أن يفوز مرشح رئاسي أعزل في مواجهة مرشح حزب حاكم مدعوم من رئيس لم يستطع تغيير بنود دستور بلاده للبقاء في السلطة لفترة ثانية، وأمام عثرة منافسين آخرين يملكون من أدوات التأثير والنفوذ ما لا يحصى، ووسط أجواء تفيض بالدعاية المشككة في صلاحيته ومؤهلاته وسيرته الشخصية، فإنه بلا شك دليل على نزاهة تلك الانتخابات. عبدالله المدني يعقب . الوصف بالنزاهة ينطبق على انتخابات الفيليبين الرئاسية في الحادي عشر من أيار مايو المنصرم التي حقق فيها مرشح تحالف "لابان نغ ماكابايانغ ماسانغ فليبينو" أو "القتال من أجل رفعة الجماهير الفيليبينية" جوزيف ايسترادا المعروف شعبياً باسم "ايراب"، انتصاراً كاسحاً وبفارق 4،6 مليون صوت على أقرب منافسيه مرشح حزب لاكاس الحاكم السيناتور خوزيه دي فينيسيا، ليدخل التاريخ الفيليبيني كأول رئيس ينال نسبة 40 في المئة من أصوات المقترعين، هذا إذا ما استثنينا انتخابات 1982 التي ترشح فيها فرديناند ماركوس في ظل الأحكام العرفية وفي مواجهة مرشح صوري ففاز بفارق 16 مليون صوت. والانتخابات الأخيرة، إلى ذلك، أكدت مجدداً بما لا يدع مجالاً للشك أن الجماهير المقترعة غالباً ما لا تكترث بمؤهلات المرشحين قدر اهتمامها بمن يعكس همومها اليومية ويتبنى قضاياها المعيشية الطاحنة. وقد عرف ايراب هذا مبكراً فرفع شعاره الشهير "إيراب باراسا ماهيراب" الذي يمكن ترجمته بشيء من التجاوز إلى "ايراب من أجل الفقراء"، منحازاً بذلك إلى جانب الأغلبية المسحوقة من شعبه ومدغدغاً مشاعرها من خلال اطلاق الوعود بتحسين أحوالها المعيشية واجتثاث خمسين في المئة على الأقل من فقرها بحلول نهاية مدته الرئاسية بعد ست سنوات. فردت الجماهير المستاءة بمنحه التخويل الشعبي ليصبح ثالث رئيس للفيليبين منذ أن استعادت هذه البلاد ديموقراطيتها في 1986 برحيل الديكتاتور فرديناند ماركوس وأسرته تحت ضربات ثورة "قوة الشعب". ورغم هذه النتيجة، فإن ايراب الفائز لا تزال تساوره الشكوك من احتمالات عدم وصوله إلى قصر مالاكانانغ الرئاسي في الأول من تموز يوليو المقبل خلفاً للرئيس الحالي فيديل راموس، ويخشى من عملية تدبر له في الخفاء لتصفيته قبل حلول هذا الموعد على أيدي خصومه الكثر وبمشاركة اليمين العسكري الذي سبق أن حاول الإطاحة عدة مرات بالرئيسة السابقة كورازون اكينو في الثمانينات. وللرجل كل الحق في هذا! فمن كان مثله في عدد الخصوم وما يمسكون به من أدوات السلطة والنفوذ أو في شراسة ما وُوجه به من حملات شعواء أثناء المباراة الانتخابية، لا بد أن تساوره المخاوف. فقد وقفت في وجهه منذ البداية الكنيسة الكاثوليكية بما لها من تأثير ونفوذ، وجندت طاقاتها الوعظية والارشادية للتحذير من تأييده على خلفية أنه مقامر مشهور وزير نساء ومولع بشرب الخمر، ناهيك عن ابوته لعدد من الأنباء من علاقات خارج إطار الرابطة الزوجية، وبالتالي فهو لا يمثل قدوة صالحة ولا يصلح لإدارة شؤون البلاد. ثم جاء مجتمع رجال المال والأعمال المعروف بنادي "مغاتي" ليقرع أجراس الانذار المبكر، محذراً من انتخابه لأنه لا يملك قدرات تؤهله للتصدي لمشاكل البلاد الاقتصادية بحكمة ووفق البرامج الاصلاحية التي سنها سلفه وقطع فيها شوطاً لا بأس به، فيما كان خوفه الحقيقي من احتمالات أن يلعب ايراب دور روبن هود الفيليبين، بمعنى أن يجسد مواقفه المنحازة إلى الأغلبية الفقيرة فيأخذ من الاغنياء ويعطي للفقراء. وتبعته النخب الحزبية والسياسية والعسكرية التي آلمتها احتمالات تفوق شخصية لا تنتمي إلى مجتمعاتها العاجية ولا تدين بطقوسها في المعترك الانتخابي فتصدت له بحملة ركزت على ضعف حصيلته العلمية وخبرته ولغته الأجنبية. إلا أن ايراب المطعون في كل مؤهلاته ومواهبه استطاع ان يوظف كل تلك الحملات لصالحه وأن يغير اتجاه الأسهم المطلقة نحوه لترتد إلى صدور مطلقيها، بقليل من الشروحات البسيطة التي يفهمها رجل الشارع العادي وبشيء من التبريرات الذكية التي يسهل اقناع العامة بها. فإجادة اللغة الانكليزية عنده ليست شرطاً ضرورياً لمن يتبوأ السلطة في بلد له لغته الوطنية ويفترض في ابنائه الاعتزاز بها. ودليله أن زعماء أكثر الأقطار الآسيوية تفوقاً وهما اليابان وكوريا الجنوبية اللتين زارهما قبل ثلاث سنوات، لم ينطقوا أمامه من باب الاعتزاز بالهوية الوطنية إلا بكلمات أجنبية معدودة مثل "مرحباً" و"إلى اللقاء". وما يثار حول نزواته النسائية وولعه بالقمار والخمر ليس إلا شيئاً من الماضي الذي يتكرر في سيرة كل فيليبيني في مرحلة من مراحل حياته. وبينما يؤكد الرجل توقفه اليوم عن تلك الممارسات، يشير إلى أنه كانت لديه الشجاعة لممارستها علناً، فيما كان خصومه يمارسونها سراً ثم يأتون ليدّعوا الطهارة والاستقامة أمام الشعب. أما في موضوع الشهادات والمؤهلات العلمية التي لا يمتلكها، فإن ايراب استطاع أن يكسب المزيد من التعاطف الشعبي باتهامه خصومه بالسعي لجعل المنصب الرئاسي حكراً على النخبويين من ذوي الشهادات "الهارفردية" واغلاق الأبواب دون من ينتمي إلى القطاع الأعرض من الشعب من أمثاله. وهنا يتساءل الرجل عما فعله أصحاب الشهادات والمؤهلات العلمية العالية حينما وصلوا إلى السلطة غير الفساد والإفساد والاهتمام بمصالحهم الخاصة على حساب القضايا الحيوية كتأمين الطعام والأمن والنظام. ورداً على أولئك الذين يرفعون في وجهه يافطة قلة الخبرة يقول ايراب متسائلاً: "وهل كان رونالد ريغان أو جون ميجور يملكان خبرة حينما وصلا إلى السلطة في أكبر بلدين غربيين، وهل كانت شهاداتهما العلمية أكبر من شهاداتي؟"، ثم يضيف: "إنهما ببساطة استعانا بذوي الخبرة وهذا ما سوف أفعله، بل سوف ألجأ إلى استشارة الخصوم والأنصار على السواء". وعندما يأتي الحديث إلى الشؤون الاقتصادية التي يتهمه فيها خصومه بتبني موقف راديكالي، يؤكد ايراب التزامه ببرامج الخصخصة والانفتاح وجذب الاستثمارات الأجنبية، لكنه في الوقت نفسه يبدو ميالاً إلى التركيز على القطاع الزراعي الذي يعمل فيه أكثر من 22 مليون فيليبيني، على حساب القطاع الصناعي، ويبرر ذلك بأن الاهتمام بالزراعة سيوفر الطعام ويحول دون مطالبة العمال المتكررة برفع الأجور ويضع البلاد على الطريق الصحيح لمواجهة استحقاقات العولمة. والحقيقة أن ما ساعد ايراب على الوصول إلى الجماهير لم تكن هذه الردود والشعارات التي مست قلوبها فحسب، وإنما أيضاً بعض المواهب التي استهان بها خصومه وسخروا منها فيما هو لجأ إلى توظيفها بمهارة من أجل الانتصار عليهم. وتأتي على رأس هذه المواهب نجوميته كممثل ومنتج سينمائي سابق. ومن هنا جاء وصفه برونالد ريغان الفيليبين رغم ما في هذا التشبيه من مبالغة وظلم. فالقاسم المشترك الوحيد بين الرجلين هو أن كليهما انطلقا إلى سدة الرئاسة الأولى من التمثيل السينمائي مروراً بتقلد منصب الحاكمية في إحدى مدن بلديهما. وفيما عدا ذلك فالفارق كبير وربما مالت الكفة صوب ايراب. فهذا الأخير - على خلاف ريغان - قام بتمثيل عدد كبير من أفلام "الاكشين" الناجحة محلياً والتي تقمص فيها أدوار الرجل المهضوم الحقوق الذي ينتفض في وجه قوى الشر لاستخلاص حقوقه والاعتراف بآدميته، الأمر الذي اكسبه نجومية وشعبية في أوساط الشعب الفيليبني المولع بمثل هذه النوعية من الأفلام. وحينما تولى ايراب عمادة بلدة سان خوان الواقعة ضمن حدود مانيلا الكبرى في الفترة ما بين 1969 - 1986 قبل أن يترك هذا المنصب لأحد أبنائه خوزيه المعروف باسم جينغوي، حرص على أن يرسخ شعبيته ويضيف إليها. ففتح أبوابه أمام الجماهير الفقيرة لتقبل شكاويها والاطلاع على مشاكلها، ولم يتردد في النزول إلى الشارع شخصياً لتوزيع الأرز والمواد الغذائية الأخرى على المحتاجين، كما أنه ضغط على الدولة لفتح العديد من المدارس ولتعبيد الكثير من الطرقات في سان خوان وما حولها، ونجح في الحصول على أكثر من ألفي منحة دراسية مجانية لأبناء الطبقات الفقيرة، وفي سنّ رواتب تقاعدية للعاملين في مجال السينما. إلى ذلك يذكر الفيليبينيون له أنه كان أول من فكر في بناء الأسواق التجارية الشاملة وأول من أدخل الكومبيوتر في إدارة أعمال محافظته. وجاءت فرصته الثالثة لتعزيز شعبيته في أوساط العامة حينما ترأس لجنة حكومية في الفترة ما بين 1992 - 1995 لمحاربة الجريمة التي تفشت كثيراً خلال حكم اكينو الضعيف من بعد حكم ماركوس الصارم. فقد استغل قيادته لهذه اللجنة في الظهور شخصياً في عمليات مداهمة أوكار اللصوص ومطاردة المجرمين التي كانت تقوم بها الشرطة، مسترجعاً ما كان يقوم به من أدوار مماثلة على الشاشة، فكان أن سعد به البسطاء وتحمسوا له أضعافاً. ولا يمكن في مجال تعداد أسباب شعبيته أن يُهمل موضوع ولعه وبروزه في رياضة كرة السلة التي تعتبر في الفيليبين الرياضة الأكثر جماهيرية ويحظى نجومها بمكانة خاصة في قلوب الناس. ويمكن القول عموماً إن اتهام ايراب بقلة الخبرة اتهام غير مسنود بأدلة قوية. فهو إذا ما قورن ببعض اللاعبين الآخرين على الساحة السياسية الفيليبينية يملك خبرة لم تتوفر حتى لبعض أسلافه من رؤساء البلاد السابقين لا سيما كورازون اكينو التي جاءت من مطبخ أسرتها إلى قصر مالاكانانغ مباشرة في خضم تعاطف شعبي مع قضية زوجها المغدور بنينو. فلقد دخل ايسترادا رسمياً المعترك السياسي في آب اغسطس 1969 من خلال فوزه بمنصب عمدة محافظ سان خوان بعد معركة حامية وبقي فيه طيلة السنوات الست عشرة التالية. واثناءها تعرض للاعتقال مرتين على يد سلطة الأحكام العرفية التي فرضها ماركوس في 1972 قبل أن يحسن علاقاته مع هذا الأخير وينضم إلى حزبه "حزب المجتمع الجديد" ويبرز فيه كمدافع صلب عن قضايا الرعاية الاجتماعية. لكنه على خلاف الكثيرين ممن برزوا خلال حكم ماركوس ثم صعدوا إلى الوظائف الحكومية العليا بعد سقوط الديكتاتور، لم ينل ايسترادا أي موقع متقدم، مما دفعه إلى خوض الانتخابات النيابية في 1987 كمعارض، ونجاحه في الوصول إلى البرلمان كإحدى شخصيتين معارضتين وحيدتين إلى جانب وزير دفاع ماركوس الجنرال خوان بونسيه أنريلي. وفي البرلمان عُرف عنه حماسته الشديدة لتبني القضايا الوطنية ذات الصدى الشعبي، فكان موقفه المعارض من مسألة تغيير بنود الدستور الخاصة بمنح رئيس الجمهورية الحق في الترشح لفترتين رئاسيتين متتاليتين، وقبلها موقفه المعارض من قضية الوجود العسكري الأميركي على أرض بلاده التي نظر إليها خصومه من زاوية ايديولوجية فكان رده أنه لا يكره أميركا لكن مشكلته أنه يحب الفيليبين أكثر. وحينما جاء عام 1992 ترشح ايسترادا لمنصب نيابة الرئاسة على قائمة المرشح الرئاسي ايدواردو كوجوانغو ابن عم الرئيسة أكينو في مواجهة قائمة فيديل راموس، فكان أن فاز راموس وايسترادا بأكثرية الأصوات ليتولى الأول الرئاسة والثاني نيابة الرئاسة، ويضطر للتعاون على مضض طوال السنوات الست الماضية، رغم كل ما بينهما من تنافر في الأساليب والأفكار والرؤى. ويشاء التاريخ ان يكرر نفسه بصورة عكسية هذا العام، فيفوز ايسترادا برئاسة الجمهورية ويخسر مرشحه لنيابة الرئاسة، فيما يخسر مرشح راموس للرئاسة وتفوز مرشحته لنيابة الرئاسة السيناتور غلوريا ماكاباغال ابنة رئيس الفيليبين الأسبق دياسرادو ماكاباغال وزميلة بيل كلينتون في جامعة جورج تاون. وبعكس ما يعتقده الكثيرون، فإن حماس ايسترادا للفقراء لا ينبع من وجود جذور عائلية فقيرة له. فقد كان ميلاده في بلدة توندو الملاصقة لمانيلا في التاسع عشر من نيسان ابريل 1937 وسط عائلة ثرية نسبياً، وكان والده طبيباً من ذوي الاملاك، يدرس في جامعتي الفيليبين وشيكاغو. ومن هنا كان إصرار الاب ان يتلقى الابن تعليماً متقدماً يوازي تعليمه هو، ونجح بالفعل في الحاق ابنه بمعهد مابوا للتكنولوجيا بعد تخرجه من الثانوية، واستطاع الأخير ان يصل إلى السنة الدراسية الثالثة في المعهد المذكور، إلا أن عشقه للمجال السينمائي كان أقوى فترك دراسته الجامعية قبيل وقت قصير من موعد التخرج، ليخوض تجربة التمثيل سنوات عدة ثم ليتبعها بتجربة الانتاج السينمائي التي يصفها بأنها أدخلته إلى عالم المال والأعمال التجارية وأكسبته خبرة لا تختلف عن خبرة من يدعون الحرص على شؤون الفيليبين الاقتصادية. ولعل هذه الخلفية العائلية والعملية هي التي أوجدت إلى جانب أنصاره من الفقراء والشيوعيين السابقين ممن استهوتهم شعاراته المنحازة إلى الطبقات المسحوقة، عدداً من أقطاب المال ممن يراهنون على أن الرجل براغماتي أكثر منه ايديولوجياً