كلما شعرت حكومة عربية بالحاجة الى مواجهة مشكلة سياسية، أو انجاز هدف سياسي، وأعياها تحقيق ذلك عملياً، بأسلوب الحلول الواقعية الثابتة على الأرض، سارعت الى فتح قناة فضائية جديدة! وهذا ما يفسر في الواقع تكاثر الفضائيات العربية الى حد الاستنساخ. ودعونا من "حكاية" الثورة المعلوماتية والعولمة وغيرها من قضايا الندوات الفكرية المهيبة، غير أن "الحل الفضائي" - بالصورة - للمشكلات التي تحصل على الأرض يمثل - في الحقيقة - هرباً الى الأمام، لا غير. لذلك أصبح من الضروري أن نتبين بوضوح ذلك الحد الفاصل بين ما يستطيع الإعلام أن يفعله، وما لا يستطيع. إذ أن سيادة وسائل الايصال وتنقياتها المتطورة في عالمنا يخشى أن تشي بالانطباع الخاطئ والمضلل عن قدرة الاعلام المعاصر على عمل كل شيء، وإعادة صياغة الأشياء والأوضاع، بل و"استنساخ" البشر، على نحو ما يشتهي هذا الاعلام ويريد. هذا التصور، ان طغى، سيكون من أخطر الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها أية قوة أو حكومة أو مؤسسة أو حركة تتصور انها تستطيع إعادة صياغة الواقع بهذا التضخم الإعلامي. وأتصور ان العالم لديه من تجاربه السابقة مع الاعلام في الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية ما يجب أن يمثل له درساً ينبغي ألا يتكرر. كما ان الاعلام العربي في الأنظمة الراديكالية والشمولية العربية قد مثل لنا درساً آخر بحيث يجب ألا يقع فيه مرة أخرى اعلامنا العربي في كيفية التعامل مع الحقيقة ومع وعي المواطن والانسان. ان مثل هذا الخلل الاحادي الجانب في المعادلة الانسانية يمكن أن يحدث تارة باتجاه الاعلام، وتارة باتجاه الاقتصاد، وتارة باتجاه السياسة بحيث يبدو وكأنه العامل الأوحد في المصير البشري، وهو محظور علينا تجنبه في كل الأحوال. وبانهيار النظام الماركسي طغى الانطباع بأن اقتصاد السوق - على سبيل المثال - هو كل شيء في تقرير مصير القوى والمجتمعات. وهو انطباع، ان ظل على أحاديته، لن يلحق الضرر في النهاية إلا بأصحابه أنفسهم. وفي فضائنا الاعلامي العربي ربما خيل لبعض مسؤولي الاعلام في بلادنا العربية أنه بامكانهم الغاء المؤسسات الثقافية والاجتماعية ومحو الشخصيات والأفكار التي لا تعجبهم، بالعزل أو التعتيم الاعلامي لمدة من الوقت، واستبدال هذه المؤسسات والشخصيات والأفكار ببدائل أخرى من صنعهم أو تفضيلهم. لكن هذه المحاولة لا بد أن تبوء بالفشل في نهاية الأمر، لأن الاعلام مهما أوتي من تأثير وسطوة يستطيع أن يؤثر على بعض الناس لبعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يؤثر على كل الناس كل الوقت. وبطبيعة الحال فليس لدي أي وهم في أن الاعلام جهاز في غاية الخطورة، وأنه يستطيع أن يخلق التوجهات، بل يوحي بصورة مغايرة للحقيقة، صحت أم لم تصح. لكن قدرته هذه محكومة بمدى أمانتها للواقع وصدقها مع ذلك الواقع. ان الاعلام الجيد كالناقل الأمين الذي ينقل الواقعة والحقيقة والفكرة والتوجه لكنه لا يستطيع أن يخلق هذا كله. وإذا حاول اختلاقه، فسيكون مصير عمله ما يتعرض له كل اختلاق أو تزوير في نهاية الأمر. لقد حاول الاعلام العربي في مرحلة ما أن يخلق مناخ الثورة والمواجهة من دون شروط هذا المناخ ومتطلباته في واقع الحياة العربية، فأخفق في هذه المحاولة. ثم حاول اعلامنا العربي في هذه المرحلة أن يبشر بالاعتدال والسلام في منطقة الشرق الأوسط من دون متطلباتهما أيضاً، ولا يزال بعيداً عن تحقيق هذا الهدف لأن الحرب والسلام يبدآن في واقع البشر وتوجهاتهم العميقة قبل أي اعلان تلفزيوني مهما كان براقاً عن حرب أو عن سلام. وبالمثل عن أي تقدم أو تنمية أو نهضة. ان العبرة في كل الأحوال، قبل الحملة الاعلامية، وقبل الصورة التلفزيونية، تتمثل في حقيقة صورة الواقع. هل الواقع واقع ثورة ومواجهة؟ هل الواقع واقع اعتدال وسلام؟ وعلينا دائماً ونحن نشاهد الصورة في شاشات التلفزيونات أن نتساءل: هل هذه الصورة هي صورة الواقع على الأرض أم أنها مجرد صورة على شاشة؟ سيظل هذا في تقديري سؤال الأسئلة بمواجهة هذا التدفق الاعلامي في عالمنا المعاصر، وبخاصة في عالمنا العربي. أكرر ما لم تكن الصورة على الشاشة قريبة من الصورة على الأرض، فإن الأرض ستميد بها في النهاية. من دون هذا التأسيس الواقعي، فإن أي اعلامي يطلب منه تصوير حقيقة غير قائمة يكون في وضع لا يحسد عليه. وفي تقديري فإن أي اعلامي حكيم سيرفض القيام بهذه المهمة إذا كان يحترم قيمه ومهنته. وقبل القفز الى تقديم الصورة التلفزيونية الوردية عن "المنجزات" التي يؤمل أن تتحقق، ثمة قيم تحتاجها المجتمعات العربية بالممارسة اليومية وليس بالاعلانات التلفزيونية في تلك الفضائيات البراقة التي تكاد تصبح اليوم "أفيون الشعوب". من هذه القيم قيم المواطنة والمشارك والتسامح في مجتمعاتنا العربية التي يجدر بالاعلام العربي أن يدرك أنه شريك متواضع في غرسها وليس المنتج المحتكر لماركاتها المظهرية والقشورية: - انه شريك مع التنمية المدنية والاقتصادية طويلة المدى. - انه شريك مع التربية الوطنية المنفتحة طويلة النفس. - انه شريك مع التطوير السياسي بعيد المدى. الاعلام، اذن، شريك رابع مع هؤلاء الشركاء المهمين في التمهيد لمجتمع المواطنة والمشاركة والتسامح، يساند كل شريك من شركائه في التمهيد لأهدافه، وفي متابعة عمله، وفي ترسيخ مفاهيمه وقيمه، ثم يدمج في خطاب اعلامي/ ثقافي مشترك الثمار المشتركة لجهد هؤلاء الشركاء في تحقيق الهدف المطلوب. وهنا، في النهاية، محكه واختباره: به يقف أو يخفق. وكي ينجح الاعلام في تحقيق ذلك، أي تأكيد قيم المواطنة والمشاركة والتسامح، لا بد أن يكون هو ذاته في محتواه ووسائله وممارساته وأشخاصه، مستوعباً معانيها وجوهرها، متمثلاً قيمها وآدابها وروحها. ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه. ولا يمكن لاعلام يفتقد مفهوم المواطنة وفلسفتها، وذهنية التسامح وشروطه، ومعاني المشاركة ومتطلباتها ان يؤكد مثل هذه القيم ويرسخها. وإذا سمحت هذه العجالة بالتوقف بشيء من التوضيح لاحدى هذه القيم، وهي قيمة المواطنة، فقد حان الوقت بالنسبة الى العرب وخطابهم الاعلامي والفكري عموماً ان يراجعوا مفهوم المواطنة السائد لديهم. لا يجوز بقاء مفهوم المواطنة والوطنية في اطار الحماس الانفعالي الموسمي السائد ك "فزعة" و"هبّة" الأقوام البدائية في العصور السابقة. المواطنة انتماء عميق على رغم كل المصاعب والعقبات في أي وطن. ولا يوجد وضع مثالي في بلادنا العربية خصوصاً. وإذا كان أي ظرف معيشي أو سياسي سيؤدي الى التخلي عن هذا الانتماء، وإذا كان مشروطاً عند آخرين من ناحية أخرى بالامتيازات والثراء، فإنه انتماء مجروح بل مزيف. ذلك أن الانتماء الوطني من ثوابت الانسان غير القابلة للمشروطية. أما المفهوم الآخر الغائب لمفهوم المواطنة عندنا فهو وعي قيم السلوك المدني والالتزام بها. ان افتقاد هذه القيم وممارستها من أخطر جوانب التخلف في الحياة العربية. ولن تستطيع أمة "كنس" الامبريالية والصهيونية إذا لم "تكنس" منازلها وشوارعها قبل كل شيء، ولن تنتظم أمة في طابور العصر إذا لم تعلم أبناءها كيف ينتظمون في الطوابير اليومية لشراء حاجياتهم وتحقيق حاجاتهم. ولن تحقق أمة التنمية إذا كانت تحتقر العمل المهني وتعتبر المهنة مهانة وتستهتر بقيم الوقت ولا تزوّج بناتها للميكانيكيين والحدادين والنجارين وعمال الصيانة، وتستورد كل هؤلاء من العمالة الأجنبية. وهنا، وبقدر ما يسمح به المجال، اختصر في نظري الشروط الأساسية المطلوبة من اعلامنا العربي لتحقيق ذلك: أولاً: ان يتخلى اعلامنا العربي في تخاطبه مع المواطن العربي عن ذهنية الصوت الواحد والرأي الواحد الى رحابة الأصوات والآراء المتعددة. فليس أقتل للمواطنة والمشاركة والتسامح، بل ليس أقتل للحضارة وللحياة وللانسانية، من بوتقة الصوت الواحد تمسك بخناق تيار الحياة المتعدد المتنوع، فتمسخه وتحيله جماداً متحجراً ميتاً. ان التعدديات والعصبيات تتصارع في واقعنا المجتمعي العربي، فلنبدأ بتعليمها كيف تتحاور سلمياً في الممارسة الإعلامية اليومية برصانة ومسؤولية، ولكن لنعطيها أيضاً شيئاً من الحرية المنضبطة. ثانياً: حري باعلامنا العربي قبل ايصال ما يريد من توجيهات وقناعات، أن يتوقف مطولاً عند الحقائق والواقع والمعطيات والحيثيات العلمية والعملية لكل مسألة وقضية. فلم تعد المسألة اليوم مسألة مواعظ ودعوات ومثل مجردة تلقى الى الناس وتغسل عقولهم. لا يمكن أن يقتنع المواطن، الذي أصبح يسمع ويرى كل شيء في بلده وفي العالم بفضل هذه الثورة الإعلامية والمعلوماتية، إلا من خلال عرض الحقائق والوقائع كما هي، ثم الاستنتاج في ضوئها، بما يرضي العقل والمنطق، من خلاصات وتوجيهات ودعوات. ثالثاً: ان يتخلى اعلامنا العربي عن دوره المسرحي والخطابي في التعامل مع جمهور من المواطنين المتفرجين. إذا أراد الاعلام العربي تأكيد قيمة المشاركة، فعليه قبل كل شيء مشاركة مستمعيه ومشاهديه وتحويلهم من موقع المتفرج السلبي الى دور المشارك الايجابي تحاوراً وتفاهماً واستماعاً، ومعرفة ماذا يريدون منه ليقتنعوا بالتالي بما يريده منهم. على أن يتم ذلك برصانة الحوار المتحضر لا بغوغائية الإثارة الرخيصة. *** وباختصار فإن القيم تنبع من واقع المجتمعات وواقع الانسان. ولا بد من تطوير البنية التحتية لهذه المجتمعات انمائياً وتربوياً وسياسياً بما يوجد الأساس الصلب لهذه القيم. إن الاعلام مهما أوتي من قوة سيظل مخاطباً البنية الفوقية للمجتمع والفرد، أعني مستوى الوعي، وقد يستطيع أن ينورها ويغنيها، لكنه لا يستطيع خلق أساسها المجتمعي المادي الذي يمثل ضمانة استمرارها في واقع الممارسة. وقد يستطيع الاعلام أن يقصف القيم القديمة والبنى القديمة ويدمرها، لكنه وحده لن يستطيع ان يخلق القيم والبنى الجديدة ما لم تؤسس على أرضية الواقع بالتنمية والتربية والتطوير الشامل لبنى المجتمع على المدى الطويل. انه يستطيع أن يبشر بها ويدعو إليها لكنه لا يستطيع أن يؤسس لها بصورة ثابتة في أرضية الواقع إلا إذا توافرت شروط البناء الشامل. إذا اتفقنا على هذه الحقيقة بأبعادها، نكون قد تبينا ما يستطيع الاعلام أن يفعله، وما لا يستطيع. لقد كان شعار الاعلام الشمولي في العهد النازي "اكذب واكذب حتى تصدق نفسك ويصدقك الناس". واعتقد ان اي اعلام جدير بانسانية الانسان ينبغي أن يستلهم مقولة السيد المسيح: "اتبعوا الحق، والحق يحرركم". وويل لأي مجتمع ودولة، تتباعد فيهما صورة العرض في التلفزيون عن حقيقة الواقع على أرض الحياة الصلبة، لأن "الحل الفضائي" - بالصورة - للمشكلات الواقعة على الأرض - في الحقيقة - ليس سوى نوع من الهرب الى الأمام، بالتحليق - مؤقتاً - في فضاء الصورة الاخاذة والمريحة ولكن الى حين. والورطة عندما ينكشف للعيان ان حساب الحقل غير حساب البيدر. وان حساب الواقع المجتمعي على الأرض غير حساب الصورة البراقة عبر الفضاء. ولطالما استشهد حكماء الاعلام السياسي العربي بتجربة أحمد سعيد في اذاعة "صوت العرب" قبل هزيمة حزيران يونيو 1967، بهدف التحذير من تكرارها. ولكن هل تبدو اليوم فضائيات "صورة العرب" أكثر حكمة وواقعية من اذاعة "صوت العرب" في ذلك الحين؟ لا شك في أن عبدالله القصيمي قد بدا "للكثيرين" مبالغاً في كتابه "العرب ظاهرة صوتية". وكل ما نرجوه ألا يكون العرب الآن في طريقهم للتحول الى ظاهرة "فضائية"! * كاتب بحريني