نفوذ وزيرة الخارجية الاميركية، مادلين اولبرايت، في حال انحسار بعدما اثبتت عمق ضعفها ك "مفكر استراتيجي" يصنع السياسة، ولم تتمكن من اثبات الجدارة خارج اطار تنفيذ السياسة كناطق رسمي لها. فمتطلبات منصب وزير الخارجية تفوق الاخراج وحسن التقديم وتتحدى الوزير في مجال صنع السياسة المستقبلية وقيادتها. اولبرايت ابدعت دائماً في تسويق السياسة وفي العلاقات العامة، لكنها منذ البدء لم تُعتبر استراتيجية التفكير والرؤية، ثم لم تقم بأي جهد لتمسح عنها هذه السمعة. كل هذا لا يجعلها المسؤولة حصراً عن وضع السياسة الخارجية الاميركية. فهي مساهمة في تراجع وزن ورؤيوية الدولة العظمى الوحيدة على الصعيد العالمي، لكن الفاعل الأول يبقى الرئيس الاميركي. وبيل كلينتون يبدو مرتاحاً مع الوضع الراهن دولياً: يتجنب ما يدعوه الى المواجهة، يكتفي باسلوب ادارة الامور، يكاد لا يبالي سوى بالشؤون الداخلية والقضايا الدولية التي تفرض عليه التنبه لها. معظم هذه القضايا اقتصادي الطابع في المرحلة الراهنة: من الازمة في شرق آسيا واليابانالى القروض الضرورية من صندوق النقد الدولي لروسيا، ما يبرر قيام وزارة المالية بتولي جزء مهم من صنع السياسة الاميركية نحو شرق آسيا واليابان وروسيا. لكن دور وزارة الخارجية، عموماً، رئيسي في صنع مثل هذه السياسة مهما كان الطابع اقتصادياً، لكنه في هذا المنعطف مهمش نسبياً. والسبب عائد، الى حد ما، اما الى الانطباع السائد عن مادلين اولبرايت او الى افعالها، وربما لمزيج من الاثنين. فهي، في رأي المؤسسة الفكرية والسياسية، ليست خلاقة في تفكيرها ولا هي من "الوزن الثقيل" في قدراتها ومواهبها. البعض يعتبرها مصنوعة على ايادي الناطق باسمها، جيمس روبن، الذي وصفه احد المخضرمين في صنع السياسة الاستراتيجية بأنه "ذكي انما ليس حكيماً"، والذي يُتهم بأنه يحسن الاخراج والتقديم والتسويق والعلاقات العامة، لكنه يفتقد العمق الضروري للفكر الاستراتيجي والرؤيوية. فالمستشار الرئيسي لمادلين اولبرايت اوصلها الى منصب وزيرة الخارجية بحذاقة التخطيط التكتيكي وبمساعدة الحظ. لكن متطلبات المنصب تعدت مجرد التعبير عن سياسة، فتعرّت مصادر الضعف في شخصية اولبرايت ليس فقط في اوهايو حيث حجّم احد الطلاب وزيرة الخارجية في الندوة التلفزيونية التي بثتها شبكة "سي.ان.ان" التلفزيونية عالمياً، وتحداها في صلب "الازدواجية" عند البحث في موضوع العراق، وانما ايضاً بين اقطاب الادارة الاميركية وفي المؤسسات الفكرية الفاعلة في صنع القرار. ما يتردد في هذه الاوساط الآن هو ان الحلقة الاقرب الى الرئيس بيل كلينتون لا تشملها. ابرز "هزيمة" لها هي تعيين ريتشارد هولبروك سفيراً لدى الاممالمتحدة على رغم معارضتها وحساسيتها تجاهه، فجاء التعيين بمثابة ابلاغ لها بأنها"طير يغرد خارج السرب". والسرب في هذا الاطار له شقان: شق معني بالرئيس كلينتون يضم مستشار الامن القومي ساندي برغر، وآخر معني بنائب الرئيس آل غور ويضم هولبروك. اما السفير الاميركي الحالي لدى الاممالمتحدة، بيل ريتشاردسون، فهو لاعب سياسي يحصّن نفسه في الشقين، اذ سيتولى منصب وزير الطاقة في ادارة كلينتون قريباً، فيما يستعد لموقع رئيسي في حملة آل غور للرئاسة بعد سنتين. المدافعون عن مادلين اولبرايت يقولون ان وزارة الخارجية اليوم اقوى مما كانت عليه اثناء عهد وارن كريستوفر، وان "المنتقدين" لم يتقدموا بالافكار الخلاقة التي يطالبون بها اليوم لمجرد الانتقاد. احد المدافعين قال "أين كان هؤلاء الناقدين ليحذروا مما وصلت اليه الهند وباكستان" في اطار امتلاك القدرة النووية وقيامهما بالتفجيرات؟ "من حذر، ومن تقدم بسياسات واستراتيجيات بارعة؟". مثل هذه التساؤلات في محلها لكنها لا تنفي مسؤولية الادارة الاميركية عن فشلها، اولاً، بتوقع التفجيرات، وثانياً، في وضع سياسة متكاملة متماسكة في شأن المسألة النووية. فالمسؤولية جماعية، لا تعفي وزيرة الخارجية الحالية ولا سلفها في الادارة الديموقراطية. والمسؤول الاول عن الفشل في رسم الاستراتيجية للاستفادة من الفرصة الذهبية بعد الحرب الباردة، لازالة ما يفوق عن 30 الف رأس نووي اميركي وروسي، هو بيل كلينتون قبل غيره. فالمسألة تتعدى انتشار السلاح النووي وغيره من اسلحة الدمار الشامل. الا ان السياسة الاميركية اعتمدت معالجة القشور قبل الجوهر في السنوات الست الماضية. لن يذكر التاريخ لكلينتون نجاحه محلياً على تدعيم الحزب الديموقراطي او اقامة الحوار بين البيض والسود او تبني سياسات اقتصادية جعلت اميركا آمنة في ازدهارها غير مبالية خارج حدودها، انما سيتذكر التاريخ انه اهدر فرصة كبت جماح الخطر النووي او قد يذكره تحت عنوان مونيكا لوينسكي - الازمة الجنسية. مزاج اميركا اليوم هو عدم محاكمة الرئيس على هفواته الجنسية، بل اعطاؤه فرصة كاملة لاثبات نفسه، وربما، للتعرف عليه. ومن الآن حتى انتهاء عهد بيل كلينتون فترة سنتين ونصف قد يكون قرر كيف سيستغلها ويوظفها ليصدر التاريخ حكمه عليه. وهو ليس ساذجاً سياسياً. ولربما قرأ اميركا افضل من اي رجل في موقعه ولربما قرر ان القيادة ليست سلعة مطلوبة على اي حال وفي كل حال، وانما هناك ظروف تجعل الفرد مثيراً لانه ليس قائداً. فالقيادة، بالمعنى التقليدي، ستتطلب الجرأة على اتخاذ مواقف صدامية عندما تبرز الحاجة. ادارة كلينتون تفعل عكس ذلك منذ فترة وفي بعض الاحيان تنجح حقاً. تم وضع سياسة بعيدة المدى باتجاه الصين، ليست سيئة على الاطلاق، بل انها جريئة في مضيها قدماً، على رغم الانتقادات والعراقيل في الاتجاه الصحيح. ليست سياسة بارعة وخلاقة، انما لا بأس بها لأنها تلبي المصلحة الاستراتيجية. نحو اليابان كذلك، يوجد توجه عملي موضوعي يتعاطف ويتعاطى مع الوقائع المالية والاقتصادية. ونحو موسكو تبنت الادارة الاميركية موقف انقاذ الاقتصاد الروسي عبر صندوق النقد الدولي بعد مفاوضات شاقة. وهناك سعي للتعاطي مع الازمة المالية الآسيوية بما هو احسن يقوم به اقطاب الادارة. في كل هذه المسائل لا يبدو دور مادلين اولبرايت كبيراً او مميزاً. وهناك من يعتقد انها على هامش حلقة الافراد الذين يرسمون السياسات لا سيما وان معظمها مالي - اقتصادي - تجاري، وانها تتطلب فكراً استراتيجياً. وكما لا تعتبر وزيرة الخارجية المسؤولة عن السياسات الناجحة نسبياً، فهي لا تعتبر المسؤولة عن السياسات الفاشلة مثل قيام الهند وباكستان بتفجيرات نووية او تراجع عملية السلام في الشرق الاوسط الى درجة خطيرة. وكان على وكالة الاستخبارات المركزية قبل وزارة الخارجية، ان تتنبأ بقيام الهند بالتفجيرات. اما الاسراع بفرض العقوبات، التي يريد الرئيس الآن من الكونغرس صلاحية رفعها كي يتمكن من التأثير في صنع سياسة وقف السباق النووي في جنوب آسيا، فقد جاء نتيجة قوانين سنها الكونغرس وليس بقرار من وزيرة الخارجية. وعلى اي حال فان ساندي برغر، مستشار الامن القومي، يتولى اليوم اكثر من غيره ملف السلاح النووي، ساحباً، بذلك، من وزارة الخارجية ملفاً آخر يتطلب فكراً استراتيجياً. اما عملية السلام في الشرق الاوسط فهناك من يلوم اولبرايت على تراجعها، بينما يعتبرها بعضهم كبش الفداء لرجال الادارة الاميركية الذين يفضلون تجنب الصدامية والمواجهة لا سيما مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو. احد المطلعين على هذا الملف اعتبر توجيه اولبرايت موعداً حاسماً لقبول نتانياهو او رفضه المقترحات الاميركية "مضحكاً" و"ضرباً من الغباء". الا انه اعترف، في الوقت نفسه، بأنه لا يمتلك افكاراً خلاقة لاقناع نتانياهو بما تريده الاكثرية الساحقة من اليهود الاميركيين. اولبرايت ظنت ان الادارة جادة في الالتزام بالحزم والموعد الحاسم، لكنها فوجئت بسحب البساط من تحت قدميها، فاضطرت، ربما رغماً عنها، ان تمدد "موعداً اخيراً" بعد الآخر، ما افقد السياسة الاميركية نحو هذا الملف الصدقية التكتيكية فوق فقدانها الصدقية الاستراتيجية، وتطور الكلام الى التلويح بسحب الادارة الاميركية يدها من موضوع عملية السلام كلياً. اولبرايت ليست معفية من اللوم لتبني الادارة الاميركية سياسة انفعالية اعتباطية تكتيكية مائعة ادت الى تقلص ما اعتبر "صخرة" رئيسية في المصلحة الاميركية الوطنية: عملية السلام، الى مجرد "بحصة" تُرمى في وجه واشنطن. لكن اولبرايت ليست وحدها المسؤولة على رغم انها ارتكبت خطأ الاحتفاظ بفريق عملية السلام ذاته الذي اثبت فشله في عهد سلفها، فيما كان عليها استبداله كي لا تقع هي كبش الفداء. فالمسؤول الاول هو بيل كلينتون الذي يعرف تماماً ان حوالي 84 في المئة من اليهود الاميركيين يريدون منه ان يثبت الحزم مع نتانياهو، الا انه بقي متردداً. فالحزم مع نتانياهو يعني اتخاذ القرارات الصعبة، والرئيس الاميركي لا يضع صنع القرارات الصعبة في مطلع اولوياته. فهو يود ان تمضي الامور بلا مواجهة وبعيداً عن الاضطرار الى انجراره وراءها. فموضوع البلقان يبقى اوروبياً اولاً. وليس في منطقة الخليج ما يستدعي اجراءات عاجلة، ان كان لجهة التطبيع مع ايران او الاستمرار في احتواء العراق. ولا مانع من غسل الايادي من عملية السلام في الشرق الاوسط وابلاغ المعنيين ان لا خيار امامهم سوى التعاطي مع بعضهم بعضاً، وليس عبر اميركا. الرئيس الاميركي ليس متشوقاً الى رسم استراتيجية رؤيوية للولايات المتحدة في صنع سياستها الخارجية، وليس بين اقطاب ادارته من يصر على صياغة مثل هذه السياسة. فالرأسمال السياسي لكلينتون وأركان ادارته ليس في السياسة الخارجية الاميركية. وما تتطلبه السياسة الخارجية، في رأي الاكثرية من اقطاب الادارة، هو "الادارة الحسنة" للوضع الراهن والاعتماد على ديناميكية طبيعية تفرز الامور في الاتجاه المقبول. سياسة خطيرة في قصر نظرها؟ ربما، لا سيما وان الديناميكية لا تخلو من متطرفين قد يجرون الادارة الاميركية الى حيث لا تريد. انما قراءة الفكر السائد ضرورية. والسائد اليوم في الادارة الاميركية يذكّر بمقولة "إن في وسع الامبراطور ان يمضي عارياً".