مجموعة الشاعر السوري عابد اسماعيل الشعرية الأولى، تقترح على قارئها فضاءات وأخيلة، تزدحم بالصور والكلام الشفيف، ذلك الذي يقوم في خطابه على اعادة وصف العالم، ترتيبه، أو لنقل الحديث عنه، بكثير من فوضى القص، حيث السردية ذاكرة تتحاور مع القلق، تتبادل وإياه الأدوار، بل والحالات، فيما اللغة الشعرية تتكىء على حضور رؤية مسكونة بالرغبة في بعث الهتافات الداخلية والهواجس المضمرة.. إيقاظها من تلافيف الروح، وزجها، يقظة، متوترة في لهيب القصيدة. في "طواف الآفل"، حوار مع محيط تثقله الإقامة في ضجيج الحضارة المادية: حدقة شرقية، تتأمل برودة الرخام والاسمنت في مدينة ترشح من سقوف بيوتها القسوة: "مثل صخرة أسلمت صمتها للأزاميل تجلس مانهاتن، منهوبة، قبالة الماء يجدل الإسمنت طبائعها ويشحذ الحديد أسراها النائمين فوق رخام الشمس بلا أقدام أو مجادلات". قصيدة عابد اسماعيل في "طواف الآفل" دار الكنوز الادبية - بيروت 1998 تنتخب مشاهدها من فردية مخيلة تتجوّل وتكتشف، فتحيل كل ما تراه الى توليفات جديدة تماماً تقوم بصورة أساس على لعبة اعادة تشكيل الاشياء، لا كما هي في الواقع الحقيقي، ولكن كما تتبصرها حدقة الشعر، عارية من الاصبغة والمساحيق، ترتجف مثل شجرة ضعيفة في العاصفة. قوام الرؤية الشعرية هنا، انتباه الشعر الى التفصيلات والجزئيات الواقعية، في ارتباكها، في وضوحها الملتبس، وفي احتدام عبثيتها التي تبدو وقورة وعادية، في انفلاتها من اية عقلانية، انفلاتاً يقارب الفضيحة.. فضيحة امعادي حين يلامسه الضوء، فيبدو وضوح تشوهه، واندحاره بعيداً عن العقلانية: "وحين مرّ الهلال قسم داره الى نصفين بأعماقه ارتطم إله قاسماً روحه الى أنصاف كثيرة" هذه اللوحة المفعمة بالاسماء، والملبدة بغيوم سوداء، يستحضرها الشاعر برغبة شديدة في تأسيس معادلٍ ميتافيزيقي للواقع، حيث الدهشة وحدها يمكن ان تكون عنوان المحطات التي تتوقف عندها القصائد، وحيث لا مكان لأية جملة شعرية تقريرية أو حرفية. في القصيدة ذهاب شبه كلي الى ما وراء الصياغات من ملامح الوهم في تأسيسه لوجود اكثر حضوراً وفاعلية من الواقع ذاته، إذ تتكىء الجملة الشعرية على بلاغة المشهد في بنائيته الدرامية، اكثر من اتكائها على بلاغة الكلمات في علاقاتها التراصفية. يمكن ملاحظة هذه الايحائية في وقوف الشاعر عند ما هو مكاني قابل للقص والاستعادة: "هنا الموتى تركوا ثيابهم ورحلوا تركوها ضد رغبتنا كأنما أملاً بالعودة أو كأنما تركوها لتجفّ هنا الأمل رقاص ساعة هنا الحقيقة قمرٌ معلق فوق بئر هنا الحوار يدٌ مقطوعة". ان "الآفل" الذي تتبع القصائد خطاه، ويترصد الشعر صدى مشاهده، يضمر حضوراً كالغياب، ويشي أكثر ما يمكن ان نتلمس وجوده، بالرغم من صخب الحديث عنه، واسترسال هذا الحديث وتشعبه. كلام الغياب هذا يكتبه عابد اسماعيل بكثير من الصبر والأناة، متأكداً طوال الوقت انه يتعدى بالكلمات العارية من الايقاع لفوضى المشاهد والصور، التي عليها ان تعثر بعد ذلك على شاعريتها الطليقة، مفتونة بلعبة نحت المشاهد بإزميل الرؤية والمخيلة. هنا يمكن الاشارة الى اختلاف الحدقة التي يرى من خلالها الشاعر والتي تستفيد من تجوالها الطويل في الغرب الاميركي، بكل ما في ذلك الغرب من مرارات وقسوة، ولكن ايضاً، بكل ما فيه من "مدنية النظرة"، الى العوالم في احتدام تناقضاتها، والى ارتعاش الروح في زمهرير الجدب العاطفي وازدحام الرغبات والاهواء المتصارعة، فالقصيدة التي يكتبها عابد اسماعيل تنسحب من أية انضباطية لسلفيات الكتابة، لمصلحة النبش الذي لا يتوقف في ركام الاشواك عن وردة، لا من اجل نقل صورة الوردة، ولكن - ربما من اجل استحضار صورة ظل الوردة، ذلك الرمادي المسيّج بعزلته واندحاره، ظلّ يقاوم الغياب من اجل حضور يشبه الأفول، في لعبة لا تتوقف تناقضاتها عند حدود: "وهكذا أمضينا جلّ وقتنا ننادم المصادفات، مستخدمين فرجار الحلم للبرهنة ان للدائرة حولنا أسناناً تقرض الهامش، وللخط المستقيم حراساً يحرسون النهاية". هذه المجموعة الشعرية هي الأولى لعابد إسماعيل، وهي تقدم افتراقاً واضحاً عن كل ما عهدناه في الشعر السوري الجديد، بذهابها شبه الكلي نحو كلٍ متكامل من عوامل الجدّة والوقوف على تخوم التناقض، حيث يمكن القبض على الدهشة من علاقة تلك الحقائق في تناقضاتها، التي تهشم اللحظة الواحدة الى ساعات وأزمنة يمكن اعادة تركيبها من جديد وفي سياقات عضوية أو لنقل في سياقات فوضوية تفرض الانتباه الى ذلك الخيط اللامرئي الذي يفصل بدقة بين ما يقع في الحياة، وما يقع في الروح. قصيدة حديثة تؤسس حداثتها على ما يؤكد الافتراق ويشيع الرغبة في تجميع مادة الشعر من العادي القابع في الظل، المُهمل والمتروك الى الزوايا المنسية، فيما الشاعر يتقصد ان يشكل جملة شعرية مركبة الصور والشخوص في بنائية شعرية بسيطة، عمادها الوضوح الملتبس الذي يدفعنا الى اعادة تخيل الاشياء، تصورها من جديد، من اجل ملامسة أشواكها. هذه التجربة الشعرية الجديدة لا تنشغل بالإبهار، قدر انشغالها بانبهارها هي، بما آلت اليه الحياة من عواصف القلق، ومن جموح نحو العزلة، وعابد اسماعيل في هذه المجموعة المشحونة بالأسى والشعر يقدم صوتاً له رونق خاص وحزن متفرد، ينطلق من كل ما هو ذاهب الى التبدد موغلٍ في الغياب: "مثل يد في الهباء تجرّ هباء يجرّ هباء حتى مطلع الهباء" عابد اسماعيل في "طواف الآفل" شاعر المشهد الكلي في جزئيات لحظاته التي هي الحياة في تشققها الى احزان تتوالد، وانكسارات لا تتوقف عن توليد الانكسارات، فيما الشعر يطلق صفارته باتجاه الجميع