حلم الشريف حسين بن علي، قبل مئة عام، بدولة عربية مستقلة، متحرّرة من السيطرة العثمانية، وقريبة من مجد عربي قديم. قاده حلمه إلى تحالف مع الإنكليز، وإلى اتفاقيات ومراسلات، وإلى مفاجآت لم يتوقعها الشريف الحالم، الذي كان مقيماً في مكة، جاءت المفاجآت باتفاقية سايكس - بيكو وبوعد بلفور، وجاء معها الكولونيل توماس لورانس، ضابط الاستخبارات البريطانية، الذي بدا، ذات مرة، أميراً عربياً. رسم الإنكليزي مايكل أشر، الذي انجذب إلى الصحراء، وعاش مع البدو ثلاث سنوات، سيرة لورانس بتفصيل كبير، في كتاب ضخم عنوانه: لورانس، ملك الجزيرة العربية غير المتوّج. أعطى الكتاب صورة إنسان متعدد الصفات: فهو المغامر المشدود إلى الشرق، والمأخوذ بالبحث عن الآثار والقلاع الصليبية، والعارف بأحوال العرب وسُبل السيطرة عليهم، والجندي الحاضر في «الثورة العربية»، والمراقب اللامع لمجريات الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، والمولع بالدرّاجات النارية السريعة التي قتلته عام 1935، وصاحب كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، الذي رفعه إلى مقام الأدباء الكبار، والإنسان - الأسطورة، الذي وعد العرب بالنصر، ونصر اليهود. بيد أن ما خلق صورته المؤسطرة في الذاكرة الإنكليزية والغربية معاً، صدر عن صورة تثير الفضول: كوفية عربية بيضاء تغطي رأسه وعنقه، تمتد في عباءة مذهّبة، وعقال مذهّب من طبقتين، وخنجر يتوسّط هيئته، التي لا تميل إلى الطول. لم يكن في هيئته «العربية»، التي كان يهرع إليها حين يريد، ما يأتلف مع وجهه الأبيض وعينيه الزرقاوين وأنفه الدقيق وشفتيه المزمومتين الناطقتين بالجد والصرامة. وكثيراً ما اعتقد الكولونيل، في لحظات هدوئه الغاضب، أنه شريف من أشراف العرب يلبّي، على طريقته، «مصالح الإمبراطوية»، ويظل أميراً. استهل أشر كتابه بقولين لتوماس لورانس يشيران إلى ما كانه أو حاول أن يكونه، جاء في الأول، الذي يحيل على كتابه «أعمدة الحكمة السبعة»: «القصة التي أخبرك بها من أمتع ما يمكن أن يخبر به إنسان آخر». يستدعي القول مستمعاً كثير الفضول، ومتحدثاً جعل من إثارة الفضول جزءاً من حياته. جمع في القول قصصه مع العرب، وأعطاها النهاية التي يريد. أما القول الثاني فجاء فيه: «على الإنسان أن يشقى كي يكون راضياً»، الذي يترجم طموحاً يرى إلى المآل الأخير، ولا يلتفت إلى مصاعب الطريق. يثني القول على «فضيلة الترويض»، التي تبدأ بترويض الذات، السائرة فوق مساحات من رمال تسوطها شمس حارقة، وتمر على «بدو» غريبي المعاش والطباع، وتقف طويلاً أمام «الصحراء العربية»، التي تعرّف عليها لورانس في خريف 1908، حين قرأ كتاب تشارلز دوتي (الصحراء العربية)، اعتبره «إنجيلاً في نوعه». ينشر هذان القولان، كما جاء في كتاب آشر، صفات إنسان غريب، تنوس بين الحقيقة والاختراع: اشتهار بالقسوة المفرطة، نسبت لورانس إلى السادية، كان يطلق العنان لغرائزه الدموية وهو يرى الجنود الأتراك سابحين في دمائهم، وشهرة برومانسية مفرطة تتأذى من العنف، ونعته بالشذوذ الجنسي والتصريح بما ينفيه، وإرادة بالغة القوة يصاحبها ضعف جسدي، ومحبة للعرب واسعة وتعاطف رقيق مع اليهود، واحتفال بالرغبة إلى حدود الرعونة ونزوع إلى تقشّف لا يحتمل... والأكيد في هذه الصفات المتضاربة تجسّد في أمرين: خدمة لورانس المتفانية للمصالح البريطانية، انطلاقاً من تصوّر يقدّس الجندي، ووظيفته، ما جعل منه بطلاً وطنياً، اشترك في «جنازته» الألوف وسار فيها عدد من كبار العسكريين والمسؤولين، وتمثاله في الكنيسة الأنكلو - سكسونية القديمة في ويرهام في دروست، الذي يؤمه الآلاف في كل عام. إضافة إلى إخلاص لليهود لا انزياح عنه. أسهم لورانس، وهو يتحرّك بين المقاتلين العرب من دمشق إلى العقبة، في هزيمة العثمانيين وانتصار بلاده، وأسهم وهو يتحرّك في الدوائر الصهيونية والإنكليزية، في انتصار اليهود وهزيمة الأحلام العربية، فكان أحد صنّاع «وعد بلفور»، الذي وعد بوطن قومي لليهود في فلسطين». فوفقاً لآشر، فإن مسؤولاً إسرائيلياً قال: «لورانس كان صديقاً لليهود، آمن بإسرائيل كوطن قومي لنا، ولهذا لن ننساه أبداً.». يعلّق آشر: «ما قاله الإسرائيلي صحيح كلياً. فمثل كثير من أبناء جيله كان لورانس مستثاراً بفكرة عودة اليهود إلى أراضي أجدادهم، قبل ألفي عام. رأى البريطانيون في أنفسهم حرّاساً سريّين للزمن، قادرين بفضل ثروتهم وقوتهم على إعادة بناء التاريخ.». ولعل هذه الاستثارة الجاهزة هي التي دعت لورانس إلى زيارة الجليل عام 1909 حين كان ينقّب عن «الآثار»، وأن يستمر في زياراته إلى أن اطمأن على مستقبل «شعب الله المختار». وفي تلك الزيارات نسج صداقة متينة مع «سارة أرنسون» الجاسوسة اليهودية اللامعة، التي أهداها كتابه تقديراً «للخدمات التي قدمتها لبريطانيا». الطريف، وفي حدود شخصية مسكونة بالتناقضات، أن لورانس كتب لأمه مرة: «إنني عربي العادات»، دون أن يحدّد هذه العادات، وأنه وجد في شخصية فريدة عقل، من مدينة جبيل اللبنانية، مرشداً إلى الثقافة العربية وأنه اطمأن إلى العرب وإلى طريقة عاقلة في التعامل معهم، عنوانها: «المتوحش النبيل». فإذا كان ما جذبه إلى سارة آرنسون وحدة الهدف، والموازنة بين الغايات والوسائل (جعلت من جمالها العاقل جسراً إلى المستحيل)، فإن ما قرّبه إلى العرب أنثروبولوجي السبب، إذ بدا له إنساناً طبيعياً عصيّاً على الفساد، ينتهي كما يبدأ ولا يتأثر بالغريب الذي يمر به. ولهذا «أصبح لورانس عربياً»، إنه من البدو ومعهم، يأكل ما يأكلون وينام كما ينامون، ويكون في أوقات الراحة أميراً من أمرائهم، يلبس كما يلبسون. وكان يعارض معارضة شديدة أن يتعلّم البدو اللغة الإنكليزية، فهي تفسدهم، بل كان يكره الفرنسيين، الذين يريدون نشر الفرنسية بين العرب. وكان يفاخر، في مؤتمر السلام في باريس 1920، أنه يعرف اللغة العربية أكثر من العرب. وأنه قادر على الحديث والكتابة بها، وقادر على الترجمة عنها، حتى لو دفعه الأمر إلى اختراع المعنى. لا يؤمن البدوي بالفرد، كان يقول لورانس، بل بالعشيرة وأعراف العشيرة. حاول لورانس أن يلغي «فرديته الإنكليزية»، وأن يصبح «متوحشاً» آخر، يعيش مثل البدو ويعرف لغتهم، وأن يستعيض عن اسمه بما ينوب عنه: «الصاحب» أو «الخويا»، إنه الصاحب المخلص الذي اسمه من بدويّته. نصر لورانس القضية الصهيونية، التي هي امتداد لقضية بلاده، ونظر طويلاً إلى «البدوي الخالد»، الذي يترجم طائعاً ما يتعلمه من الطبيعة «الصمّاء»، كما لو كان إنساناً لا تاريخ له، فإن التقى بالتاريخ صدفة، كان تاريخ غيره، أي ذلك الأوروبي الذي ابتعد عن «الوحشية والنبل»، معاً، وغدا صانعاً لتاريخه وتاريخ غيره. ليس ما يدعى «بلورانس العرب» إلا حكاية من حكايات الاستعمار الإنكليزي، الذي منح ما لا يملك إلى من لا يستحق، وقدم فلسطين إلى يهود متعصبين، لم ينصرهم «حقهم البائد»، بل القوة البريطانية، التي كان لورانس أحد جنودها الأبرار.