قبل ثلاث سنوات، عُقدت في طليطلة في اسبانيا حلقة دراسية كان محورها حركة الأفكار على ضفاف البحر المتوسط، ماضياً وحاضراً. وتبيّن اليوم، على ضوء المساهمات المختلفة التي قدمها المشاركون في هذه الحلقة، ان المحصلة العامة ليست برّاقة، خصوصاً ان الاتصال الفكري والثقافي ظلّ، منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم، موسوماً بعلاقة استعلاء تنطلق من الغرب. وعلى النقيض مما كان حاصلاً إبّان العصر الفينيقي، حين توغّل الشرقيّون بعيداً، عبر التجارة، في الغرب، ناقلين معهم أبجديتهم وأفكارهم، وعلى النقيض مما حصل مع الفتح العربي لشبه الجزيرة الإسبانية، العام 715 عندما نُقِلَتْ علوم العرب ومعارفهم المختلفة الى العالم الأوروبي فأزهرت زواجاً ثقافياً متنوّعاً تمثّل بالثقافة الأندلسية، فإن ما يحصل منذ قرون وحتى اليوم هو تسيير غربي - شرقي للأفكار. ففي الغرب تنطلق الأفكار، ثم تجد طريقها الينا بالترجمة أو الاقتباس، قبل أن تصبح جزءاً من حياتنا المعاصرة. بدأت في الواقع "حركة الأفكار المتوسطية" باستيراد عربي لها كثيف، منذ مطلع القرن التاسع عشر. وعمد الطهطاوي، المُرسل في إطار بعثة رسمية الى فرنسا، الى اقتراح ترجمة الكتب المدرسية والجامعية الى العربية، بغية استخدامها في المؤسسات التربوية المصرية وهذا فعلاً ما حصل بين 1830 و1840، ثم الى اقتراح ترجمة نصوص القوانين التي ترعى الشأن المدني والدستور الذي يُعنى بالشأن السياسي وهذا فعلاً ما حصل في السبعينات من القرن التاسع عشر. ثم أتت النهضة، كحركة أوسع نسبياً وأشمل، لتضع عملية نقل الأفكار من الغربين الأوروبي والأميركي نحو الشرق، على متن اللغة العربية، في سياق ايديولوجي وتطبيقي جديد، حتى ان الترجمة، كوسيط عملاني، اتخذت معنى جديداً لم يعد يقتصر على عملية النقل اللغوي أو التقنية، بل غدت الترجمة عماد الثقافة الجديدة، الموصوفة بالحديثة. ولذلك لا بدّ من التوقف أولاً عند ماهية الترجمة، في حضارتنا العربية المعاصرة، بغية إدراك الدور الحقيقي الذي لعبته ولا تزال هذه العملية الذهنية في حياتنا الثقافية والفكرية. نبدأ بالتساؤل: ما هو دور الترجمة، على سبيل المثال، بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية أو بين الألمانية والفرنسية، أو بين الإنكليزية والإسبانية؟ الدور هنا دور نقل سلع مفاهيمية ومعلومات ضمن نسق واحد يختلف في التعبير عنها لا في تكوينها. لذا فإن عملية النقل من لغة إلى لغة، ضمن الدائرة الأوروبية، تعني أمرين: أولهما الانتماء الى بنية معرفية واحدة، وثانيهما التعامل بين متساويين. عندما يُنقل كتاب كارل ماركس من الألمانية الى الفرنسية، يذوب هذا الكتاب في اللغة الفرنسية ويصبح فرنسياً، وكذلك عندما تنقل رواية لتشارلز ديكنز من الإنكليزية الى البرتغالية تذوب في هذه اللغة فتصبح جزءاً منها. وعندما تُنقل رواية "دون كيشوت" من الإسبانية الى الألمانية تصبح بدورها المانية. أي أنه، ضمن دائرة التجربة التاريخية والسياسية والاقتصادية الأوروبية الكبرى، تغدو اللغة عنصر نقل بارد ووسيط لا يدخل على خط البنية الفكرية العامة. ذلك ان البنية المعرفية التي يسبح فيها الجميع تجعل من مفردة الحداثة أو التغيير أو الاقطاع مصطلحات تشير، في كل هذه اللغات، الى معانٍ معيشة، في شكل أو في آخر. فعملية الترجمة لا تهدف الى التأثير ولا الى تغيير أمر ما في أذهان ابناء اللغة المنقول اليها الكتاب، بل على النقيض من ذلك، فأن الترجمة هنا تعكس استيعاباً للآخر وارادة في إذابة تجربته في التجربة الثقافية العامة. فاللغة هي ال "نحن" والكتاب المترجَم هو "الآخر"، ولا ثنائية بينهما. فال "نحن" بحاجة الى هذا "الآخر" لتنمية نظرته الى العالم الخارجي وإلى الدنيا. من هنا تلعب الترجمة دوراً ثقافياً تذويبياً، خفياً الى حدّ بعيد، إذ ان القارىء الفرنسي الذي يقرأ قصة ايطالية مترجَمة لاومبرتو ايكو "اسم الوردة" مثلاً يشعر بأنه يقرأ قصة تنتمي الى فضائه الفكري والمفهومي. فالترجمة هنا تسيّل التبادل الثقافي وتجعله طبيعياً. وما يساهم في انجاح هذه العملية هو أنّ الترجمة، بين اللغات الأوروبية نفسها، لا تقوم على المعادلة بين غالب ومغلوب. فاللغة المتقدمة، والتي تحصل ترجمة الكتاب منها الى اللغة الأخرى، لا تعدو كونها متقدمة بين متساويين. فاللغة المترجَم عنها اليوم قد نقلت في السابق، بكل تأكيد، عن الإيطالية أو الهولندية أو البرتغالية أو الإسبانية، إلخ، كتباً ما في مجالات علوم ومعارف كانت مزدهرة آنذاك في هذه اللغات. فالترجمة الداخلية هذه، في بنيتها ومنظورها ووظيفتها، سوف تختلف حتماً عن الترجمة التي خضنا تجربتها نحن، في العالم العربي، خلال القرنين الماضيين، اذا انطلقنا من اعتبار ان قرننا هذا شارف على النهاية. فالنهضة العربية قامت كلها، في جوهرها، على مجهود ضخم في الترجمة أراد لنفسه أن يؤسس عصراً جديداً "متنوراً"، على نحو ما حصل في التجربة الغربية القريبة. غير ان هذا المجهود أتى خارجياً، أي أنه لم يحصل ضمن دائرة معرفية واحدة، بل انه توخّى ادخال الدائرة المعرفية العربية، المتأخرة في نظره، في قلب الدائرة المعرفية الغربية، المتقدمة في نظره أيضاً. وقد وجد المجهود الثقافي النهضوي نفسه مضطراً للتعامل مع موضوع ترجماته المفاهيمية والفكرية والعلمية في إطار ثنائية خارج/داخل دفع ثمنها غالياً، إذ لم يتمكن من إرضاء لا جدّه ولا جدّته، على حدّ قول المثل الشعبي. بل ان الكثيرين من الذين طعنوا بهذا المجهود النوعي الذي سعى، مخلصاً، الى تحسين أوضاع أبناء العالم العربي، أكّدوا على هذه الثنائية، متّهمين إيّاها في كونها مصدر انفصام الشخصية العربية المعاصرة. علماً أن الواقع ليس كذلك بتاتاً. فموقع اللغة العربية، في إطار التجربة الفكرية والسياسية والعلمية عامةً، كان شديد الضعف إبان حقبة الحكم العثماني، حتى ان معادلة الترجمة، من الفرنسية والإنكليزية الى اللغة العربية، وجدت نفسها محشورة بنيوياً في علاقة ثنائية مع ما كانت تنقله. فمفهوم المواطنيّة ومفهوم الديموقراطية ومفهوم العدالة الاجتماعية وحتى مفهوم الجمهورية الشأن العام، في الأصل اللغوي اللاتيني كانت كلها مفاهيم تنتمي فعلاً الى عالم خارجي. فما كان بإمكان اللغة العربية إذّاك إلا ان تقوم بترجمتها بحيثياتها الخارجية هذه، المواكبة لطبيعتها. لذلك كان يستحيل على النهضويين ان يفعلوا غير ما فعلوه. أي انهم وجدوا أنفسهم مضطرين لنقل المفاهيم من شاطئ الى شاطئ، ومن بنية معرفية الى اخرى. فكان مجهودهم في الترجمة مجهوداً مضاعفاً، لا يهدف الى تسييل مفاهيم، بلغة مختلفة، ولكن ضمن دائرة كبرى واحدة، كما حصل بين اللغات الأوروبية نفسها، بل أفضى بهم مشروعهم الى إدخال دخلاء بكل معنى الكلمة، والدفاع عنهم طلباً للأمان. من هنا اتسمت النهضة ومترجموها الكثر حتى لو ادعى بعضهم انه "مؤلف"، كما حصل لنقولا الحداد الذي نقل علم الاجتماع الى لغة الضاد العام 1924 في مصر، بالإقحام المرغم في اللعبة الإيديولوجية. فالترجمة النهضوية ليست تقنية محضة، كما الترجمة من الإنكليزية الى الألمانية، بل انها ترجمة ايديولوجية، ينعتها بعضهم بالملتزمة وبعضهم الآخر بالعميلة. لم تكن الترجمة، في عصر النهضة، لا من هذا الصنف ولا من ذاك. انها كانت مجرّد اشارة إلى الحيويّة الفكرية الفيّاضة التي انطلقت، حينذاك، في لبنان ومصر، والتي حاولت ان تساهم في صحوة شاملة للمجتمعات العربية لا نزال نتوق اليها حتى اليوم. ومن هذا المنطلق لا دخل لها في انعدام التوازن في المعادلة القائمة بين العالم العربي والعالم الغربي. فالترجمة النهضوية عكست واقعاً جيو-سياسياً واقتصادياً ولم تصنعه. أما اتهامها بأنها شاركت في صنعه فينتج من عدم فهم مسألة مهمة، وهي ان هذه المعادلة، بوجود النهضة أو بغيابها، كانت ستبقى. والدليل انها باقية حتى اليوم. لذلك فإن حركة الأفكار في حوض البحر المتوسط، على متن معادلة غير متوازنة، لم يكن في مقدورها ان تكون غير متكافئة. واللافت هنا هو ان عدم التكافؤ هذا، والذي كان له ما يبرّره في زمن الطهطاوي، ما زال حياً يرزق اليوم، لصالح اللغة الإنكليزية أكثر فأكثر، لكونها لغة الحضارة الأميركية المتألقة حالياً في العالم أجمع. وهذا ما يوصلنا الى ملاحظة ثانية، وهي ان الكلام عن حركة الأفكار في حوض البحر المتوسط يبدو اليوم بالياً. إذ ان الأفكار التي كانت تأتي، مطبوعة في كتب، عبر سفن تنطلق من مرافىء هذا الحوض، خسرت الكثير من بريقها ومن حضورها. فمن منّا لا يرى، بأم العين، ان حركة الأفكار قد استُبدِلَت اليوم، على ضفاف هذا الحوض وفي عمق العالم العربي، بحركة الصور. فالمحطات التلفزيونية هي التي تقفز، في زمننا الراهن، فوق الأحواض والبحار والمحيطات، وتوصل الينا تلك الصور الحلوة والمخدِّرة التي يخفق لها قلبنا حتى ان لا لزوم للتفكير، ولا للترجمة، فكلها مجهودات متعبة للذهن في زمن لا يُطلب فيه من الإنسان، على وجه المعمورة قاطبة، سوى أن يواظب على التسلية والاستهلاك. باخ زمن الترجمات في زمن الصورة والسمع-بصريات. وباخت اللغات ومعانيها ومفاهيمها، ودخلنا في فضاء جديد، عالمي، يحاول أن يدجننا كلّنا، أينما كنّا. فلا نهضة ولا كتب ولا ترجمة أفكار. لم نعد نحتاج الى كل ذلك، نحن اليوم بحاجة فقط الى مصدر للمعرفة واحد هو الشاشة الصغيرة، هذه الشاشة التي، بعينها الواحدة، تشبه ذاك الأعور الدجّال الذي لا يبشّر قدومه بالخير بتاتاً