هل يمكن القول بأن نوعاً من الانقلاب السياسي كان في طريقه لأن يغري الأمير فيصل يوم العاشر من حزيران يونيو من العام 1918، دافعاً اياه الى محاولة تبديل موقفه الراضخ للرغبات الانكليزية والمعادي تماماً للأتراك؟ وان هذا الانقلاب كان من شأنه أن يحصل فعلاً ويبدل، ربما، من سير الأمور في سورية وما جاورها، لولا إدراك لورانس لما كان يعتمل في ذهن الأمير فيصل ومسارعته الى ابلاغ الحكومة البريطانية بذلك، ما جعل هذه الحكومة تلتف على الأمر، وتحديداً عبر ما سمي يومها ب "التصريح الى السبعة"؟ هذا التصريح الذي صدر يوم 16 حزيران يونيو من ذلك العام، والذي تقول عنه الدكتورة خيرية قاسمية في كتابها "الحكومة العربية في دمشق" أنه كان "أهم بيان سياسي رسمي يوضح سياسة الحكومة البريطانية تجاه البلاد العربية الداخلة في الحدود المرسومة بمراسلات الحسين - ماكماهون، جاء في الحقيقة في ذروة مرحلة كانت الشكوى الكثيرة قد بدأت تعتمل لدى العرب، ولا سيما لدى الأمير فيصل، حول صدق الانكليز وحقيقة نواياهم. ففي بداية ذلك العام كان فيصل قد اجتمع بالزعيم الصهيوني وايزمن وفهم حقيقة المرامي الصهيونية وتأييد الانكليز لها. ثم جاء الصراع بين انكليز الهند وانكليز الجزيرة العربية، ليكشف للعرب جانباً آخر من جوانب السياسة البريطانية. بعد ذلك، إذ بدأت القوات الانكليزية تسترخي في حربها، وبدا الأتراك صامدين، كان من حق الأمير فيصل أن يفكر بتغيير موقفه، وربما حتى بالرجوع الى أحضان الأتراك، خصوصاً تحت ضغط جمال باشا الذي كان قد حقق بعض الانتصار في مدينة السلط في شرقي الأردن مكنه من أن يرسل الى فيصل مندوباً يخبره ان القائد التركي يهدي انتصاره الى نبي العرب والمسلمين محمد ص، ملحاً على أن الانتصار الذي حققه على الانكليز انما كان في حقيقته انتصاراً على اعداء الإسلام الأقوياء. ودعا جمال باشا فيصل للانضمام اليه ضامناً له استقلال كافة الشعوب العربية. والحال أن تلك الرسالة كانت بداية لمراسلات بين جمال باشا وفيصل، كانت ذروتها رسالة وصلت الى الأمير فيصل يوم التاسع من حزيران يونيو 1918، وقيض للورانس ان يطلع عليه فذهل. قبل ذلك كان لورانس يوحي للقيادة البريطانية بأنه هو الذي يشجع الأمير فيصل على التراسل مع جمال باشا، وغايته من ذلك مزدوجة: من ناحية جس نبض جمال باشا لمعرفة نواياه الحقيقية، ولو بين سطور ما يعرضه على الأمير فيصل، ومن ناحية ثانية جس نبض هذا الأخير ومعرفة مدى اخلاصه في العمل مع الانكليز. هذا كان طوال الفترة الفائتة. أما الآن فإن المسائل باتت أخطر: لقد لاحظ لورانس ان جمال باشا يعرض على الأمير فيصل في رسالته الأخيرة تحالفاً حقيقياً. ويكشف كيف أن الأمير فيصل في رسالة كان قد بعث بها اليه، طلب بأن تنضم الى قواته - أي قوات فيصل - كافة الوحدات العربية العاملة ضمن قوات جمال باشا. أما في حالة ما إذا كانت هناك معارك مشتركة، فإن فيصل يريد أن تكون هناك قيادتان منفصلتان، كما يطالب بأن تقوم هناك علاقات تعاون حقيقية في المستقبل بين البلدين، تشبه العلاقات القائمة بين بروسيا من ناحية والامبراطورية النمسوية - الهنغارية من ناحية ثانية. عندما قرأ لورانس كل هذا يوم العاشر من حزيران، ذهل، لكنه ابدى امام فيصل اهتماماً مزيفاً، طالباً منه أن يواصل ما سماه "مناورته". أما في أعماقه. فإنه أدرك ان فيصل بدأ يشكك في انتصار الانكليز وانه بات يميل حقاً الى دراسة امكان قلب التحالفات. انبأ لورانس حكومته بهذا كله، فسارعت الى التحرك، وهي، من دون ان توحي لفيصل بأن تحركها نابع من نواياه الجديدة، استندت الى بيان - أو مذكرة - كان قد وجهها "السبعة" الى الحكومة البريطانية طلبوا فيها "تعريفاً واضحاً للسياسة البريطانية المزمع تطبيقها على البلاد العربية وشكل الحكومات التي ستقام بعد الحرب" والسبعة هم سوريون مقيمون في القاهرة لم يوقعوا بأسمائهم على المذكرة. وكان الرد البريطاني على السبعة واضحاً. وكان من الواضح أيضاً أنه موجّه الى فيصل نفسه، بشكل ملتوٍ، ويقول أن بريطانيا تعلن اعترافها باستقلال المناطق العربية التي كانت حرة ومستقلة قبل الحرب، وكذلك المناطق التي حررها العرب بأنفسهم خلال الحرب. أما المناطق التي كانت ما تزال تحت سيطرة الترك أو تلك التي استولت عليها جيوش الحلفاء فقد أعلنت المذكرة أن سكانها سيفوزون بحريتهم واستقلالهم ونظام الحكم فيها سيكون مبنياً على رضا الأهلين. هذا التصريح الذي اعتبر في حينه معارضة لاتفاقية سايكس - بيكو، سوف يبلغه لورانس للأمير فيصل، بحماسة شديدة. ويبدو أن اللعبة كانت ناجحة، إذ سرعان ما تخلى فيصل عن توجهاته ونياته الجديدة، وعاد يحارب في صفوف الانكليز، بعد أن طوى، كما تثبت لنا الأحداث التالية تلك الفترة التي لو تحققت لقلبت شؤون المنطقة رأساً على عقب. في ذلك الحين على الأقل الصورة فيصل في العام 1918.