لا بد ان اقول، من البداية، انني حين اتعرض لهذا الموضوع المتفجّر، حقيقة لا مجازاً، اتعرض له بحد اقصى من التجرد والموضوعية. لقد اخذ الموضوع حقه من الانفعالات الايجابية والسلبية، مظاهرات تزج في الشوارع وحبراً يسيل على ورق الجرائد، وقرارات مقاطعة صادرة من نادي الاقوياء. ما يهمني هنا، بصفتي دارساً من طلبة العلاقات الدولية، ان الاحظ، اولاً، ان ما حدث في الهند وباكستان هو ارهاص ينذر بمولد حقبة لا تزال تتشكل وتتخلق، حقبة تختلف في جانب هام من جوانبها عمّا سبقها من حقب، وان الاحظ، ثانياً، ان ردود الفعل المختلفة التي نشهدها الآن تستهدف، على نحو او آخر، التعجيل بهذه الحقبة او اجهاضها، وان اتساءل، ثالثاً، عن موقع العرب في الحقبة الجديدة التي اتوقع ان تطل علينا، مكتملة النمو، في الثلث الاول من القرن المقبل. تختلف الحقبة المقبلة عن عهود السياسة الدولية السابقة والمعاصرة في ملمح مهم جداً: لن ترتبط القوة العسكرية فيها بالتقدم الصناعي/ العلمي. منذ استخدام البارود والمدفعية الثقيلة قبل بضعة قرون والى حرب النجوم، كانت القوة العسكرية تسير، خطوة فخطوة، مع التقدم الصناعي/ العلمي. الدولة التي شهدت مولد الثورة الصناعية، بريطانيا، تحولت، تلقائياً، الى الدولة العسكرية الاقوى. الدولة التي دفعت بالثورة الصناعية الى آفاق اوسع وارحب، اميركا، ورثت المجد العسكري من بريطانيا. حين تمكن الاتحاد السوفياتي من تحقيق قدر لا يستهان به من التقدم الصناعي/ العلمي حقق انجازات عسكرية كبيرة. كان بوسع المتخلفين صناعياً/ علمياً، دوماً، تحقيق اهداف عسكرية محدودة على المسرح الاقليمي قبل ان تتجه اليهم الآلة العسكرية المتطورة لتمحو كل ما اوجدوه. لا يكاد يوحد الاقوياء، في كل زمان ومكان، شيء سوء رغبتهم في عدم دخول اعضاء جدد الى نادي القوة. واقوياء هذا الزمان يتحالفون، الآن، رغم الخلافات السياسية لابقاء الضعفاء في منتدى الضعفاء. المعاهدات التي تحظر اسلحة الدمار الشامل، وهي، في جملتها وتفاصيلها، من اخراج مالكي هذه الاسلحة، لا تستهدف خير البشر ولا امنهم ولا سلامهم بقدر ما تستهدف ابقاء هذه الاسلحة حيث يجب ان تبقى: مع صفوة الاقوياء. ليس من قبيل المصادفة ان كل دولة، خارج الصفوة، حاولت تطوير سلاح من اسلحة الدمار الشامل قوبلت برد فعل حازم مباشر. اجهضت طموحات العراق في هذا الميدان اجهاضاً كاملاً. والحصار المضروب على ليبيا اليوم يستهدف القضاء على الطموحات الليبية التدميرية اكثر مما يستهدف المعاقبة على ارهاب حقيقي او مزعوم. وكل محاولة للاحتواء، سواء كان الاحتواء فردياً او ثنائياً او متعدداً، هي محاولة لاحتواء اسلحة الدمار الشامل. الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة، اسرائيل، ليست اذا حقق المرء ودقق استثناء بقدر ما هي تطبيق للقاعدة. لا نحتاج الى التورط في متاهات نظرية المؤامرة لنقول ان الولاياتالمتحدة تعتبر الترسانة النووية الاسرائيلية جزءاً مكملاً للترسانة النووية الاميركية. لم يكن بوسع اسرائيل ان تطوّر قدراتها النووية من دون تعاون، مباشر وغير مباشر، من الولاياتالمتحدة. وليس بوسع اسرائيل ان تستخدم قدراتها النووية الا بإذن صريح من الولاياتالمتحدة. الذين يطالبون الولاياتالمتحدة بأن "تضغط" على اسرائيل لتتخلى عن اسلحتها النووية يضربون مثلاً نادراً في طيبة القلب ومن العيب ان اقول السذاجة!. لا فرق، من منظور المصالح الاستراتيجية الاميركية، بين سلاح نووي مخزون في تكساس وسلاح نووي مخزون في تل ابيب. تحدي القاعدة الحقيقي لم يحدث الا مع التفجيرات النووية الهندية والباكستانية. هنا دولتان فقيرتان، بكل المقاييس، متخلفتان اقتصادياً، بكل المعايير، يفتقران الى القاعدة الصناعية/ العلمية الواسعة، ومع ذلك تمكنتا من الخروج من "بيت الطاعة" النووي. وما دامت الهند وباكستان قد تمكنتا من التمرد، فهل ستقف الامور عند هذا الحد؟ ماذا عن اندونيسيا التي تملك من مقومات تصنيع الذرة ما تمتلكه زميلتاها الآسيويتان؟ وماذا عن تايوان التي لا تفتقر الى مال او صناعة او علماء؟ واذا تجاوزنا السلاح النووي، وهو معقد وباهظ التكاليف، فكم من الزمن سيمضي قبل ان تستطيع الدول الفقيرة النامية، المتخلفة بكل معيار غربي، ان تمتلك اسلحة غازية لا يختلف تصنيعها، كثيراً، عن تصنيع المبيدات الحشرية، واسلحة بيولوجية لا تحتاج الى اكثر من عالم واحد في مختبر صغير؟ واذا كان مجلس الامن، الممثل الشرعي الوحيد للأقوياء، عجز، حتى الآن، بعد سبع سنوات عجاف وجيوش من الخبراء، من ان "يتأكد" من خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل، فكيف سيتعامل هذا المجلس مع عشرات الدول المتمردة؟ على انه اذا كان خوف الاقوياء من استيلاء الضعفاء على معدات الدمار الشامل مفهوماً، فيجب ان نتوقف، لحظة، لنقول ان انتشار هذه الاسلحة يجب الا يبعث الفرح في نفوس الضعفاء. الواقع الدولي المؤسف يقول لنا ان الضعفاء هم اول ضحايا الضعفاء. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تورطت الدول الصناعية في حروب استعمارية او شبه استعمارية، ولم تتجاوز اعداد الضحايا من مواطني هذه الدول عشرات الآلاف لكل دولة. أما الحروب التي خاضها الضعفاء مع بعضهم البعض فقد انتجت بضعة ملايين من القتلى. ان استيلاء الضعيف على مفاتيح الدمار يهدد جاره الضعيف قبل ان يهدد الدولة العظمى البعيدة. لماذا يخشى الاقوياء اسلحة الضعفاء الفتاكة اذا كان تدميرها لا يطولهم؟ هناك عدة اسباب وجيهة. هناك، اولاً، خطر "التسرب"، تسرب بعض هذه الاسلحة، البيولوجية على وجه الخصوص، الى عاصمة غربية كبرى، اما مباشرة او عن طريق منظمة ارهابية لنا ان نتذكر الرعب الذي ساد اليابان بأكملها عندما ظهرت اسطوانة غاز واحدة في قطار ارضي!. وهناك، ثانياً، ملحظ استراتيجي مهم: اسلحة الفقراء قد تهدد دولة فقيرة تنتمي، عن طريق التحالف، الى دولة صناعية قوية. من هذا المنطلق، تحرص الولاياتالمتحدة على ازالة اي خطر يهدد وجود اسرائيل حرص روسيا على سلامة العرب من اي خطر مماثل. بعد ذلك يبقى سؤال بالغ الاهمية: هل يمكن ابقاء دول مثل اليابان والمانيا داخل القفص اذا نجحت "دويلات" عديدة في الرقص خارجه مدججة بأسلحة حظرت على الدولتين العملاقتين؟ يبقى اعتبار نسوقه لأنصار نظرية المؤامرة: مع انتشار الاسلحة المدمرة "الرخيصة" من سيشتري من الدول الصناعية القوية اسلحتها التقليدية "الغالية"؟ يحاول الاقوياء، عن طريق "العولمة" ومعاهدات حظر الانتشار، ابقاء اسلحة الدمار الشامل بعيداً عن متناول الفقراء. هل ينجحون؟ تجربة الهند وباكستان تقول، بوضوح، ان مصير المحاولة الى الفشل، ولو بعد حين. تمرد الهند وباكستان سيغري، عاجلاً او آجلاً، دولاً اخرى بالتمرد. ستشهد الحقبة الجديدة توازناً للرعب من نحو فريد، لا يرتكز على دولة واحدة اعظم، كما هو الحال الآن، ولا على دولتين كما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة، وانما سيكون توازناً متعدد الاطراف. قد نصل - ذات يوم - الى وضع تجد فيه عشرين دولة نفسها قادرة على تدمير العالم بأكمله، او، على اقل تقدير، ذلك الجزء المحيط بها من العالم. وفي غمار معمعة كهذه لن تستطيع الدول العربية مقاومة الاغراء. ستكون هناك محاولة عربية بعد محاولة - يفشل معظمها، ولا تفشل كلها. لا شيء اثقل من نصيحة لم يطلبها احد. ومع ذلك فأنا اقول لكل دولة عربية ان تتجاهل الاغراء وتتبع الطريق الاطول والاضمن: ان تستثمر كل دولار يمكنها استثماره في القاعدة الصناعية/ العلمية، عندما توجد هذه القاعدة، يكون لكل حدث سلاح