ليس من المبالغة أن يلقي اللبنانيون على وديع الصافي صفات مثل الأسطورة والشلال والأرزة والجبل... فهذا المطرب الكبير الذي غيَّبه الموت مساء الجمعة عن اثنين وتسعين عاماً، كان رمزاً من رموز لبنان، في ما يحمل من معان أصيلة أضحى بعضها في حكم الزائل وما برح بعضها يقاوم، على رغم الأخطار التي يواجهها اليوم وطن وشعب. كان على اللبنانيين أن يحبوا وديع الصافي، على اختلاف مشاربهم وطوائفهم، فهذا المطرب ظل يمثل لهم صورة عن لبنان التراث، لبنان الفولكلور، لبنان البساطة والإخاء والحنين، لبنان الماضي والقرية بتقاليدها وعاداتها... وكانت لأغنياته البلدية وقعها الفريد في حياة اللبنانيين، وكذلك إطلالاته الكثيرة بالزي القديم، كالشروال واللبادة. كان وديع الصافي مطرباً بلدياً بامتياز، حتى أغنياته بالعربية الفصحى لم تَحِدْ عن هذه الروح، فهذا الطابع البلدي هو الذي وسم أصلاً صوته الخارق، القوي، العاصف مثل رياح قريته الشوفية نيحا، الليّن والطريّ والنديّ، المتعدد المقامات... صوت لا حدود له، بمساحاته وعُرَبِه وآهاته، يعلو أكثر ما يمكن أن يعلو صوت، ثم ينخفض إلى أقصى نقطة من دون أن يُحدث نشازاً ولو طفيفاً. كان بعض دارسي صوته يؤكدون أنّ فيه وتراً يعجز الميكروفون عن التقاطه. كان يكفي وديع الصافي أن يحمل عوده ويبدأ في الغناء، لم يكن يحتاج إلى أن يتمرن، لاسيما في حفلاته الخاصة، يغني بسهولة حتى ليبدو وكأنه يرتجل. وهو في مثل هذه الإطلالات كان يمنح نفسه حرية مطلقة في الأداء والتعبير، خالقاً علاقة حية مع جمهوره، الذي كان يتفاعل معه متأثراً به و «منطرباً». وكان وديع ينتقل من أغنية إلى أخرى ببساطة وعذوبة، تماماً مثل انتقاله من مقام إلى مقام أو من طبقة إلى طبقة. لم يتعلم وديع الصافي الغناء والموسيقى في معهد عال، ولم يحمل شهادة، كل دروسه تلقاها على بضعة أساتذة، ومنهم سليم الحلو، العالم الموسيقي المعروف. وهو أصلاً لم يواصل دراسته الابتدائية فهجرها ليعمل في معمل للقرميد والزجاج ثم عمل حلاقاً وبائعاً للألبسة... أما الموسيقى، فدرس القليل منها واتكأ على بعض ما تعلم بجهده الشخصي من مشاركاته في الأعمال الجماعية لا سيما مع الرحبانيين، عاصي ومنصور، وهما كان يدفعانه إلى الانضباط والالتزام بتوجيهاتهما. ومعروف أن الصافي باشر التعاون معهما بدءاً من العام 1953 في بعض الاسكتشات الغنائية، ثم واصل العمل معهما في مهرجانات بعلبك لاحقاً، في أعمال مثل «عرس في القرية» (1957) و «موسم العز» (1960)... ولم يلبث أن تجلى عمله معهم في مغناة «سهرة حب» (1971) و «قصيدة حب» (1973)، وفيهما غنى باقة من أجمل أغنياته ومواويله. أطل وديع الصافي في اعمال غنائية ومسرحية كثيرة، بعضها مع صباح، ومنها: «البير» و «الضيعة والمدينة» و «نهر الوفا» و «أرضنا إلى الأبد» وسواها. ولم يدع مهرجاناً لم يشارك فيه: الارز، جبيل، فينيقيا، بيت الدين وسواها. امتهن وديع الصافي التلحين مثلما انتهز العزف على العود، وراح يلحن ويغني بغزارة، وقد لحن لنفسه معظم أغنياته، بعضها نجح كثيراً وبعضها لم ينجح. وفي الستينات سعى إلى إطلاق شقيقته نادية التي اختار لها اسماً فنياً هو «هناء» عُرفت به بعد ذلك، فراح يلحن لها، لكنها لم تحقق النجاح الذي كان يبغيه منها. وكان على الصافي أن يتعاون في أغنيات له مع بعض الملحنين اللبنانيين، ومنهم: الرحبانيان، زكي ناصيف، فيلمون وهبي وسواهم... ومن الملحنين العرب الذين تعاون معهم: بليغ حمدي (اغنية واحدة)، السنباطي(اغنية)، فريد الاطرش (اغنية)، عبد الوهاب (اغنية)... آثر الصافي أن يلحن معظم أغنياته بنفسه وفي ظنه انه خير من يدرك خامة صوته وأفضل من يحسّ بالألحان. لعل هذا التفرد بالتلحين أوقع أغنياته في شيء من الرتابة وجعله يبني عالمه الخاص من دون أن يلتفت إلى موسيقى العصر. وبعيداً من تقويم ألحانه وتصنيفها، يظل وديع الصافي صوتاً عظيماً، فريداً، استطاع أن يحمل ذاكرة وطن بماضيه وتراثه وفولكلوره، ووجدان شعب غنّى له وأطربه في شتى مراحله.