في المشهد الأخير في مسرحية «نساء في الحرب» تواجه أمينة إحدى «البطلات» الثلاث ظلّها على الجدار الأسود وتحتك به حتى لتصبح هي وهو شخصاً واحداً أو طيفاً واحداً. هذا المشهد يمثل فعلاً الخاتمة المأسوية التي حدست بها النسوة العراقيات الثلاث وسعين طوال العرض المسرحيّ إلى مواجهتها وتأجيلها وكسرها بالسخرية والعبث أو اللهو. ثلاث نسوة هنّ نسوة وممثلات في آن، حتى وإن كانت أمينة (ميراي معلوف) ممثلة بالواقع وصاحبة تاريخ طويل في المسرح العراقي الذي هجرته قسراً بعدما عذبتها الشرطة وأذلتها. مريم (ندى حمصي) هي ممثلة أيضاً ولكن غير معلنة، وكذلك ريحانة (ريتا دكاش) التي أعربت جهاراً عن هواها الأميركي وإعجابها خصوصاً بالممثل الأميركي ريتشارد غير. إنها اللعبة الخطرة التي حبكها جواد الأسدي، المخرج العراقي الطليعي، برهافة وقوة و «أوقع» النسوة الثلاث فيها فإذا هن ممثلات يؤدّين شخصيات هؤلاء النسوة و «يلعبن» على تناقضاتهن الذاتية أولاً أو الشخصية، ثم الجماعية. مريم، المرأة المحجبّة والمؤمنة بدت كأنها تلعب لعبة الأنا والقرين، تُظهر ما لا تضمر وتضمر ما لا تظهر. حتى في صلاتها كانت وكأنها تصلّي من خلف قناع وعندما يصلها نبأ موت شقيقها حسام على يد الجنود الأميركيين في العراق تثور على نفسها وعلى ماضيها وتخلع الحجاب كما لو أنّه قناع. أما ريحانة فهي امرأة تجيد أيضاً اللعب على شخصيتها أو على ذاتها. تقنع نفسها بأنها سعيدة، تحبّ الحياة والسهر والصخب وتحيي وحيدة (طبعاً) عيد ميلادها وفي يدها زجاجة. لكن ريحانة سرعان ما تسقط في الخوف عندما تهجم عليها مريم بالسكين بعدما بلغ الخلاف بينهما ذروته، وقد عيّرتها ريحانة بحبّها الفاشل لرجل بوسنيّ. ترتمي ريحانة في حضن أمينة وتأخذ في البكاء الشديد الذي لا يلبث أن يجعل مريم «المهانة» تستكين وتستعيد «إنسانيتها». وهي أصلاً ما كانت قادرة على طعن صديقتها في «الملجأ» الألماني لأنها أضعف من أن تقتل، فهي ضحية مثل رفيقتيها، والثلاث عاجزات عن أداء دور «الجزار» الذي لا يحتملن أداءه. و «الجزار» هنا متعدّد الأوجه، إنه النظام العراقي المستبدّ ثم الاحتلال الهمجي ثم التحقيق القاسي الذي يخضعن له في «ملجأ» اللجوء الألماني القائم في برلين. هنا تكمن قوّة هذه المسرحية التي كتبها وأخرجها جواد الأسدي والتي يمكن قراءتها بصفتها محاكاة ساخرة أو «باروديا» للمأساة التي تعيشها هؤلاء النسوة و «يمثلنها» في آن واحد، وكأنها قدرهن الذي يتحايلن عليه ويواجهنه، مع علمهن أنه هو الذي سينتصر ويُسقط أقنعتهن في الختام. هكذا في الخاتمة أو ما قبلها بقليل ترد الرسالة الحاسمة بعد التحقيقات التي يخضعن لها، حاملة الخبر المشؤوم: لا لجوء. تنهار النسوة الثلاث كلّ على طريقتها، وتسعى أمينة الممثلة إلى إحياء طقس انهيارها أمام الطاولة التي غطيت مع أجزاء أخرى من الديكور بقماش أبيض كان دليلاً بيّناً على جوّ الموت والخواء. أمام هذه الطاولة حلّقت ميراي معلوف في هذه اللحظات وكأنها في ما يشبه «العشاء الأخير» الذي أقامته وحدها وراحت تتداعى مستعيدة أجزاء من ماضيها الذي بات مبعثراً في الذاكرة. هذه الطاولة والطاولات الأخرى كانت بدت إلى حين أشبه بطاولات التشريح، ولكن التشريح النفسي لا الجسدي. فعليها كانت تتمدّد الممثلات متحدّثات مع أنفسهن أو مع الأخريات أو نائمات في ليل هذا «الملجأ». «نساء في الحرب» مسرحية ثلاث نسوة عراقيات اجتزن المسافات والأخطار ليصلن إلى «ملجأ» اللجوء الذي كان عليهن أن ينتظرن فيه كثيراً وأن يخضعن تباعاً، ومرّة تلو مرّة، للتحقيق. وقد أفرد الأسدي بقعة لهذا التحقيق المفترض كان الضوء ووجه المرأة (كل بدورها) كافيين لتجسيد تلك اللحظات الحرجة والصعبة التي يعشنها أمام المحقق الألماني. وأفاد المخرج من هذه اللحظات ليجعل النسوة يتداعين أيضاً وكأنهنّ في مونولوغ مأسوي. أمينة لم تتمالك عن التحدّث بالإنكليزية والفرنسية حيناً تلو حين، محاولة إقناع المحقق بهويتها كامرأة مثقفة، وكممثلة تقرأ وتؤدّي نصوصاً مسرحية عالمية. أما ريحانة فلجأت إلى لعبة الإغراء متحدّثة عن ميولها الغربية في الفن والحياة والمسلك، وقد مثلت ريتا دكاش هذه اللعبة بمهارة وعفوية. مريم المحجبة تظاهرت أمام المحقق في صورة المرأة المؤمنة والصالحة التي تخشى بارئها، لكنها لم تُخفِ اضطرابها فهي كانت تشعر بالحاجة إلى التبوّل، عطفاً على الألم الذي كان يمزق أحشاءها. ولئن ساد علاقات هؤلاء النسوة الثلاث حال من التوتر والتصادم والكراهية واللامبالاة حيناً، تبعاً لاختلاف شخصياتهن وأمزجتهن وعاداتهن، واحدة عن الأخرى، فهنّ في الختام يلتقين في معاناتهن ويتوحّدن في الألم والأسى ويتصالحن لا سيما بعدما علمن أن قدرهن بات مأسوياً ومجهولاً. فهن لا يستطعن أن يبقين هنا ولا يستطعن أن يرجعن إلى الوراء، بعدما تنقلن من بلد إلى آخر ومن مهرّب إلى آخر ومن ملجأ إلى ملجأ... إنها فعلاً مأساة المنفيين أو اللاجئين العراقيين الذين لم يجدوا مكاناً لهم في هذا العالم، بل إن مكانهم الوحيد هو نقطة العبور الدائم الذي لا يفضي إلى سقف أو سرير. وقد شاء جواد الأسدي سينوغرافيا المسرحية فعلاً مكاناً للعبور أو لا مكاناً بالأحرى. وقد وفق كثيراً في فكرة الكادر (أو الإطار) الكبير الذي يضمّ في داخله كراسي مقلوبة وكأنها هي مادّة اللوحة التي يؤطرها «الكادر». إنها كراسي لاجئين عبروا ولم يتركوا وراءهم سوى الكراسي التي سيجلس عليها لاجئون آخرون سيعبرون بدورهم. وكعادته شاء الأسدي أيضاً مسرحه «فقيراً» وخلواً من أي بعد اصطناعيّ، مكتفياً بالقليل من الأدوات ومركّزاً على الإضاءة التي نجحت في ترسيخ السينوغرافيا (النفسية) التي جمعت بين الممثلات وبين الخشبة والصالة. وكم بدا جميلاً مشهد دلو الماء الأزرق المرفوع إلى أعلى الجدار لا سيما عندما تُغرق فيه مريم وجهها... هذا الماء الأزرق الذي بدا بقعة مضيئة وسط قتامة «الملجأ» كان لا بد أن يصله خيط درامي خفي بقصيدة السياب «أنشودة المطر» التي كانت أمينة تتلوها مخاطبة «بويب» النهر الذي تغنى به السياب مرات. أعاد جواد الأسدي إلى المسرح اللبناني وجهاً من أبرز وجوهه أداءً وحضوراً هو ميراي معلوف. هذه الممثلة الكبيرة التي عرفتها مسارح كثيرة في العالم وأطلّت في أعمال للمخرج العالمي بيتر بروك عادت إلى المسرح اللبناني نضرة ومتألقة كما كانت دوماً وأبدعت كثيراً في أداء دورها المركّب بصفتها ممثلة تؤدّي شخصية ممثلة عراقية. ممثلة «تشرقط» على الخشبة، تعيش الشخصية وتغور في أعماقها وتخرجها إلى الضوء، مانحة إياها ما تحتاجه صوتاً وجسداً وحركة وتعبيراً. وكم بدت ساحرة فعلاً في أداء دور «جولييت» من خلال استعادتها «روميو» ابنها الوحيد الذي رحل طفلاً و «روميو» العاشق الشكسبيري، والحكايتان كلتاهما مأسويتان، وعبرهما تتساوى الحياة في الواقع والحياة على الخشبة. أما الممثلة السورية ندى حمصي التي عملت طويلاً مع جواد الأسدي فأطلت إطلالة مميزة في دور المرأة العراقية المحجّبة والمنفصمة وبدت بارعة في التقاط خيط هذه الشخصية مجسّدة ببراعة وخفة تناقضها الداخلي والصراع الذي عاشته بين القناع والوجه. ريتا دكاش الممثلة الشابة، المثقفة والشغوفة بعالم المسرح، بالخشبة كما بالكواليس، تعود بدورها إلى الجمهور حاملة نضجها الذي زادها ألقاً ومراساً. وكم بدت شخصية ريحانة تلائمها بعذوبتها ورقتها اللتين أخفت وراءهما الكثير من الألم والخيبة. قدّمت المسرحية على مسرح بابل وستقدم في تشرين الأول (أكتوبر) على المسرح نفسه وستجول على عواصم غربية وتشارك في مهرجانات عربية وعالمية.