اعادت تظاهرة المحتجين الأمازيغ على وضع قانون التعريب في الجزائر موضع التنفيذ - المجمّد منذ عهد الاستقلال - فتح ملف مطالب الأقليات وواقعها القانوني في العالم الاسلامي، وهو احد اعقد الملفات بسبب تراكم سياسات متناقضة تنظر الى الامور، غالباً، من زاوية الخوف والتردد والشعور بالمؤامرة المستمرة الحاضرة للانقضاض علينا في كل لحظة. ولئن برزت المشكلة في الجزائر بسبب تسليط اضواء الاعلام عليها، فان مشاكل مشابهة موؤودة في مناطق كثيرة بسبب التجاهل والنسيان وعوامل اخرى. كان مشهد المواجهة بين قوات الدولة من جهة والمتظاهرين الامازيغ الذين كانوا يرددون شعارات تتعلق بحقوقهم الثقافية - كما يرونها - لا يخلو من مفارقات. فالدولة جاهزة في وجه هؤلاء الذين يعلنون عن مطالبهم ويمارسون الاحتجاج بطرق سلمية، بينما تراها غائبة - او هكذا يبدو - في مواجهة الذين لا يعلنون عن مطالبهم ولا هوياتهم ويعبّرون عن رفضهم لها ولسلطانها بمذابح تطال المدنيين دون سواهم. والأمازيغ ليسوا الاقلية الوحيدة في الجزائر، ولا غيرها من اقطار العالم الاسلامي، المتداخلة والمتفاعلة مع محيطها خلال قرون امتدت من فتح الشام وفارس وشمال افريقيا الى لحظتنا التاريخية الراهنة، بحلوها ومرّها. والكلام عن حقوق الاقليات لا يزال يشكّل حاجزاً يتأسس على الخوف العميق من الضعف الذي يقيد حاضرنا، وعلى التخوف من استغلال المتربصين لكل مشاكلنا لتصب في مصالحهم ومخططاتهم. ولذلك يفضل بعضهم القفز فوق الحقائق على الخوض فيها. والتطرق الى الوضع الجزائري على وجه التحديد، غوص في رمال متحركة. فالساحة الجزائرية لا تزال منطقة تخضع لسحب الدخان المتصاعدة من حريق لا يبدو في المستقبل القريب اية نهاية له، وتصعب في خضمه الرؤية الى حد تخرج المتحدث في خصوصياتها من اطار الموضوعية الى دائرة التخبّط. والتعرّض للتعريب يشبه التعرض للثوابت من قواعد الحلال والحرام، لأن التعريب ارتبط في اذهاننا جميعاً بالاسلام نفسه، وبالتحرر من سلطة المستعمر الغربي، وبالتأكيد على الهوية الحضارية لأمة كانت في يوم من الايام تصنع الحضارة وتجذب اليها الباحثين عن مستقبل مشرق لهم ولأممهم. وبالعودة الى عهد الفتوحات، يوم كانت الامة في ذروة تألقها الحضاري الحيوي، استطاع ما يقل عن عشرة في المئة من السكان ان يحتضنوا الكثرة الكاثرة من اهل البلاد المفتوحة، شمالاً وشرقاً وغرباً، بسياسة التقارب والتفاهم لا بلغة الحديد والنار. والتاريخ يشهد ان قلوب اهل الشام كانت ترنوا الى العرب الفاتحين لتتخلص من جور البيزنطيين الذين فرضوا بالقوة لا بالحجة قوانينهم ومذهبهم الديني ولغتهم على بقية السكان، وحكموهم بقوانين شبه عسكرية، وقادوا ابناءهم الى حروب سطروا فيها مجد القادة الحاكمين، ولم ينالوا هم انفسهم سوى القتل والاعاقة والأسر. ومثل هذا يصدق على الاقباط في مصر، وقد يسّروا للقائد المسلم عمرو بن العاص فرص التمكن فيها بعدما اطلقهم من الاغلال التي استعروا بنارها تحت سلطة الرومان. كان موقف الاسلام العقدي موقفا محايداً بين ابناء الطوائف المسيحية المتقاتلة، يحفظ لنبي الله عيسى وأمه مريم مكانة عالية من دون الخوض في الصراع الدائر حول تفاصيل المعتقدات السائدة بينهم، وأفسح في جانبه السياسي والاجتماعي الفرصة للجميع، لا فرق بين مواطن وآخر. وأبقى على النظام الاداري السائد وجهاز الكتبة من ابناء البلاد. كما ابقى على لغة الدول المفتوحة في المخاطبات الرسمية، فهي فارسية في فارس والعراق، ورومية في الشام، وقبطية في مصر. ولم يجد الحكام المسلمون غضاضة من التعاون المثمر مع الكفاءات الموجودة ولو خالف دينها ولسانها دين الدولة ولسان حكامها. ففي قصور العباسيين والفاطميين فرس وسريان ونساطرة ويهود، من رتب مختلفة وصناعات متعددة. كان المسلمون حكماً قبل ان يكونوا حكاماً، وكانوا يراعون مشاعر الأمم المفتوحة، ويضيق المقام عن ابراز حكمة الخلفاء في معالجة الاشكالات التي كانت تظهر بين فترة وأخرى بسبب الاحتكاك اليومي بين ابناء الأمة الغالبة والأمم المغلوبة، واختلاف اللغات والاديان. وكانت تدخلات الخلفاء والفقهاء تنتهي - على الأغلب - لنصرة ابناء الاقليات. وقد يقسو الخليفة على الوالي المسلم تحقيقاً لسياسة شرعية بعيدة المدى، ولو كان الأمر يحتمل وجهة نظر الوالي او تصرفه. ولم يتعرض الاسلام الى خصوصيات الشخصية الاجتماعية في البلاد المفتوحة، وترك الأمور سلسة ما دام المجتمع نفسه آمناً بعيداً عن المخاطر التي تهدد الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وترك للناس فرصة الاطمئنان الى ما يحقق مصالحهم الفردية والجماعية، وتركهم يختارون ما بين القديم الموروث وما بين الجديد الوافد عليهم من خلال الرسالة الاسلامية، وفي كلا الاختيارين لم تتدخل السلطة ولا الفقهاء لحمل الناس او اجبارهم على التخلي عن قناعاتهم وإظهار خلاف ما يبطنون. ان مسألة الامازيغ في الجزائر، تشبهها قضايا اخرى لجماعات ترى نفسها اقلية في بحر من الاكثرية العددية، كالأكراد في تركيا والعراق وإيران، والعرب في تركيا وإيران، وتكاد لا تخلو دولة من دولنا الاسلامية من قضايا الاقليات العرقية والدينية والمذهبية، برزت قضاياها بعد تقسيم الدولة العثمانية اثر الحرب العالمية الأولى الى كيانات سياسية مستقلة ورثت التنوع ولم ترث الوحدة. الا ان الثقة التي تمتع بها المجتمع الاسلامي كانت ضمانة كافية وفّرت للأقلية ان تعيش التنوع من خلال التصور الاسلامي لانفتاح الناس وحوارهم وأصلهم الواحد "كلكم لآدم وآدم من تراب". ولأن الدولة كانت تعيش في الوقت نفسه حالة القوة والمنعة فلا ترى نفسها مضطرة للافتئات على الاقليات وظلمها. ان التخوف من استغلال المتربصين لورقة الاقليات لا يجيز التنكر للحقوق، خصوصاً ان بعبع العمالة والسقوط لا ينمو الا في حفرة من الظلم. * كاتب لبناني.