اثناء جولتي الاخيرة في الشرق الأوسط كمبعوث خاص للرئيس بوريس يلتسن التقيت الرئيس السوري حافظ الأسد وسلمته رسالة شخصية من نظيره الروسي، وقد قبل الرئيس الأسد دعوة لزيارة موسكو. ونحن نعلق على هذه الزيارة آمالاً كبيرة سواء في مجال تعزيز العلاقات الثنائية، او على صعيد تكثيف تعاوننا مع دمشق بوصفها طرفاً مفصلياً في عملية السلام في الشرق الأوسط. ولذا فإن الجانبين، حال اتفاقهما على تحديد الموعد، سيبدآن التحضير لهذه الزيارة المهمة بل ان التحضير قد بدأ بالفعل. والى جانب دمشق شملت جولتي لبنان ومصر واسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية. وإذا ما اجملنا الانطباعات التي خلفتها الجولة، يمكن القول بأنها لا تبعث على تفاؤل كبير، بل انني استخدمت في بيروت التي كانت المحطة الاخيرة تعبير "تشاؤم". ورغم انه يوحي بالقلق فإنه قريب الى واقع الامر على الجبهة الشرق اوسطية حالياً. وكما يقال فإن المتشائم هو متفائل حسن الاطلاع. اذ تعرقلت كل حركة على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي، والمبادرة الاميركية تراوح في مكانها حتى الآن. وحريّة بالثناء تلك الجهود المثابرة والمصرة التي تبذلها واشنطن الرسمية، ولا سيما وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت والمبعوث الخاص دنيس روس وفريقه. ومن جهة اخرى يغدو اكثر بديهية ان جهود الولاياتالمتحدة بمفردها على هذا المحور غير كافية. فالمهمة معقدة الى حد جعلها لا تعالج بعمل من طرف واحد. ويتزايد الحديث في العالم عن ضرورة تجميع جهود البلدان الراغبة في الاسهام بقسطها لدفع عملية السلام والقادرة على ذلك. وأنا اعني روسيا والاتحاد الأوروبي وببالأخص اعضاءه الاكثر نفوذاً ومصر والسعودية وبلداناً اخرى. ولعل موقعاً خاصاً يمكن ان تحتله مصر بوصفها الدولة العربية المتعارف على دورها الريادي وباعتبارها صاحبة المبادرة في مجال اقامة علاقات جديدة مع اسرائيل. وليس صدفة ان تنطلق اخيراً المبادرة المصرية - الفرنسية للدعوة الى لقاء عالمي في شأن الشرق الأوسط. ورغم ان اطر المبادرة ليست واضحة تماماً حتى الآن، فمن البديهي ان الاقتراح مبعثه الحرص الحقيقي على مصائر السلام وعملية التفاوض في الشرق الأوسط. وتجدر الاشارة الى ان موسكو تفكر منذ امد بعيد في ضرورة ايجاد نوع من الحافز الخارجي، كلقاء او مؤتمر دولي، بل اننا تقدمنا بأفكار أولية في هذا الشأن. ولكننا ابدينا رأياً مفاده ان مثل هذا اللقاء ينبغي ان لا يكون بديلاً من مدريد او ان يؤدي الى مراجعة القاعدة القانونية - الدولية المعترف بها التي تسنى صوغها في العاصمة الاسبانية. ومن البديهي انه ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار ردود فعل الاطراف الاقليمية فهي في خاتمة المطاف صاحبة القضية. ثم ان هذه الاطراف هي التي ينبغي ان تقرر طبيعة المتاع السياسي الذي ستدخل به القرن الواحد والعشرين. في هذا السياق تخزن ذاكرتي حادثة وقعت في الثمانينات حينما كنت أعمل في السفارة السوفياتية في بلد عربي. فقد تلقيت آنذاك ايعازاً من موسكو، وبالتحديد من القسم الدولي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بإبلاغ رسالة الى زعيم عربي معني. وصيغت الرسالة بلهجة وعظية تقرب الى التعليمات، وكأن موسكو تعرف عن شؤون الشرق الأوسط اكثر مما يعرف سكانه. وقد اضطررت الى نقل الرسالة ولكن محدثي، بعد ان تحمل لهجة الوعظ من "الاصدقاء السوفيات" قال ما معناه: "فيكتور، هذه الرسالة كتبها بيروقراطي وحتى اذا كان يفكر بمشاكلنا فانما يفعل ذلك كمن يؤدي واجباً فهو يفكر بالقضية من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساء. اما بالنسبة الينا فهذه قضية حياة ومصائر اطفالنا ونحن نسهر الليالي ولا ننفك نفكر فيها". ولن أنسى طوال حياتي ذلك الحديث عن النصائح والناصحين، ولذا فإنني انطلق دائماً من مبدأ اولوية وجهة نظر سكان البيت الشرق الاوسطي انفسهم. طبيعي ان جولتي الاخيرة تضمنت الحديث عن الموضوع اللبناني وخصوصاً انسحاب اسرائيل من الجنوب، وكان من المهم لنا ان نستمع الى رأي الاطراف الاقليمية. وموقفنا ينحصر في الآتي: ان اعتراف اسرائيل بالقرار 425 هو في حد ذاته خطوة في الاتجاه الصحيح. ومنذ صدور القرار قبل 20 عاماً لم تدع موسكو فرصة الا وذكّرت بضرورة تنفيذه، وهذا امر لم يفعله، ولا يفعله الآن، جميع الدول. وإبان ذلك تدعو روسيا الى قراءة دقيقة للقرار وتنفيذه في صورة صارمة. وأهم من ذلك ان موسكو مقتنعة بأنه يستبعد ان يتسنى تطبيق القرار بتجاهل سورية او بشكل يبدو كأنه يجري من وراء ظهرها. اذ يجب ان تراعى خصوصية العلاقات بين البلدين الشقيقين، سورية ولبنان، ونحن نرى ان هذه الحقيقة تجد تفهماً متزايداً في العالم. لذا اعلنت اثناء وجودي في عواصم شرق اوسطية ان الصيغة المثلى يمكن ان تتمثل في استئناف متزامن قدر المستطاع للمفاوضات بين اسرائيل من جهة وسورية ولبنان من جهة اخرى. وفي ما يخص المسار السوري فمن المحبذ وهذا ما سمعناه في صورة خاصة في دمشق ان تستأنف المحادثات من النقطة التي كانت توقفت عندها في حينه. وبتكليف من قيادة بلادي أكدت خلال محادثاتي في العواصم التي زرتها ان عملية السلام في خطر ليس فقط لأنها "تعرج على رجليها الاثنتين" بل أيضاً لأن خصومها الذين لا يصعب تحديدهم على جانبي "المتاريس" يرصدون وضعها المرضي بعيون الكواسر التي تتابع الفريسة. ما هو البديل من هذه العملية؟ اعتقد ان هناك بديلاً واحداً هو استمرار ويلات الناس البسطاء الذين يبقى مصيرهم غامضاً بسبب عدم حل النزاع العربي - الاسرائيلي. والبديل يعني العودة الى المجابهة والبغضاء وتصعيد النزعات العسكرية، وأخطر من هذا وذاك انه يعني ان يتقدم الى صدارة المسرح المتطرفون والمتعصبون، والارهابيون. وألاحظ استطراداً ان عملية السلام التي غدت من الظواهر الحاسمة في الحياة السياسية للمنطقة افرزت خاصية تتمثل في ان هذه العملية اخذت تؤثر، بمعنى ما، في اصطفاف وتناسب القوى الداخلية في البلدان الضالعة في النزاع في صورة مباشرة او غير مباشرة. وانهيار عملية السلام سيكون عاملاً مشجعاً قوياً لعناصر الغلو والتطرف في البلدان الشرق اوسطية التي تواجه تحديات الراديكاليين للسلطة ومحاولتهم الاستيلاء على الحكم. وبتعبير آخر فإن الرهان هنا على شيء اكبر بكثير من عملية السلام ذاتها. ونموذج السلوك المحتمل للغلاة ماثل منذ امد بعيد في افغانستان حيث تسيطر حركة "طالبان" على جزء كبير من اراضي البلد وتعرقل المبادرات السلمية واحدة تلو الاخرى، وتفرض بالقوة خارطة قروسطية لادارة البلد لا علاقة لها البتة بالاسلام الحقيقي. ولذا فإن لدي شكوكاً كبيرة في الصدقية السياسية للراديكاليين في الوسط الفلسطيني، الذين يحاولون الطعن في النهج الحالي لقيادة السلطة الوطنية. فمن البديهي ان انتقادات الراديكاليين ليس حافزها الحرص على تعويم عملية السلام وحل الازمة، بل ان العكس هو الارجح. ومفهوم انني لا اقصد انقاذ عملية المفاوضات بأي ثمن، كما يقال، بل ان هناك صيغة حقوقية وأهدافاً نهائية لهذه العملية ينبغي الحفاظ عليها. وثمة بون شاسع بين السياسة الحكيمة والغلو المدمر. انني اقصد تحديداً المتطرفين. ولكن في المنطقة حالياً توجهاً اجتماعياً احسست به خلال جولتي الاخيرة ويسمح باستخلاص استنتاج مقلق، مفاده ان الرأي العام او ما يسمى "الشارع العربي" اصبح يتعامل بتشاؤم ملحوظ بصورة اكثر من السابق مع عملية السلام وآفاقها الفعلية. وهذه الانعطافات في الرأي العام لا يجوز تجاهلها، وهي لا يمكن إلا ان تثير القلق. ان هذه الازمة، شأن حال الشؤون الشرق اوسطية ذاتها، تلزم الراعيين وكل اعضاء نادي "اصدقاء عملية السلام" باتخاذ خطوات نشيطة علماً بأن عليهم العمل منطلقين، في المقام الأول، من الحرص ليس على هيبتهم بل على مصائر السلام والاستقرار في المنطقة. وكما قال عميد المسرح الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي "يجب ان تحب الفن في نفسك لا نفسك في الفن".