اذا كان صدور كتاب المؤرخة والجامعية الفرنسية نادين بيكودو* جاء قبل اشهر قليلة من الاحتفالات ذات الدلالة المتعارضة والمتقابلة ولادة الدولة اليهودية في الحالة الاسرائيلية، وحصول النكبة في الحالة الفلسطينية والعربية، فإن هذا الصدور لا يعود حصراً الى رغبة في مجاراة ومواكبة احتفالات من شأنها ان تتحول الى مناسبة للمراجعة التاريخية او تجديد عمل الدعاوة والتعبئة، اذ ثمة ما يدل على ان فكرة الكتاب تميل الى تعهد وتقديم المادة التاريخية لأسئلة وشكوك ومخاوف وآمال تتعلق كلها بمسار عملية السلام المتعثر حالياً وتعاظم الاهتمام فرنسياً بالمسألة الفلسطينية والصراع العربي - الاسرائيلي. ونحسب ان نادين بيكودو تعلم بأن كتابها هذا وهو الخامس بعد أربعة كتب تدور على جوانب وحقبات حديثة من التاريخ السياسي للشرق الأوسط يتوجه اساساً الى الجمهور الفرنسي العريض والمتخصص في آن. ونحسب كذلك انها تعلم بأن عملها الساعي الى تقديم وتحليل الجذور التاريخية للنزاع، وبالتالي لواقع وحدود التسوية الهشة التي ما تزال تترنّح بين ضغط الحرمانات والظلامات التاريخية وبين آمال مستجدة في انهاء النزاع، تعلم بيكودو ان عملها محفوف بصعوبات شتى نظراً لتشابك الخيوط والمستويات المحلية والاقليمية والدولية التي باتت تلابس منذ نهايات القرن الفائت موضوع البحث، اي التاريخ السياسي للفلسطينيين. ويمكننا القول بدون تردد بأن القارئ الراغب في التقاط السياق التاريخي لجملة التطورات السياسية للموضوع الفلسطيني منذ قرن يجد ضالته في كتاب بيكودو الذي يتقدم كواحد من المصادر والمراجع الرصينة في هذا المضمار. ومع ان الكتاب يدور في معظم اجزائه وفصوله على التاريخ السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية، فان الباحثة لم تغفل الوجوه المتصلة بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي. وإذا كانت هذه الوجوه الاخيرة تتقدم في صورة مكثفة وبدون كبير توسع بحيث تحتل قرابة العشرين صفحة من القسم الأول، فذلك لأن المحور الفعلي لكتاب بيكودو يلتفت تخصيصاً الى العلاقات بين وجوه التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وبين بدايات وارهاصات والتباسات التعبير السياسي عن الوطن الفلسطيني الخارج من الفلك العثماني كي يجد نفسه داخل فلك آخر يعمل في صورة مختلفة، وهو الفلك البريطاني الانتدابي. والراجح ان هذه الاعتبارات هي التي جعلت بيكودو تبدأ بحثها بتحليل وتقويم التشريعات والاجراءات الناشئة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي احدثت تبدلاً ملحوظاً في نظام الملكية والاستهلاك التي اسفرت عن تملك عائلات نافذة، في الارياف وفي المدن، لمساحات شاسعة من الأراضي، ولم يقتصر هذا التملك على النطاق الفلسطيني في المعنى الحالي للكلمة بل قيض لعائلات مدينية "عثمانية" ان تتملك آلاف الدونمات من أراضي الاقليم الفلسطيني، وفي مقدمها عائلات بيروتية مثل بسترس وسرسق على سبيل المثال لا الحصر. ولم يكن هذا التحول الطارئ في وضع الملكية بدون نتائج على العمليات الأولى لانتقال بعض الأراضي الى ايدي اليهود القلائل حتى قبل ولادة الحركة الصهيونية وارتسام مشروعها الاستيطاني القائم، بطبيعة الحال، على تفريغ الأرض من سكانها الاصليين. على قاعدة التبدلات المذكورة ترصد نادين بيكودو تحولات المجتمع الفلسطيني وآليات تشكل الهيئات ذات الطابع التمثيلي السياسي، وهي هيئات كانت تخضع عموماً للاشراف البريطاني منذ مطلع العشرينات، خصوصاً حين اخذ يتعاظم دور المفتي الحاج امين الحسيني. وها هنا تلحظ بيكودو بحق ان الاجماع الفلسطيني على العداء للصهيونية لم يكن كافياً لإقرار وترسيخ التماسك في الجسم الاجتماعي وفي بدايات التعبير عن شخصية وطنية فلسطينية. ذلك ان الحركة الفلسطينية الطامحة الى انشاء موقع وإطار جامع بقيت عملياً تحمل تكسرات سياسية وثيقة الصلة، في خطوطها العريضة وفي منطق توالدها، بالتقطيعات الأساسية للمجتمع، سواء كانت هذه التقطيعات عشائرية ام مناطقية ام طائفية. وفي هذا الاطار يندرج الانقسام المتعاظم الاهمية والاشتغال بين عائلات الاعيان في المدن خصوصاً بين عائلة الحسيني وعائلة النشاشيبي. ويضاف اليها الانقسام القديم بين مشايخ الأرياف وبين الاعيان المدينيين، أي بين الزعامات الريفية العشائرية وبين العائلات النافذة في المدن، علماً بأن قسماً من عائلات مشايخ الأرياف راح ينتقل ويستقر في المدن. الى ذلك، تلحظ بيكودو ان التداخل بين ادوار ومواقع العائلات المحلية وبين السلطة المركزية العثمانية كان يتحكم في صعود او افول نجم وأهمية هذه العائلة او تلك. فعائلة الخالدي مثلاً التي كان رجالها قريبين من رجال "التنظيمات" ذوي الميول الاصلاحية والتجديدية، راح موقعهم يتضاءل مع انحسار "التنظيمات" في السبعينات من القرن السابق لصالح عائلة الحسيني التي والت وأيّدت سياسة السلطان عبدالحميد الاسلامية الجامعة. هذه الانقسامات الاجتماعية ذات الطابع العمودي، اضافة الى توزع اجزاء عريضة من سكان الأرياف بين "حمولات" عشائرية وقبلية متنازعة او متنافسة، ألقت بثقلها على صور الادراك والتمثل والتعبير الساعية الى الافصاح عن التطلعات السياسية الفلسطينية. غير ان الانقسامات المذكورة لم تكن وحدها تفسر معالم ودرجات الوعي السياسي الناشئ، اذ نشأت في كنف العلاقات الحديثة نخبة متعلمة، خصوصاً في المدن، اضطلعت بمهمة التنبيه والترشيد في اوقات مبكرة. فأول احتجاج سياسي عربي صريح، سابق على ولادة الحرية الصهيونية، بحسب ما تلحظ بيكودو، صدر عن الاوساط المدينية واتخذ شكل برقية موقعة من اعيان القدس وموجهة الى الصدر الاعظم في 24 حزيران يونيو 1891. وفي هذه البرقية يطالب هؤلاء الأعيان بمنع هجرة اليهود الروس الى فلسطين، وبالحؤول دون تملكهم الأراضي فيها، ومع ان ردود الفعل المعادية للهجرة اليهودية اخذت تنتشر، فان نظرة عدد من الكتبة والمثقفين الى الفكرة الصهيونية، لم تكن في بداياتها خالية من الغموض ومن ازدواج المشاعر وتنافرها، اذ اعرب عدد من الناشطين في النشر والصحافة والكتابة ومن بينهم الشيخ رشيد رضا في بدايات القرن الحالي عن اعجابهم بالايديولوجية القومية اليهودية وعن خشيتهم منها في الوقت ذاته. وهذا الموقف الملتبس من الفكرة الصهيونية كان يتغذى من الالتباس العام الذي شاب نظرة المصلحين والمجددين الى الغرب ونموذجه، غير ان النخب المتعلمة اخذت شيئاً فشيئاً تدرك مخاطر المشروع الصهيوني وتعاظم الثقل السياسي والاداري لليشوف في فلسطين، بدون ان تنجح في صياغة قطبية جامعة تعلو الانقسامات الاجتماعية العميقة الغور والشديدة الوطأة. والباحثة بيكودو لا يفوتها ان صور الادراك والتعبيرات المستجدة كانت تنمو على ايقاع العلاقات العثمانية - الأوروبية وعلى تأرجح المواقف العثمانية النافذة من المشروع الصهيوني. وترصد المؤرخة الفرنسية هذه المواقف ايام السلطان عبدالحميد ومن ثم في عهد قادة انقلاب عام 1908 ضد السلطان المذكور. اذ كانت ثمة علامات تقارب بين مسؤولين بارزين في الحركة الصهيونية وبين رجالات جمعية الاتحاد والترقي، ولكنها ظلت في حدود العلامات الغائمة ولم تتبلور في تصورات سياسية واضحة. وفي هذا السياق، تجدر الاشارة الى ان محاولات تدارك الخطر لم تكن غائبة عن الهيئات الناشئة في فلسطين في اطار السياسة العثمانية الجديدة. فالحزب الوطني العثماني الذي تأسس عام 1911 على يد الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، يلخص اهدافه من خلال المطالبة الواضحة بمنع الهجرة اليهودية وبيع الأراضي، كما يطالب باحصاء اليهود وبمنح اوراق ثبوتية لليهود والمعدومين من بين الرعايا العثمانيين، وبمراقبة حكومية على مدارسهم وبرامجهم الدراسية، وبمنع منظماتهم الخاصة التي لا تحظى بإذن واضح من السلطات طبقاً للقوانين المعمول بها. وفي ما يتعلق بالحدث المركزي، اي حرب عام 1948، فان بيكودو ترى بحق ان هذه الحرب بدأت في الواقع عام 1947، وبأنه من الصائب ان نتحدث عن حروب 1948 حيث اتصلت ببعضها البعض وفي صورة لا تخلو من التعقيد ثلاثة فصول كان اولها اندلاع النزاع اليهودي - الفلسطيني، ومن ثم الهجوم الصهيوني التوسعي السابق على اعلان نشوء دولة اسرائيل، وأخيراً المواجهة الاسرائيلية - العربية ابتداء من يوم 15 ايار مايو 1948. خلال المرحلة الأولى التي بدأت مع دعوة الهيئة العربية العليا الى الاضراب احتجاجاً على قرار التقسيم، نزح جزء بارز من النخبة المدينية الفلسطينية تجار وأصحاب مشاريع وعلماء وعاملون في المهن الحرة الى مدن عربية مشرقية وأسعفتهم في ذلك علاقات القرابة والمصاهرة التي انعقدت مع بعض العائلات النافذة كما هي الحال بين عائلة الخالدي وعائلة سلام البيروتية، وبين عائلة العلمي وعائلة الجابري الحلبية، وبين عائلة النشاشيبي وعائلة الصلح الصيداوية اللبنانية. في المرحلة الثانية تبدّت بوضوح معالم توسع هجومي صهيوني بين مطلع نيسان بريل ويوم 14 ايار وفيه وضع الصهاينة خطة "دالت" موضع التنفيذ وذلك للالتفاف على القرار الاميركي الداعي الى تعليق مشروع التقسيم وإخضاع فلسطين للوصاية الدولية الموقتة، ولخلق امر واقع لا رجعة عنه مع تعديل لحدود الدولة اليهودية المفترضة. فمن اصل ثلاثة عشر هجوماً صهيونياً، نجد ان ثمانية منها طاولت مناطق تقع اصلاً في نطاق الدولة العربية كما رسم حدودها قرار التقسيم. اقتضى العرض التاريخي لتطور الحركة الوطنية الفلسطينية، ان تلتفت بيكودو على الدوام الى انشطة القوى الاخرى الفاعلة، وفي مقدمها الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني وتعرجات السياسية وفقاً للظروف الاقليمية والدولية. وتخلص الباحثة من ذلك الى القول بأن تضافر عوامل عدة الموقف الصهيوني والبريطاني والأردني هو الذي حال دون نشوء دولة عربية في فلسطين، دافعاً بمئات الآلاف من الفلسطينيين الى النزوح الذي ستصبح قضيتهم مدار "تعريب" متزايد فتح باب المزايدات بين الدول العربية المتنازعة والمتنافسة. وفي حالة الشتات والنزوح سوف يقوم الفلسطينيون شيئاً فشيئاً بتكريس استقلاليتهم عن الوصايات العربية المتنقلة والتي كانت حتى اواخر الستينات تجد متكآت لها داخل الجسم الفلسطيني نفسه، والنصف الثاني من الكتاب يدور عملياً على عرض تاريخي لوجوه "التعريب" من جهة ولتعاظم المسعى الفلسطيني الى انتزاع شخصية متمايزة ومستقلة. وإذ ترصد بيكودو هذه الوجوه فإنها لا تتخلى عن المسافة النقدية، الضمنية حيناً والصريحة حيناً آخر، التي تقيمها مع موضوع بحثها مع احتفاظها بمقادير من التعاطف والتفهم لمسيرة الفلسطينيين السياسية. وفي هذا المنظار النقدي الملتفت الى الوقائع والى الوصف التاريخي، تقرأ بيكودو التجربة الأردنية ومن ثم "المصيدة اللبنانية" التي وقع فيها الفلسطينيون وانتهت بخروجهم من لبنان، كي تبدأ مرحلة مختلفة من العمل الفلسطيني اتسم بقطيعة "الانتفاضة" وبزوغ قوى الداخل الفلسطيني وصولاً الى مدريد واتفاقية اوسلو. وفي كل ذلك تستند بيكودو الى مصادر ومراجع اساسية مدعومة بالأرقام والاحصائيات، كما تستعين بدون جلبة كبيرة بأعمال بعض المؤرخين الاسرائيليين الجدد. Nadine Picaudou. Les Palestiniens - Un Siecle Dشhistoire. الفلسطينيون - قرن من التاريخ . Editions Complexe, Bruxelles. 1997. 335 pages