سؤال مزعج: هل كان أحد، ممن عرفوا وأدركوا وعاشوا تجربة المطرب وديع الصافي، يحسب انه سيأتي يوم يصرخ فيه هذا الرجل في وجه شركات انتاج الاسطوانات أو الكاسيتات لتسجيل جديدٍ عنده، من قصائد وأغنيات وتأملات موسيقية وادائية، فلا يجد احداً؟! وديع الصافي، اخر عمالقة الصوت في الاغنية العربية بين الرجال، هو اليوم في هذا الوضع. وتاريخه الفني الكبير، والتراث الضخم الذي أوجده وفتحه على أقصى الجمال التلحيني والغنائي، يمنعانه من ان يدق باباً أو يهاتف مسؤولاً في شركة انتاج، ذلك انه ربما يعرف الجواب مسبقاً ولا يريد لنفسه ان يقع في هذه التجربة الصعبة التي تؤذي عمراً كاملاً من السعي خلف إبهار موصوف في الاجادة الفنية، وتلحق ضرراً في نفسيّة من يجب ان يُعطى من دون ان يطلب، اذا كان المقياس هو الكفاءة العالية والمقام العالي والوزن الثقيل الذي أحاط به أغنية لبنانية كانت قبله مزقاً ورقعاً وتشبهاً فصارت معه ذات هوية حقيقية يُنظر اليها كواحدة عرفت كيف تكوّن عناصر تفوّقها وخروجها من ارضٍ بعينها حاملة خصائصها ومقوّماتها الضرورية، باتجاه المطلق الواسع. يقول الكبير وديع الصافي: "بعد هذه الكبرة يريدون ان أرتدي الجبة الحمراء؟"... كأنما الارادة التي صنع بها بدايات تشكُّل الاغنية اللبنانية، لا تزال خلف بريق تينك العينين الدافئتين هي هي، لا نقصت ولا ابتردت ولا انكسرت تحت خيبة. ارادة تفلح في الصخر قاوم بها وديع الصافي الانتحار المأسوي في مستوى الاغنية اللبنانية، والعربية عموماً، وظلّ يقول ببساطته الطيبة: "ما بيصح الا الصحيح"... ويروح يستذكر الاسماء التي كانت في وقت ما، لامعة، وكادت تعتقد بانها حققت الثبات النهائي، فاذا بها، في غفلة، كما طلعت وقعت، وغابت في الصمت المطبق الى حد انها "صارت النسيان نفسه"، كما يعبّر بالحرف. سبع قصائد في جعبة "الوديع" الصافي، قصائد مغناة وضع لها أجمل المقاطع الموسيقية وهيّأها كمن يشتغل الى أبد الدهر، كمن يبني لزمن جديد، كمن رأت عيناه مساحات اخرى من الضوء وراء هذا السراب الكبير. والمشكلة، حسب وجهة نظر مدير شركة انتاج هي "ان لا اغنيات خفيفة بينها". فهل وجب على وديع الصافي المتوّج بخمسة وسبعين عاماً من الانتصارات الرائعة، ومن الاغنيات المنوّعة بين لون شعبي وطربي وكلاسيكي وطقطوقة هي روائع في معظمها، هل وجب عليه، بعد سنوات اخيرة مملوءة بالخير والتأمل والصفاء الذهني والانخطاف الروحي ان "يمسك على الدبكة" أو يرقص أو يغادر موقعه في الاتزان الرفيع لكي يرضي هذا المنتج أو ذاك؟! لقد خرج وديع الصافي من خانة الاستهلاك، ومن معادلة ماذا يحب الجمهور وماذا يكره على المستوى الاعتباطي. وديع الصافي أوجد لنفسه معادلة خاصة، معادلة اخرى، معادلة طالعة من غنى فني إبداعي، ولم يعد قادراً على تجاوزها أو خرقها أو حرقها. انها معادلة العمر، وما يصحّ في الاربعين والخمسين مثلاً لا يصح قطعاً في السبعين لا سيما اذا غاصت التجربة الفنية بعيداً من مدّ العالم بشحنات خالصة من الأصالة والنبل. فكيف يريد مدراء شركات الانتاج، من خمسة وسبعين عاماً ان تعود الى مراهقة، ارضاء لنزواتهم ونزوات بعض الجمهور في الوقت الذي بامكانهم ان يأخذوا منها خميرة الايام الطافحة بالبركة، وعصارة التوهّج الآسر؟ سمير يزبك "المنسيّ" واقع لا يُطمئن حقاً. وليس وديع الصافي وحده، بل هناك آخرون، وان يكونوا أقل منه اجادة أو صوتاً غنائياً مسموعاً، ترميهم تركيبات الانتاج الغنائي في البطالة. وسمير يزبك، المطرب الذي كان في السبعينات في اوّل الصفوف الشابة، هو الآن لا يسأل عنه احد. سمير يزبك، عاشق الموّال اللبناني، المؤدي ذو القيمة الغنائية المعروفة، وقف في اجتماع نقابة الفنانين المحترفين يقول: "لقد أكلوني لحماً ورموني عظماً"!... وكانت جملة منه واحدة كافية ليدبّ حرجٌ داكن في المكان. اذا كان وديع الصافي، سيّد الاغنية اللبنانية بلا منازع، وحجر الاساس في العمارة الفنية العربية، أصابته "شروط" المنتجين بهذا القدر من قلّة المعرفة، وقلّة... الأدب الفنيّ الذي يُسيّىء القيم ويُحبطها، فلا يزعّلن سمير يزبك على رغم صوته النقيّ النديّ. وأتم وديع الصافي حديثه لي بالقول: "اذا اعطيت قصائدي المغناة الجديدة الى شركة اسطوانات غير لبنانية، تقوم القيامة واتّهم بالتنكر لبلدي. فمن هو المتنكر أنا أم هم؟"... وليس صعباً ادراك الجواب.