ليست هناك حاجة إلى الجوقة في المسرح العربي المعاصر، ولا سيما مع ارتداد الأصوات الجماعية من مصادر أُخرى، إلا أن نصّ «البحر والصفصاف»، الصادر أخيراً عن دار ممدوح عدوان/ دمشق، يختار لمشاهده البدء باستهلالٍ للجوقة كما في المسرح الكلاسيكيّ، إذ يعمد مُؤلّفه التونسي محمد بن صالح إلى إسناد مهمة أداء الجوقة إلى بعض الممثلين الغائبين في تأثيرهم المباشر في الحدث، أو كما يُعرّف هو جوقته، بأنها مجموعة من أهل القرية يُمثّلون رجْعَ صداها. تتألّف المسرحية الطويلة من إحدى وعشرين لوحةً، وكان يمكن بن صالح أن يستغني عن مشاهد بأكملها، استعانت الشخصيات داخلها، بصوت أفراد الجوقة كخلفية صوتية مُتموّجة، إلى جانب بوحها الإنساني، مُكمّلةً السردَ العام. فمنذ اللوحة السادسة يأخذ النص هيئة العبارات الشعرية الغنائية، التي تُشكِّل تراصّاً لفظياً غنياً، لكنَّه خالٍ من أيّ حدث، أو توضيح للأحداث، ويقتصر دور الجوقة على شروح بسيطة لحال زينب، المرأة المجنونة، التي تقف أمام رجال المقهى مُتنبّئةً بالخراب المقبل على شكل عاصفة، كما تُقدّم الجوقة نوعاً من تحفيز المشاعر الآنيّة ووصفها، لا يعدو كونه استجداءً، ونوازعَ للألم البشريّ، وأحياناً تتفوّه هذه الأصوات بكلامٍ ضبابيّ وغير مفهوم، مترافق مع ما يتركه التوجّس من الموت والدمار. تقع الشخصيات الأنثوية دائماً في فخِّ تحدّي الآخر (الرجل) والتشكيك به، ضمن النص، فزينب تقف أمام عليّ صاحب المقهى باضطراب وغضب، متسائلةً إن كان لا يزال مقتنعاً بجنونها، بينما لا يعجبها حال المرح عند بعض زبائن المقهى الشباب، الذين يلعبون الورق، غير مكترثين بهلوساتها حول فجيعة القرية البحرية القادمة مع عاصفة هوجاء، تتزامن وخروج البحّارة على متْن قواربهم، فتقتحم جلستهم، لتسألهم عن اعتقادهم بجِدّية جنونها. تبدو هذه المرأة صلفةً وتقليدية في هلوستها، لكنَّ الشيخَ ذا اللباس الأبيض في المشهد الثاني، يشرح كفرد من أفراد الجوقة، أن حالة زينب النفسية ما هي إلا نتاج موت أمها، ثم رميها في مخزن أياماً عدَّة، خرجت منه بعدها مع هذيانها الحاليّ. يضع بن صالح لنصّه شروطاً صعبة من ناحية الديكور، وهو يصوغ اللوحات تماماً لتكون نصاً كلاسيكياً صرفاً ومُترَفاً، في استحضاره تفاصيلَ مُتنوِّعةً للركح (كما يُسمّيه الكاتب)، وهو يولي الأهمية لتعب الشخصية في ازدحام عناصر المسرح المادية، فتقنيات العمل المسرحيّ تقارب أجواء العاصفة، بينما زينب تنتحب: «شجر الزيتون من هولٍ يميل». مع بدء العاصفة، تغيب شخصيات الرجال، لتحتلّ الخشبةَ أربعُ نساء، هنّ: ليلى وهند وسلمى ومريم، ثم يبدأ الكاتب نوعاً من الاستعراض اللفظيِّ لتقنياته اللغوية في الصور والاستعارات، نجح بعضها، وأخفق بعضها الآخر في جذْب المعنى، وعلى سبيل المثال تأخذ اللوحة الحادية عشرة شكلَ مقطعٍ غنائيّ، مع رقص النسوة، وصراعهنّ الحادّ مع حقيقة مصير رجالهنّ، هل هم تحت الماء أم فوقه؟ تتخللّ هذا الصراع على المرفأ، تساؤلاتٌ أُخرى للنسوة عن أهل القرية، والماضي، وعلاقة كل واحدة منهنّ بالغائب. يعالج النصُّ في رؤية تقليدية، حالَ القرية التي لا تكترث لمصير من يرحلون عنها، إذ تترك النسوة زمناً طويلاً في حالة حَيرة، حتى يأتي بعض الرجال إلى المرفأ (مكان انتظار الغائبين)، محاولين إرجاعهنّ إلى البيوت، لأداء واجباتٍ منزلية، فالخال جابر يحاول من دون جدوى إقناعَ هند بالعودة إلى بيتها، على مدى مشاهد عدّة، وهنا تتوضّح في إحدى اللوحات، ملامحُ الزمن الذي تعود إليه الأحداث، إلا أن ذلك يُشكِّل خللاً في بنية الأحداث العامّة، وشكلِها، والتي تتوارى خلف مكان افتراضيّ، وأناسٍ غير موجودين، وفجأةً تُظهِر اللوحة السادسة عشرة، أن هناك سيارات إسعاف ومطافئ، لم تُطلَب، على رغم تفكير النسوة في اللحاق، بأزواجهن على متن قارب صغير. «ما أوحشَ هذا الليل!» تقول هند، الشخصية القلقة، التي تُلقِي الأسئلةَ على الأُخريات دائماً، والتي يُلقِّبها عليّ ب «همْس الصفصاف». تبدأ هند بهذه الجملة وتُنهِي بجُمَل لا معنى لها، وفعلياً لم يتوضّح في النص كُلِّه، لا شكل الصفصاف، ولا تأثيره الملاصق للبحر، في نفوس الشخصيات. لقد بقي هذا النصّ المسرحيّ غنائياً، وعالي الصوت، واحتفالياً بالأنين من خلال مُبرِّرٍ هو العاصفة، تترك أثر هذيان علنيّ في الجميع، أي عكس ما كُتِب على الغلاف تماماً، من أن الريح حين تعصف بالأشياء يخرج المجانين إليها، في حين يقف العُقلاء على المرافئ يُصارِعون القلق. فكل ما أدلت به شخصياتُ نصّ «البحر والصفصاف» هو ضد العقل المسرحيّ المتنامي، إذ وقع الكاتب في صراع مع اللغة وبنائها، غيرَ ملتفتٍ إلى النهاية التي أوقفت كل الشخصيات على الخشبة، دُفعةً واحدة، من دون مصير أو مُؤشِّر، إلى حقيقة ما تنتظره من المسرح.