بعد مخاض عسير استمر شهراً كاملاً ولدت الحكومة الروسية الجديدة برئاسة سيرغي كيريينكو، ولكنها واجهت بعد أيام من تشكيلها رسمياً أكبر أزمة اقتصادية - مالية - اجتماعية تزامنت في إطارها اضرابات عمال المناجم وزلزال الأوراق المالية وعجز الدولة عن جباية الضرائب وتهديد المعارضة البرلمانية بحجب الثقة عن رئيس الدولة وحكومته. فما هي الأسباب الحقيقية للأزمة وهل روسيا قادرة على الخروج منها؟ لنعد أياماً إلى الوراء حين هبطت الطائرة "روسيا" في مطار برمنغهام وعلى متنها الرئيس الروسي الذي شارك في قمة الدول الصناعية الكبرى، وبدا منشرحاً ومبتهجاً للقاء الصديق "ريو" ريوتارو هاشيموتو رئيس وزراء اليابان أو العزيز بيل كلينتون ولم يكل عنه التأكيد على أنه "في صحة جيدة ومزاج رائق". وفي موسكو كانت أسواق المال تهتز وعمال المناجم يستلقون على القضبان مطالبين بأجور صادرتها الحكومة منذ أشهر، فيما علماء المركز السيبيري لأكاديمية العلوم يعترضون طرق السيارات احتجاجاً على حجب مرتباتهم واغلاق مختبراتهم. ربما كان الصمم واحداً من أخطر أمراض القيادة الروسية التي لا تسمع إلا صوتها، فالكثيرون من علماء الاقتصاد والساسة والمحللين كانوا تنبأوا بالأزمة وحذروا من مضاعفاتها، إلا أن بوريس يلتسن، على ما يبدو، يتبع المثل الروسي الذي يقول إن "الموجيك الفلاح لا يرسم علامة الصليب إلا عندما يرتعب من الرعد". والأزمة الأخيرة لها أسباب "آنية" وأخرى تمتد إلى بدايات النهج الاصلاحي. ويمكن ان يصنف ضمن المجموعة الأولى انهيار الأسواق المالية الآسيوية التي ترتبط بها روسيا، خصوصاً في كوريا الجنوبية، وانخفاض أسعار النفط الذي غدا المصدر الأساسي لرفد الخزانة، واضرابات عمال المناجم التي كانت في واقع الأمر نتيجة وافرازاً للمجموعة الأخرى الأكثر جذرية من مسببات الوضع الراهن. فالبرنامج الذي اعتمدته الحكومة الاصلاحية الراديكالية الأولى بقيادة يغور غايدار ابتداء من 1992 كان في جانبه المالي ينص على كبح التضخم الذي تزامن مع اطلاق الأسعار كوسيلة أساسية لتحقيق الاستقرار. ووعد غايدار بأن ارتفاع الأسعار سوف يراوح بين 2 - 3 أضعاف فيما بلغت الزيادة الفعلية 10 - 15 ألف ضعف مقابل زيادة في الأجور لم تتجاوز 3 - 5 آلاف ضعف. وقلص غايدار السيولة النقدية، بوقف صرف مدخرات المواطنين لحين "افراغها" من قيمتها، وحصر السيولة النقدية ب 13 في المئة من الناتج الوطني الاجمالي للمقارنة، النسبة تصل إلى 30 في المئة في المانيا، أما في الولاياتالمتحدة فإن السيولة أكبر من الناتج الوطني بفضل تصدير الدولار. وغدا اختلال التوازن بين الكتلتين السلعية والنقدية من أهم أسباب الأزمة المالية والاقتصادية عامة. فمن البديهيات الاقتصادية ان خزانة الدولة لا ترفد إلا في حال انتاج سلع وخدمات وتداولها، الأمر الذي يتوقف على القدرة الشرائية للسكان. وتغطي السيولة النقدية 10 في المئة فقط من اجمالي انتاج السلع والخدمات، وهناك زهاء 10 - 20 في المئة من الانتاج "المجاني" حيث تحصل المدن مثلاً على الكهرباء من دون ان تدفع، في الغالب شيئاً مقابلها بسبب خواء خزاناتها. ولكن المصيبة الأكبر تتمثل في أن 60 - 70 في المئة من الانتاج يتم تبادله عينياً، أي أن الدولة لا تستحصل ضرائب عنه، وبالتالي فإنها تفقد واحداً من أهم مقومات وجودها. ولتغطية العجز المالي، لجأت الحكومة إلى اجراء تعسفي تمثل في "المصادرة الموقتة" لأجور العاملين، إضافة إلى بيع ممتلكات الدولة والاقتراض عالمياً ومحلياً. ولكن أياً من هذه الروافد لم يستغل لانعاش الاقتصاد المحتضر، بل أنها زادت من حدة المشاكل. وقامت الدولة بإنشاء "هرم مالي" بطرحها سندات بأسعار فائدة عالية، إلا أنها كانت تضطر كل مرة إلى إصدار وجبة جديدة من السندات أكبر من سابقتها لتسديد ما في ذمتها من ديون. وهذا "الهرم" الذي كان معروفاً في مصر في زمن الانفتاح الساداتي إنهار حالياً. فالدولة تشرف على الافلاس. وقد رُفع سعر الفائدة من 30 إلى 150 في المئة خلال الأسبوعين الأخيرين، إلا أن الحكومة الروسية فقدت الثقة والدائنين معاً. وحتى إذا تسنى اطفاء الحريق فمن الواضح أن الأزمة الأخيرة دفنت إلى حين الامال في تحقيق النمو الاقتصادي الذي وعد يلتسن بتحقيقه في العام الحالي. فليس معقولاً أن يلجأ طرف إلى الاقتراض بفائدة قدرها 150 في المئة لتطوير مصنع أو الانطلاق بمشروع جديد. واعترف رئيس الدولة بأن الأجانب بدأوا "يهربون" من روسيا وينسحبون من اقتصادها وأسواقها المالية، بعد أن كان الانفتاح الذي يقترب من الانفلات دفع عدداً من المضاربين العالميين إلى الانخراط في لعبة الروليت الروسية وعاد عليهم بأرباح خيالية. فقد ذكر وزير الاقتصاد السابق بيوتر نيتشايف أن الأجانب استثمروا خلال خمس سنوات 18 بليون دولار لشراء سندات حكومية باعوها لاحقاً ب 72 بليون دولار، أي بمعدل ربح سنوي يقترب من 100 في المئة! وفي يوم "الأربعاء الأسود" الذي كان نقطة الانطلاق للأزمة الأخيرة اتهم محافظ البنك المركزي سيرغي دوبينين "جهات أجنبية" بالمضاربة الهادفة إلى خفض قيمة الروبل. ولكن البورصة خلقت أصلاً للمضاربة وهي في الظروف الاعتيادية مؤشر دقيق لأوضاع الاقتصاد. وقد انتبه المسؤولون في موسكو إلى خطورة هذا الاتهام ومضاعفاته المحتملة، فأشارت الحكومة إلى أن "منتفعين" من الهزة المالية ونفت وجود مؤامرة. ومضى يلتسن شوطاً أبعد حينما قدم تطمينات للأجانب وأجرى اتصالاً مع "الصديق العزيز بيل" لحمل الرئيس الأميركي على الادلاء بتصريح يشجع المستثمرين الاجانب على مواصلة أعمالهم في روسيا، ويدفع صندوق النقد الدولي إلى تقديم المزيد من الحقن الماليةلموسكو. وقد نشر تصريح كلينتون في روسيا مجتزأ واسقطت منه كلمة "المشروطة" التي جعلها الرئيس الأميركي صفة لا بد منها للمساعدات المحتملة. ولم تعرف الشروط المقصودة ولكن المؤسسات المالية العالمية تخشى من تسرب جزء كبير من الحقن الجديدة، كسابقاتها، إلى أرصدة كبار المسؤولين الروس، كما أنها تريد ضمانات لاستخدامها في انعاش الاقتصاد. بيد أن هناك شروطاً أخرى منها تقليص الانفاق على الشؤون الدفاعية والاعانات الاجتماعية، وقد تلحق بها مطالب مثل وقف التعاون النووي مع إيران وتقليص مبيعات السلاح الروسي إلى الخارج. وسيكون الكرملين مرغماً على قبول أي شروط مهما كانت مهينة، بل ان يلتسن أعلن اثر مكالمة هاتفية مع نظيره الأميركي أن كلينتون "راضٍ عن سياستنا" ولم ينتبه إلى ما تضمنته هذه العبارة من انتقاص لكرامة الدولة ورئيسها. وقدر الخبراء الاحتياجات الآنية لروسيا ب 7 - 10 بلايين دولار من مصادر خارجية، إضافة إلى ما يعادل 11 - 13 بليون دولار داخلياً. ولتوفير جزء من هذه المبالغ، أعلنت الحكومة برنامجاً للاجراءات الطارئة هدفه تقليص النفقات وزيادة جباية الضرائب. وسيقع الضرر الأكبر بذوي الدخل المحدود وأصحاب المشاريع الصغيرة ما سيعني المزيد من الانكماش في القاعدة الاقتصادية للسلطة، وقد يؤدي إلى تجدد التحركات الاضرابية. وبهدف الخروج من العزلة السياسية، التي كانت سبباً للأزمة المالية وليس نتيجة لها، أوقف يلتسن حملته ضد "الاوليغارشيا" واجتمع إلى عشرة من كبار رجال المال والأعمال وأعلن أحدهم اثر الاجتماع ان "مكتباً سياسياً للشؤون الاقتصادية" سيشكل من الاوليغارشيين اياهم ليكون بمثابة حكومة ظل موازية لوزارة كيريينكو، ومصدراً لتقديم المشورة والنصح إلى يلتسن الذي لم يعرف عنه أنه ضليع في شؤون الاقتصاد. ولا يفترض برئيس الدولة أن يكون "بحراً" في كل القضايا، إلا أن عدداً من المقربين إلى يلتسن أشار إلى أنه "ينبهر بسرعة" بآراء اقتصادية ويتمسك بها من دون مشاورة أطراف أخرى قد يكون لها موقف آخر. هكذا حصل حينما قدم غايدار برنامجه، أو عندما أصبح اناتولي تشوبايس الرجل الأثير لدى يلتسن، وأخيراً فإن الرئيس أصر على أن "الشاب الباهر" سيرغي كيريينكو سيغدو العصا السحرية التي تنقذ روسيا ورئيسها. بيد أن معجزة اقتصادية لن تحصل، وثمة احتمالان لتطور الأوضاع: الأول أن تسير الأمور نحو "عقد اجتماعي" بين النخب السياسية والمالية وقادة النقابات، ولكن هذا يقتضي من يلتسن التخلي عن عناده وإصراره على تجاهل البرلمان والقادة الاقليميين والخبراء الاقتصاديين الذين لم تطلهم بركة الانبهار الرئاسي. وإن لم يحصل ذلك، فإن الفرقاء سيدفعون نحو الاحتمال الثاني ويشاركون في زعزعة القارب رغم نذر العاصفة، وستتحول المعارضة من قوة "في جيب" النظام إلى عتلة لتحريك وقيادة النشاطات الاحتجاجية، خصوصاً في القطاعات الحساسة كالمناجم والكهرباء، وحتى في الجيش بكل ما يترتب على ذلك من عواقب وآثار.