الا بعد هضم تجارب عالمية، والمساهمة - ليس كمقلد، بل كمبدع، الى الآن، معظم مسرحنا يتحرك من واقع العقد وليس بحافز الابداع - عقدة الآخر وتقليده. المسرح أصبح فن ضعفاء الحال والمجموعات الإنسانية المحرومة. وهو في يد الأقليات، لأنه لا يدر أموالاً ولا يمثل سلطة. والحال عندنا كالحال في كثير من دول أوروبا. يشكون من الهموم نفسها. طبعاً ليس ثمة - في رأيي - مسرح شرقي وآخر غربي. المسرح هو فن الجنوب بامتياز. وأعتقد أن في الإمكان أن نساهم بشكل ما في التواصل مع المسرح العالمي. هنا تبدو متفائلاً، بينما تابعت الكثير من مظاهر تشاؤمك؟ - أنا متشائم الى الحد الذي أقول فيه ان هذا المسرح يمكن أن ينقرض، ولكن، أعتقد أن العالم يشهد منذ عشر سنوات صحوة مسرحية وعودة الناس الى المسرح وعودتهم الى السينما والكتاب أعني في العالم وليس عندنا. أما مجتمعنا فلا يزال يتخبط. كيف تغامر إذن وتقدم عملاً مسرحياً ليس له جمهور؟ وفي مجتمع متخلف؟ - تجربتي في تونس، تقوم - منذ عشر سنوات - على لعبة تجلب الناس الى مسرحي من جهة، ولكنها مرفوضة من قبل آخرين. يعني "كلام الليل" مثلاً يمكن أن تعرض ستين عرضاً والمسرح مكتظ. لكن هذا يحتاج لعبة. ورغم اتهامها بالنخبوية والعبثية في البداية، صارت جماهيرية حتى أنني كرهت الجماهيرية، ورفضت تقديمها في صورة تجارية، لأنني أريدها أن تبقى هامشية. كيف يمكن أن يكون العمل شعبياً - جماهيرياً وهامشياً في آن!