محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    البنك الدولي يعزز تمويلاته المخصصة لتخفيف آثار التغير المناخي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرأة في شعر نزار قباني بين شخصية الشاعر وطباعه
نشر في الحياة يوم 04 - 05 - 1998

من الصعب تبيان صورة الآخر من غير التوقف عند الأنا والانطلاق منه الى رسم الخطوط والملامح. فالموضوع لا ينفصل عن الذات لأنه يخضع لإواليَّتَي التماهي والإسقاط بحيث تتشكل صورة الموضوع مع تشكيل العناصر الذاتيّة، ولذا كان طبيعيّاً للباحث عن صورة المرأة في شعر نزار قباني أن يربط بينها وشخصية الشاعر وطباعه.
اختزال المرأة الى شرائح
شاعرنا الطالع من بيئة شاميّة محافظة وحضارة شرقيّة موسومة بالعطش والجوع، لا بدّ أن يتأثّر بالمرحلة الغميّة وما فيها من نكوص الى الطفولة الحافلة بينابيع الغذاء والارتواء. ولا ريب في أنّ هذه المرحلة الأوليّة من حياة المرء، لا تخرج من إطار العلاقة الذوبانيّة. حتى إذا تعرض الطفل إلى إهمالٍ شبيهٍ بقَطع الحَبْلّ السُرّي، عمد الى تكثيف الامتصاص بُغية امتلاك موضوعه. وفي ذلك اختزال للآخر الذي يُعَدُّ معطى أولياً "كموضوع" لإشباع الرغبة. وقد بدا ذلك واضحاً في أعمال نزار الأولى حيث جسدت المرأة موضوعاً خالياً من الذات الإنسانية. وآية ذلك أن قصائد الشاعر تدور حول المرأة من خارج ولا تتسرّب الى المرأة من داخل. فقد كان همُّ نزار أن يضم النهد والشفة والساق، وأن يشبع غريزته في تذوق أطايب الأنثى عن طريق حواسه الخمس ولا سيّما عن طريق الفم".
وحجةُ ذلك في رأيه أنّ اللثم للشعراء غير محرم، وأن تذوق جمال المرأة بالثغر يعادل شراب السُكَّر. ولكنه شراب يخلّف خَدَرَ السكران ونشوة المخمور. فاللبيدو حين يُثبتُ على الفم يؤمِّن لصاحبه الشعور بلذة الأخذ كما يقول كارل أبراهام. ولما كانت عملية الرضاعة تمنح الطفل غذاءه، فلا بد أن تعطيه شيئاً آخر على أساس تعويض اللذة بلذة أخرى. من هنا كان الامتصاص أداة اجتيافٍ لامتلاك المحبوب بأجزائه المتقطعة. فالشاعر بنكوصه وانطوائه يتوخى الجمال، لا جميلةً معيّنة. ذلك أن هدفه في تلك المرحلة جنسُ النساء لا امرأة واحدة. وبما أن البيئة حافلة بالحواجز القمعية، فإنه يُسقط عدوانيته الملجومة فينتهرها بعصبية ظاهرة لما تسببه من اغراء لا يستطيع مقاومته.
هكذا عَرَضَتْ بعض قصائده لسوق البغاء حيث أتاحت له تفرساً وهمياً لم يشفِ غليله. ولذا رأينا شاعرنا في ديوان "أنتِ لي" يستبدل بجسد المرأة شيئاً آخر مثل ملابسها الداخلية أو جوربها. وربما غدت اجزاءٌ من جسدها، كالذراع أو الثدي، مبعثاً للّذّة، أكثر من أعضاء المرأة الجنسيّة. وكذلك أصبحت حركة من حركاتها أكثر اثارةً له من جسدها. وربما كان النرجسي مهيئاً أكثر من سواه لتجزيء المرأة الى شرائح، لأنه ينظر اليها من زاوية إشباع حاجاته، شأن الطفل الذي لا يعنيه من أمه بادىء الأمر، إلا صدرها أو حضنها. فهي عنده اجزاء مبعثرة. وتعلقه بها يكون عن طريق هذه الأجزاء لا عن طريق الكائن الموحد. ذلك ان الفيتيشيّة حمايةٌ لصاحبها، ووقايةٌ له من العالم الخارجي، لأنها تُبعده عن الآخر وتقربه من الذات، حيث الاكتفاء بالنفس والنكوص الى محور الأنا الضيّق. وما كنا نشير الى نزعة نزار الفيتيشيّة لولا إكثاره في مطلع شبابه من تجزيء المرأة تجزيئاً جعلنا نتساءل هل وراء هذه الخطوط والشرائح امرأةٌ تمدها بمغزى الوجود الإنساني؟ ولا يضير نزار الفنان أن يتمسك بظاهرة تجزيء الآخر، لأنها تعبيرٌ عن رموزٍ هي في أساس كل فن. فالفيتيشيّة ظاهرةٌ فنيّة في شعر نزار الشاب بلغ بها درجةً عالية من التوفيق والإجادة. وربما كان في هذا النوع من القصائد شاعراً ليس له مثيل، لأنه أوهمنا بعفويّةٍ اختفت وراءَها الصنعة اختفاءً تاماً.
ومثلما ركّز شاعرنا على أجزاء الجسد الأنثوي، توقف كذلك عند فيتيشية الأشياء الأنثوية من أثواب وأقراط وقوارير أو مقصّ ومبرد وشريط، أو قميص وفرشاة أو عروة ومنامة وأَحمر شفاه. هكذا يتوقف نزار مليّاً عند أثواب المرأة الخارجية والداخلية. فيثيره القميص الأحمر بنيرانه التي لا تقاوم، حتى ليغدو الشاعر حائراً بين الثوب الفاقع والثوب القاتم. تغويه رافعة النهد الزاهية ويُغريه كمّ القميص المغتلم ويَسْبيه الوشاحُ المطيب المخمور. فإذا الرداء الأصفر مُنتشٍ بمعصمِ صاحبته وذراعيها ونهديها، يلتفُّ بالخصر والردف التفافاً يجعل صاحبنا يشهق وينهار، حتى ليندمج الشاعر بالرداء اندماجاً كلياً، فيتوحد معه بالخيط واللون والعطور. وقل مثل ذلك في الوشاح الأحمر وثوب النوم الوردي ذي التطاريز والطرة المقصّبة والذيل والرسوم والزركشة المحبّبة. ولا يفوت الشاعر أن ينظم في رافعة النهد الخمرية قصيدة كاملة. وكذلك في كلّ من المايوه الأزرق الشفيف، وفي ساقي الحبيبة على الرصيف، وفي قارورة المانيكور وفي أحمر الشفاه والأقراط الطويلة.
إن فيتيشية الثياب والأشياء والأصوات ترتبط أكبر الظن بهذه الحواجز التي تعترض طريق المرء في مجتمعات الكبت. وقد ذكر بعض المحللين أن في الحب السوي درجةً محددة من الفيتيشية وعلى الأخص في المرحلة التي يبدو فيها الهدف الجنسي بعيد المنال. وقد استشهد فرويد على ذلك بقول فاوست: "آتني بمنديل من صدرها، أو برباط ساق حبيبتي".
واضح أن المرأة تشيّأت لتلبي نزوات النرجسي. وقد عَزز هذا الشعور مجتمعٌ استهلاكي اعتاد ان يبتلع كل شيء ويُبيد كل شيء. ولا ريب في أن هذه المشاعر أفضت بصاحبنا الى التقوقع والدخول في صدفة الذات. فلم يدرك من الحب إلا إشباع الغريزة أمام الأنثى الوليمة التي يتوق الى امتلاكها وأكلها وهضمها. وبدهيٌّ أن هذا النوع من إشباع الجسد لا يشكّل حبّاً إنسانيّاً يُرضي القلب والوجدان لأنه لا يتضمن حواراً بين ذاتين مستقلتين. من هنا فشل النرجسي في علاقاته. وربما لاحظ قباني هذه العلة في نفسه، فأخذ يحاسبها على ماضيه ويعيد النظر بسلوكه علّه يبدّل من مصيره. وقد تجلّى ذلك في دواوينه الثلاثة الآتية: "قصائد" و"حبيبتي" و"يوميات امرأة لا مبالية"، حيث أبدى شاعرنا رغبته في تخطي الذاتية والخوض في موضوعات الوطن والناس.
المرأة شخصيّة درامية
إن ديوان "حبيبتي" يمتاز بما فيه من حزنٍ شفيف يعكس يقظةَ الشاعر الروحية. ويعمد الى ما يُشبه النقد الذاتي مسلطاً الضوء على عيوبه. تارةً عن طريق اتهام نفسه وطوراً عن طريق المرأة التي ينطق بلسانها معبّراً عن خلجاتها في عالم الرجال. فالمرأة التي كانت عنده دميةً يعبث بها أو موضوعاً جماليّاً يفتنُّ في تصويره إرضاء لغروره، أخذت ملامحها تتطور شيئاً فشيئاً لتصبح على يديه شخصيةً دراميّة. إن صوت المرأة الذي كان متهدّجاً في "أوعية الصديد"، عاد ليستأنف انطلاقته بنبرةٍ أكثر حدّةً ووعياً وإدراكاً. ولعل قصيدة "صوت من الحريم" خير مثال على هذه الثورة الواعية. ففي "أوعية الصديد" كانت ثورة النساء كجنس تتفجّر ضد الرجال كجنس. أما في "صوت من الحريم" فإن الثورة غدت ثورة إنسانٍ تبحث عن إنسان. اي أن المرأة أصبحت تطالب ههنا بحقها في العاطفة، لأنها ذاتٌ تشعر وليست دميةً بلا احساس.
ولا شك في أن نزاراً يَدين هنا رجُلَ العالم الثالث الذي ينجذب نحو جسد أنثوي يضج بالحياة ثم ينقلب عليه إذا أصاب منه حظّاً. فيزدري صاحبةَ الجسد المباح كي يتزوج أخرى صدَّه جسدُها. وتكتمل هذه الصورة بقصيدة "الحب والبترول" حيث يخرج الشاعر بالمرأة من موضوعات رومنسيّة غنائية الى مشكلات اجتماعية سياسية. وكعادته أجاد نزار في التحدث بلسان النساء وتقمّص شخصياتهن والدفاع عن قضاياهن. إن القصائد التي تُروى على ألسنة النساء في شعر نزار، تكشف مقدرة صاحبنا على تقمص شخصية الأنثى والتعبير عنها تعبيراً يذكرنا بالكتّاب المسرحيين أمثال خليل قباني عمّ أبيه.
وخير دليل على ذلك ديوان يوميات امرأة لا مبالية حيث تبدو البطلة امرأة شرقية تعاني استلاباً معنوياً يعادل الموت النفسي. فهي ضحية تشريط مُزمنٍ يدفعها لتأدية دور الراضخ المقهور، فتطمئن الى هذا الدور مع أنها لا ترضى به. فكأنها استراحت للعبوديّة التي تعفيها من مسؤولياتها بالرغم من وعيها حقيقة غُبنها. من هنا إجهاض حركتها الثورية بنظر شاعرنا، لأنها تطالب الرجلَ بأن يُنقذها بدل أن تسهم هي نفسها بتحرير ذاتها: "متى يأتي تُرى بطلي؟ / فقد خبّأتُ في صدري له زوجاً من الحجل / وقد خبّأت في ثغري له كوزاً من العسلِ".
والحق أن نزاراً الذي دعم قضيّة المرأة في تلك المرحلة من حياته، سرعان ما تابع مساره الأول انسجاماً مع طبعه ومزاجه. فالمرحلة الفمّية التي سبق أن عبّر عنها في نتاجه الأول، اقترنت أيضاً بمرحلةٍ شرجية أظهرته مشاكساً يرفض المسالمة أو الركون لأيّة وصاية. ولم يكن دافعه الى ذلك غير هاجس الخوف من ذوبان ذاته وتلاشيها في الآخر. وهو لشدّة حرصه على كيانه رفض الحوار واختار الصراع في جدليّة العبد والمولى، لأنه لم يرتضِ التنازلات ولم يحتمل التضحيات. حتى إذا اختلطت الأوراق عبر انتصارات الشاعر وهزائمه، تمّ اندماج الضحية بالجلاّد، فكان هو القاتل والمقتول، والعابد والمعبود، والجاذب والمجذوب.
هكذا رأينا الصيّاد والطريدة يتحدان في شخصية نزار النرجسيّ، على رغم التجاذب الوجداني ما بين الحب والبغض. غير أنّ رياح النرجسيّ سرعان ما كانت تعصف لتبعثر ذرّات الجسدين المتحدين، وتعيدهما الى عراك "يكرِّس" حقَّ الشاعر، على حساب الضحية المتهمة. من هنا تمادى نزار في أحكامه العرفيّة وسنّ قوانينه القهرية رافضاً أنصاف الحلول: "أنْ تكوني امرأةً أو لا تكوني. تلك تلك المسألة".
فصورة المرأة النابعة من إيماغو الأمّ تتخذ عنده شكلين هُواميّين. المرأة المومس الطالعة من إيماغو الأم الشريرة. والمرأة العذراء الطالعة من إيماغو الأمّ الطيّبة. وأمّا صورة المرأة الحقيقيّة فلا وجود لها عند الشاعر. فطبيعيٌّ إذاً أن يستسلم لحبيبته الموسومة بالأم المثالية، وأن يصبّ غضبه على نموذج دليلة الغادرة: "أنا شمشون إذا أوجعتني / قلتُ يا ربّي عليها وعليّاً". فهو البريء الذي يحقّ له الدفاع المشروع عن وجوده. وقد تجلّى ذلك في ديوانه "الرسم بالكلمات" كما تجلّى التعب النفسيّ الذي غدا كآبةً دائمةً في نتاجه. وهي كآبة تختلف عمّا عرفه الشاعر من حزن في أيامه السابقة، لأنها هذه المرّة وليدة الارتواء وليس الحرمان. ففي هذه المرحلة نراه يشكو الوفرة لا القلّة. ويتضجّر من ترف الثروة لا من شظف الإملاق: "تعبتْ من السفر الطويل حقائبي / وتعبتُ من خيلي ومن غزواتي".
المرأة الوليمة وتخمة الدونجوان:
إن الدونجوان الذي كان همُّه تكديس أجساد النساء ليتباهى أمام غيره من الرجال، فُجع أخيراً بموت الشعور. وأدرك بعدما تقضّت فورة الشباب، أنّ الضجر استولى عليه بأسرع مما كان يستولي هو على أجساد النساء. فَهِمَ الدونجوان بعد هذه الخيبات أنه عرف آلاف النساء ولكنه لم يعرف "المرأة". ومن الطبيعي أن ينكفىء على نفسه عندما تنحسر طاقة اللبيدو وتتراجع كلّها لتوظَّف في صالح الذات: "مارستُ ألف عبادةٍ وعبادةٍ / فوجدتُ أفضلها عبادةَ ذاتي". ولكنّ الذات هذه المرة، استيقظت لتكتشف أنها عمَّرت قصوراً ورقيّة على أجنحة الوهم. ولعلّه من أجل ذلك قدّم ديوانه "الرسم بالكلمات" بأبيات ثلاثة كان آخرها: "عشرون عاماً يا كتاب الهوى / ولم أزل في الصفحة الأولى".
واضحٌ أن ارتواؤَه الجنسي لم يحلَّ عقدته لأنه بقي في ظمأ إلى ينابيع أخرى تاقت إليها نفسه. فكأنه نرسيس الذي اكتفى من البحيرة بوجهه المعكوس في صفحة الماء. فانشغل بهاجس المستحيل عن الصبية الحلوة "إيكو" التي هامت به ونذرت نفسها له، حتى هزلت من فرط صدّه وإعراضه، وأصبحت مع الأيام صدىً يترجّع في الجبال والأدوية.
فالإفراط في الجنس على نحو ما دعا إليه الشاعر ينتهي إلى الشبع والتخمة. وهي حالة الإفلاس الشعوري والمدخل العريض إلى عالم الضجر. وربما أسهم المجتمع الإستهلاكي في توجيه شاعرنا الى هذا النَهَم الطفولي الذي انتهى بانقطاع الشهيّة وفقدان الشعور: "فخذي حبوبَ النوم سيّدتي ونامي / ما دام عُريُكِ لا يُحرّك شعرةً مني لماذا أنتِ عاريةٌ أمامي؟". تلك هي حال الإحباط وقد جسّدها ديوانه "أشعار خارجة على القانون". والسبب غرق الشاعر في دَبَقِ النرجسيّة. والشرط الأهم لتحقيق الحبّ هو قهر ما لدى الإنسان من نرجسيّة. ولعل نزاراً صوّر هذه العقدة في حديثه عن المرحلة التي أعقبت زواجه الثاني مطلع السبعينات حين قال في قصائده: "لو كنتُ أعرف أين أقضي ليلتي / لو كنتُ أعرف أين أسند جبهتي / ما كان أغراني الصعودُ / لا تسألي من أين جئتُ وكيف جئتُ وما أريدُ؟ / لا تقفلي شيئاً فإنَّ الجنس آخرُ ما أريدُ".
وربما فهمنا الآن لماذا فشل زواج نزار الأول بأمّ توفيق، ولماذا يطالعنا بهذه الأشعار اليائسة بُعيد زواجه الثاني بالراحلة بلقيس، ولماذا بقي سنين طويلة ما بين الزواجين لا يرتبط بواحدة معيّنة من النساء. بعبارة أوضح ربما فهمنا الآن لماذا انتهكت علاقات نزار أو كادت تنتهي كلّها إلى الفشل. فشاعرنا لم يكتشف إلا جانباً واحداً من الحب هو جانب حب الشهوة بينما الحياة الجنسيّة لا تكتسب صفتها الطبيعيّة إلا باجتماع تيّارين هما تيّار الشهوة وتيّار الحنان. وغيابُ هذا التيّار الأخير يترك التجربة ناقصةً فتتسرّب إليها التفاهة وتزيل عنها طابعها الحواري وتحوّلها علاقةً هشَّة بلا هدف ولا جاذبية. عندئذٍ يتضاءَل الاتحاد الزوجي شيئاً فشيئاً وقد يُفضي الى الانفصال باعتباره حلاًّ لا مفرّ منه. ولذا سمعنا توماس مان يشير في "الدكتور فاوست" إلى أن كلمات حفلة الزواج. "هذان الاثنان سيكونان جسداً واحداً، هي كلمات سخيفة". فالجنس يعتمد على الغرابة وانفصال الجسد عن الآخر. أما الاندماج فيُتلف الدافع الجنسي ويدمّره.
فالمرأة/ المنسف، لم تعد غايته إذاً في تلك المرحلة، لأنه سلّم بذات الآخر شخصاً مستقلاً فريداً. فالمرأة الوليمة التي كانت هاجسه لم تعد هدفه. والشفاه الخاطئة المدمّرة لم تعد تغويه. فهو يبحث الآن عن امرأة واحدة يحبّها بدل مئةٍ من أجمل الإماء. ذلك أن عهد المرأة الجارية أو المرأة الأمة بدأ يتبدّد في نظر الشاعر. هكذا يتضح المدخل الى الحبّ الناضج الذي ينمو في جو صحي ملائم. وهذا القبول الواعي أو اللاواعي بالآخرين هو الخطوة الأولى في رحلة النرجسيّ الطويلة نحو تحقيق الذات. يقول نزار ضمن هذه الرؤيا الجديدة: "فضعي يديكِ كنجمتين على يدي / فأنا أحبكِ كي أدافع عن وجودي / وأنا أحبكِ في وجوه القادمين لقتل هارون الرشيد / هل تصبحين شريكتي في قتل هارون الرشيد؟".
وما هارون الرشيد إلا رمز الاستهلاك الشَبَقي والتحقير الجنسي. ونزار حين طلب من رفيقته أن تضع يدها على يده آمن بضرورة الاتحاد مع الحفاظ على الثنائيّة. ففي هذه الثنائية وحدها يكمن الوجود المتكامل، ومعنى ذلك أن الحب يتجه نحو "الكينونة" لا نحو "التملك". إن للمرأة كما يقول جورج غوسدورف دوراً مهمّاً تقوم به في حياتنا لأنها هي التي تأخذ بيدنا في السبيل المؤدّي الى معرفة ذاتنا. ومعنى ذلك أنّ المرأة بالنسبة الى الرجل، وسيط ضروري بينه وبين نفسه لأنها وحدها تستطيع أن تُشعر الرجل الذي تحبّه برجولته. ولذا يخاطبها نزار بقوله: "فأنا أحبكِ كي أدافع عن وجودي". فهي الكائن الوحيد الذي يتيح للرجل تحقيق معجزة الخروج من الذات لينظر الى نفسه وكأنه آخر. ذلك الآخر الذي هو في الوقت نفسه ذاته العميقة. وبهذا المعنى نقول إن المرأة وحدها تستطيع أن تخرج الرجل من عزلته الأليمة. ونزار حين صدمته رتابة الحياة اليومية وطالب بالخروج الى الهواء الطلق في إجازة ولو قصيرة، إنما كان يصدر عن عاطفةٍ فنيَّة تحتاج الى الاندهاش الدائم من أجل الخلق والإبداع.
الإباحيّة والشعور بالخصاء
غير أن هذه اليقظة التي عرفها نزار لم تشكّل انعطافاً في مسيرته لأنها الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة. فالنرجسيّة ليست مرحلةً نتخطاها ولكنها رفيقة العمر الدائمة، تخضع لتجاذب المدّ والجذر. وعدم التحرّر منها يولّد أزمات تجلَّتْ فيها سويداء القرن العشرين. وآية ذلك أنّ شاعرنا ظلّ يشكو من قلق الانفصال باحثاً عن نصفه الآخر أو عن حبّه المستحيل، سواء في الاتجاه الجنسي أو في الاتجاه الصوفي. من هنا التفاته الى الوجد الصوفي بعد خيباته في الاندماج الحسّي: "أفرش السجادة التبريز في الأرض وأدعو للصلاة / وأنادي ودموعي فوق خدّيَّ / يا وحيداً يا أحدْ / أعطني القوّة كي أفنى بمحبوبي وخُذ كلَّ حياتي".
بيد أن هذه المحاولات لم تنجح في رأْبِ صَدَع الانفصال، فظلّ شاعرنا ضائعاً بعد زواجه مثلما كان أيام عزوبته. فلا الفناء في المحبوب أجداه ولا التعايش معه أغناه. فشعر حينئذٍ أنه ضحيّة سجن جديد يسمّونه المؤسسة الشرعيّة. فحكم على الزواج بالفشل بعدما رأى في الأزواج مهرّجين. هكذا يصل نزار مع صاحبته أو زوجته الى نقطة الصفر، حتى سمعناه يبدي رأيه في الزواج: "منذ أن كنتُ طالباً في الجامعة / ليس من مصلحتك أن تتزوجيني / ولا من مصلحتي أن أكون حاجباً على باب المحكمة الشرعيّة". فالنرجسي عاجزٌ عن الوعد كما يقول إريك فروم ونزار بحرٌ لا يضمن حدود جزيرة. وعلى المرأة أن ترضى بمصيرها معه، أو عليها قبول نصيحته في عدم الزواج. والحق أن الدواوين التي تلت أشعار خارجة على القانون هي استمرارٌ للسأم والملل والاغتراب. ولكن الجديد فيها هو هاجس الزمن الذي بدأ يقلقه ويدفعه الى الانسحاب من الخارج والانطواء على الذات. صحيح أنّ شاعرنا انطوائيّ المزاج، إلاّ أنه في شبابه كان لا يرفض المقاهي والمطاعم والفنادق، بل كان من الفرسان الذين يراودون الفتيات عن رقصة مهموسةٍ في حفل بهيج. وكانت رقصة السامبا تستهويه فينخرط بين جموع الراقصين. وكان يصاحب صديقاته إلى مغارة جعيتا ونادي الصيد في جبيل، ويرافقهنّ الى طبرجة واليرزة والروشة وشارع الحمراء. إلا ان انطواء مزاجه بعد الخمسين من عمره أعاده الى مرحلة فميّة يسعد بها النرجسي لما فيها من اتكالية وتلقٍّ بدل العطاء والمبادرة.
ولذا رأينا الشاعر في الثامنة والخمسين من عمره يطلب من حبيبته أن تدرّسه مثل تلميذ صغير كيف يصنع من نهدين جملةً، أو يكتب من ثغرين قبلة. وقد يكون السببُ في تشبّث النرجسي بهذه الحالة من الاتباعيّة نوعاً من الرُّهاب إزاء النساء بعدما هدّته التجارب وأنهكته الخيبات. ها هو أمام فتاة لم تبلغ العشرين بعد، يخبرنا ان اسمها "مايا". وهي نسخةٌ ثانيةٌ من "لوليتا" نابوكوف. وقد رسم لها نزار لوحةً موحية وهي تُغنّي تحت الدوّش"، فتضحك وتغضب وترضى وتسخط بلا سبب، وهو قانعٌ بمزاجها الهوائي كأنها "ملاكه الأزرق". غير أنّ طبعه الهادىء ههنا، لا يعني زهده بموضوع رغبته بل هو سلوك التفاف يتوخّى فيه نيل مبتغاه بطريقة ملتوية. وآية ذلك أنّ هدوءه لا يستمر الى نهاية الطريق لأنه أصبح مضطراً مع الأيام الى إثبات فحولته التي تقاوم الزمان. فالدونجوان يحتاج في كهولته الى طبلٍ وزمر وإلا انتهى دوره على المسرح. فإذا أَعْيَتْه بطولاتُ الأفعال لجأ الى بطولات الأقوال. هكذا تطالعنا عودة صاحبنا الى الإباحيّة التي عهدها في مطلع شبابه، وقد بعثرها مجدَّداً في قصائده المتأخرة. ولا ريب في أنها محاولة تعويض عن الشعور بالخصاء ووسيلة تأكيد للفحولة قبل انحدارها نحو المغيب.
* * *
تلك هي صورة المرأة في أدب نزار قباني. وقد تباينت ملامحها مع نموّ شاعرنا وانعكاس هويّته من خلال المراحل الزمنيّة التي تركت عليه بصماتها. فمن الصورة المختزلة جنسيّاً مع مطلع شبابه الغارق في المرحلة الفميّة، الى صورة المرأة التي عاداها بعُصاب النمط الشرجي من خلال جدليّة العبد والمولى، تسويغاً لمهاجمتها وتبخيساً لقيمتها. ولعلّ هذا التهجّم على بنات دليلة مرجعه إحباط شمشون أمام الأنوثة التي أغوته وسيطرت عليه. صحيح أنّ هذه العدوانيّة صدرت عن نَمَطٍ شرقيّ ومناخٍ صحراوي لا يتقبلان المرأة إلا جارية في قصر الحريم، غير أنّ شاعرنا لم يكن معجباً بهذه المواقف لأنه دانها في كثيرٍ من أشعاره، ودعا الى تحرير المرأة من طغيان المجتمع البطريركي. ولا يعني ذلك أنّ المرأة في شعر نزار أدركت استقلالها. فثورتُها على أوضاعها أجهضتْ بسبب تعقيد الرجل من ناحية، وتقصير المرأة نفسها من ناحية ثانية، إذ هي ارتاحت الى عمليّة تشريطها في بيئة العالم الثالث، مؤثرة التبعيّة على احتمال المسؤولية.
نزار لم يدّعِ قط أنه مبعوثٌ سماويٌ ليحرر المرأة، لأنه صرّح بأنه والمرأة سواء. كلاهما سجين في قفص التقاليد والعادات. هكذا بقيت النساء عنده شرقيّات في التوجه الى الرجل بصفته السيّد. وبقينَ غفوراتٍ مسامحاتٍ إزاء غدره وطغيانه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.