تعتمد جميع فروع الأنشطة الاقتصادية اليوم على الخدمات المالية. وفي حقيقة الأمر، جعلت خدمات الوساطة المالية وإدارة المخاطر تطور الاقتصادات الحديثة ممكنا. ويذكر أن من شروط تحقيق نمو مستمر يكمن في نظام مالي قوي ونشط تدعمه ادارة اقتصادية كلية فاعلة. وعلى النقيض، فإن الاختلالات الاقتصادية على المستوى الكلي Macroeconomic instability والنابعة من ضعف القطاع المالي يمكن أن تؤدي الى عرقلة التنمية، علماً أن المصارف في دول العالم الثالث وخصوصاً في العالم العربي لم تعمل في ركب خطط التنمية بل ركزت على تمويل التجارة، وأهملت أهداف التنمية المختلفة. وبما أن الأنشطة الاقتصادية باتت أكثر تدويلاً من خلال تدفق التجارة والاستثمارات، أصبح الحافز للتوسع في تجارة الخدمات المالية موجوداً نتيجة انفتاح الاقتصادات، ولتوفير الضرورات التقنية لفرص جديدة للتجارة. هذا، وقد عمل التدويل المستمر للأنشطة الاقتصادية وتحديات الاستثمارات المنتجة في بيئة دولية محمومة بالتنافس على زيادة الحاجة لقطاع مالي نشط وفاعل. لكن ينبغي تحديد شروط فعاليته، أهي المصارف التجارية، أم المفهوم الجديد للمصارف الشاملة والتي تدخل مؤسسة ومشاركة وداعمة للشركات والمصانع الجديدة، أو بمعنى اخر دعم سوق رأس المال الأولي وليس الثانوي، فالتنمية الحقيقية في الدول تقوم على تنمية هذه السوق. ويذكر أن قضية "التعاون الدولي" ليست جديدة، بيد أن الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات General Agreement on Trade in Services GATS، والتي انبثقت عن دورة أورغواي، مثلت المحاولة الأولى المتعددة الأطراف لتدشين قوانين تحكم تجارة الخدمات بما فيها الخدمات المالية، ولايجاد اطار متعدد الأطراف للمفاوضات وفقاً لمنظور سوقي سليم للخدمات. لذا يجب أن تعزز المكاسب الاقتصادية الناجمة عن تحرير التجارة بأنظمة رقابية وتنظيمية محلية فاعلة، فالاختلالات الاقتصادية على المستوى الكلي، وعدم فاعلية التنظيم، وسوء الرقابة يمكن أن تؤدي الى الحد من منافع التحرر والانفتاح. ومن جهة أخرى، فإن تحرير تجارة الخدمات المالية يمكنه - في بعض الحالات - من مفاقمة المصاعب القائمة للقطاع المالي خصوصاً إذا حدث الانفتاح وما زال القطاع المالي يركز على الربح السري، والتمويل القصير المدى، وتمويل الواردات الاستهلاكية. ويكمن السؤال المحوري في كيفية تنفيذ عملية التحرر والاصلاحات المصاحبة بطريقة تؤدي الى تعظيم المنافع. فإذا مارس بنك مركزي ما - على سبيل المثال - عمليات السوق المفتوحة، فإن الظروف في القطاع المالي يمكن أن تتأثر من خلال تأثير تلك التدخلات في عرض النقود وأسعار الفائدة وأسعار القطع الصرف. وتتخذ الحكومات تدابير عقلانية من أجل حماية القطاع المالي، وتحقيق رفاهية المستهلك، والمطلوب من الدول النامية وضع أولويات التنمية في الحسبان، فرفاهية المستهلك ليست الهدف النهائي، وانما التنمية الذي تكون رفاهية الفرد احد ملامحها. وقد تشتمل تلك التدابير على نسب كفاءة رأس المال، والقيود على الائتمانات، وتخصيص المحافظ المالية، ونوعية الأصول، والرقابة على المخاطرة السوقية، ومتطلبات الافصاح الشفافية، والتدابير الادارية. ويمكن أن تتخذ الحكومات تدابير أخرى كشروط اقراض قطاع بعينه أو أفراد بعينهم بما يتضمنه من منح أسعار فائدة تفضيلية، فتعطى الأولوية للمشاريع الصناعية وتلك التي توفر فرصاً وظيفية أفضل والتي تستخدم مدخلات محلية، أو تلك التي تتكامل مع صناعات قائمة سواء أفقياً أو رأسياً. كذلك فغالباً ما تفرض الحكومات قيوداً على التجارة، وذلك بغية منع احتكار الأجانب لقطاع الخدمات. وتحتل الخدمات المالية قطاعاً كبيراً ونامياً في جميع الاقتصادات في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. ويذكر أن نمو هذا القطاع يعد سريعاً في الاقتصادات التي تمارس تحولاً سريعاً نحو التحديث. كذلك، تنمو التجارة في الخدمات المالية أيضاً بوتائر متسارعة وذلك نظراً لوجود أسواق جديدة ونامية في البلدان النامية، وكذا لتوافر الأدوات التمويلية والتقنية الحديثة. هذا، وتعد الخدمات المالية هي العمود الفقري للاقتصادات الحديثة، إذ لا يمكن التفكير في أي نشاط اقتصادي من دون اعتماد مباشر أو غير مباشر على الخدمات المقدمة من قبل القطاع المالي. ولا يخفى أن نمو الخدمات المالية أدى الى زيادة حجم الاقتصادات الساكنة المضاربات العقارية - مضاربات الأسهم - الارتفاعات غير المنضبطة في السوق الثانوية. وكل هذا لم ينعكس على التنمية في الدول النامية، فإذا تقدم القطاع المصرفي أدى الى تنمية التجارة العالمية، ولكنه في الوقت نفسه أدى الى تنمية المضاربات. وشهد قطاع تجارة الخدمات المالية نمواً متسارعاً في الأعوام الأخيرة بالتوازي مع زيادة عمق نشاطات القطاع المالي الدولي. فقد أدى التقدم التقني الى زيادة الوعي بأهمية تجارة الخدمات المالية، ويتمثل هذا التقدم في التقنيات الحديثة لقواعد البيانات الالكترونية، والحواسب الآلية، وأجهزة الصرف الاوتوماتيكية، اضافة الى الخدمات المصرفية المرتبطة بالهواتف وبشبكة الانترنت. ويمكن لتحرير تجارة الخدمات المالية ان يؤثر على كافة القطاعات، فتداول السندات، وخدمات المصارف الشاملة، وأنشطة شركات التأمين وإعادة التأمين أصبحت بالفعل "مدولة Internationalized. ويتوقع لمعظم النمو في التجارة أن يتركز في تلك الصناعات. أما في مجال بنوك التجزئة والتأمين خاصة التأمين على الحياة، فإن العلاقات التجارية الشخصية مع الممولين المحليين ما زالت قائمة. ومن منظور اقتصادي، لا تختلف تجارة الخدمات المالية عن تجارة السلع والخدمات الأخرى. ويمكن أن يكون لتحرير هذه التجارة تأثيرات ايجابية على الدخل والنمو، مدفوعاً بالعوامل ذاتها كما في القطاعات الأخرى. وتوجد أسباب قوية للاقتناع ان تحرير تجارة الخدمات المالية يعمل على ترويج سياسات اقتصادية كلية، واجراءات حكومية تنظيمية أفضل إذ تتحسن فعاليات السياسة النقدية. وتعمل السقوف الائتمانية كأدوات للسياسة النقدية للرقابة على التوسع الائتماني والتضخم داخل نظام مالي مغلق، ويستلزم التحرر اعتماد أدوات غير مباشرة، كعمليات السوق المفتوحة للرقابة على السيولة. كذلك فإن سياسة التحرر تقوي من دافع الحكومات للحد من الاختلالات المشوهة، ولاعتماد سياسات ملائمة للتدخل والرقابة على المؤسسات المالية. بمعنى آخر، فإن سلطة الدولة في تغيير السياسات المالية والنقدية سيوضع لها حدود لانكشاف هذه السياسات أمام المجتمع الدولي. وتؤثر الأسواق المالية المفتوحة والأكثر كفاءة على المدخرات والاستثمارات وتعمل على تحسين تخصيص الموارد، فالمنافسة بين المؤسسات المالية وتحرير أسعار الفائدة واعتماد قنوات ادخارية جديدة يمكنها العمل على زيادة عوائد الاستثمارات، وهو ما يؤدي الى حفز المدخرات الكلية والاستثمارات، التي تعمل بدورها على حفز النمو، شريطة ألا ينظر الى عوائد الاستثمار المطلقة والقصيرة المدى، بل يؤخذ في الاعتبار انسجامها مع أهداف التنمية والتي تكون بحاجة الى تمويل طويل الأجل. كذلك فإن تحرير قطاع الخدمات المالية يعمل على تحسين إدارة المخاطر والتأمين، فبالانفتاح على الأسواق الدولية والتقنية الحديثة، يمكن للمؤسسات المالية منح أفضل الاستراتيجيات الاستثمارية الممكنة. وبذلك يمكن للمستثمرين التحوط للعديد من المخاطر بصورة أفضل كثيراً عما هو الوضع في ظل سوق مالية مغلقة، وتبعاً لذلك يمكنهم تعديل وتوفيق محافظهم المالية. ولا ينبغي ان يفهم أنه لمجرد الانفتاح سينشغل المستثمر على التحوط الشخصي، فالبنوك العالمية والمؤسسات المالية قد يصدر عنها أخطاء بقصد أو بغير قصد، تؤدي الى حدوث كوارث كما حدث في دول جنوب شرقي آسيا أخيراً. وتوجد مزية أخرى لتجارة الخدمات المالية الدولية وهي أنها تعمل على تيسير انتقال رأس المال من الدول ذات الفائض الى تلك المتسمة بالعجز، وهو ما يؤدي الى تخفيض تكاليف الاستثمار في الدول الأخيرة. كذلك يمكن للدول المتسمة بمعدلات ادخارية مرتفعة وعائدات استثمارية منخفضة - تصدير رأس المال، ومن ثم زيادة عوائدها. وأخيراً بعمل تحرير تجارة الخدمات المالية وانسياب رؤوس الأموال في ما بين الدول على تقارب أسعار الفائدة في ما بين الدول. ويذكر أن إدارة المتغيرات الاقتصادية على المستوى الكلي تعد صعبة خلال الفترات الانتقالية، فعندما تبدأ عملية التحرر وتبزغ فرص استثمارية جديدة يبدأ التفاؤل في شأن المستقبل، ويؤدي كل هذا الى جذب رؤوس الأموال الى الداخل. ووفقاً للمزايا والتحديات التي تتبع من عملية التحرر، يعن التساؤل التالي حول كيفية تأطير عملية التحرر والاصلاحات المصاحبة له، وذلك لتعظيم المنافع. اذ من المعلوم ان التحرر لا يزدهر في الأزمات الاقتصادية والسياسية، كالصراعات العسكرية وأزمات التضخم المفرط، لذا يجب اعتماد شروط التحرر الناجحة على كفاءة ادارة المتغيرات الاقتصادية الكلية، وتوافر نظام أساسي ملائم للرقابة المصرفية، بل النظرة الجدية الى تحويل البنوك من بنوك تجارية الى بنوك شاملة، وتحديد نسب التمويل بالنسبة للقطاعات، ووفقاً لخطط التنمية ومن ثم يأتي دور الرقابة. ومما يسهل ذلك البدء بعملية دمج البنوك والشركات المالية لتوفير رأس المال القادر على تحمل مخاطر أعباء البنوك الشاملة. ويذهب بعض الآراء الى القول انه حتى تنجح عملية تحرير الخدمات المالية يجب أن يتم ذلك في صورة طفرة وليس وفقاً لمنهج تدرجي، وذلك لتجنب الاصلاح غير التام، وتفويت الفرصة على أصحاب المصالح للتجمع وحشد الصفوف ضد مصلحة هذه المكتسبات. كذلك يقال ان الدول ذات معدل الادخار المنخفض والمتسمة بضعف أداء الأنظمة المالية الرسمية يمكنها جني عائد التحرر السريع الطفرة. بيد أن هذا لا ينفي القول بمزايا الانتقال التدرجي التي تتمثل في أنه إذا كانت المدخرات المحلية مرتفعة، وكان النظام المالي فاعلا، فإن المخاطرة بعملية تحرر سريعة قد تفوق منافع اصلاحات تدرجية. ويؤدي الانتقال التدرجي الى اتاحة الفرصة لتوفيق الأوضاع وفقاً لمقتضيات الظروف الجديدة. ومن الأرجح ان الانتقال التدرجي يعطي فرصة للدول العربية بصفة خاصة ودول العالم الثالث بصفة عامة لإعادة تطوير النظام المصرفي وشركات التمويل بحيث توجه توجيهاً سليماً متوازناً نحو خدمة أهداف الاقتصاد الوطني، والعناية بالشركات الصغيرة والمتوسطة، وتطبق هذه النظم على الشركات المحلية، كما تطبق على الشركات الأجنبية فلا يحدث هناك اعتراض.