تعليقاً على الأزمة الأخيرة بين عسكر تركيا والسياسيين روى الرئيس سليمان ديميريل لصحافيين زائرين طرفة خلاصتها ان محتالاً زعم انه قادر على التوفيق بين الأسود والأغنام، وجعلها تعيش معاً في سلام. وهو اختار أسداً وحملاً ووضعهما في قفص معاً وحدثهما حديثاً غريباً قال انه سيقنعهما بفوائد التعايش. وسُئل المحتال بعد أسبوع كيف سارت تجربته فقال انها نجحت مئة في المئة، ولكن هناك حاجة لوضع حمل جديد في القفص كل يوم. ديميريل الذي اعتقله العسكر في أوائل الثمانينات ومنعوه من ممارسة السياسة، كان يعبّر عن رأي مراقبين كثيرين داخل تركيا وخارجها، فعسكر تركيا بحاجة دائماً الى سياسي ينفّذ سياساتهم، ويقضي على مستقبله السياسي بسبب ذلك. وهم كانوا أرغموا حكومة نجم الدين أربكان على الاستقالة، فخلفه مسعود يلماز الذي لم يبدِ رغبة كثيرة في قمع الاسلام السياسي حتى هدده العسكر، فانصاع لهم الأسبوع الماضي، وهو يعرف ان موقفه سيكلفه كثيراً في الانتخابات. آخر استطلاع للرأي العام في تركيا أشار الى ان حزب الفضيلة الذي ورث حزب الرفاه الممنوع يتقدم حزب الوطن الأم الذي يتزعمه يلماز باثنتي عشرة نقطة مئوية. واذا جرت انتخابات غداً فسيفوز الحزب الاسلامي الجديد بما لا يقل عن 42 في المئة من أصوات الناخبين، ما يعني ان يصبح أكبر حزب في البرلمان، كما كان حزب الرفاه قبله. والعسكر في تركيا، وهم غير منتخبين، يعتقدون مع ذلك انهم أوصياء على النظام الذي أسسه أتاتورك في العشرينات. وهم يحكمون البلاد عن طريق مجلس الأمن القومي المؤلف من عسكريين ومدنيين، ويسيطر عليه العسكر ويفرضون عن طريقه سياستهم على الحكومة. غير ان العسكر لا يخدمون قضيتهم بتصرفاتهم الغريبة التي تدخل أحياناً في حيّز المضحك المبكي، وأربكان دين وحُرم بعض حقوقه السياسية لأنه استقبل مشايخ الطرق ورجال الدين في مقره وهو رئيس للوزراء، وهم يرتدون الجبة والعمة، وفي ذلك مخالفة لقانون أتاتوركي قديم. أما نائبه شوكت كازان فدين لأنه زار وهو وزير للعدل رئيس بلدية معتقل للاحتفال بيوم القدس. ويبدو ان يلماز لم يتعلم درس أربكان وكازان، فوراء انهياره الأخير أمام طلبات العسكر قصة هناك من يقسم على صحتها خلاصتها، انه عندما كان في زيارة جورجيا الشهر الماضي تحدث وسط معاونيه وبعض الصحافيين في أمسية خالية من الرسميات عن طموحاته، وقال انه سعيد لأنه سيتخلص من كابوس، مشيراً الى كتفه وصدره، مكان وضع النجوم والنياشين العسكرية. وهو كرّر الاشارة رافعاً اصبعه كالرقم واحد، وفهم الحاضرون انه لا يتحدث فقط عن قرب استقالة رئيس الأركان، بل يبدو وكأنه يتوقع رحيل نائبه الجنرال شفيق بير معه بير بالتركية تعني واحداً. ونقل صحافيون تفاصيل الأمسية الى العسكر وغيرهم، فكانت المواجهة مع يلماز التي انتهت بموافقته على طلبات العسكر لمحاربة الاسلام السياسي. هذه الحرب، كما يريدها العسكر، تشمل منع الطالبات من ارتداء حجاب في الجامعات، بل تعادي مدارس تحفيظ القرآن والأعمال الخيرية، والتجار المحسوبين على التيار الاسلامي، والدراسة في جامعات عربية، واطلاق اللحى، وارتداء الجبة والعمة، فكل ما هو فضفاض "ردة" اسلامية تستحق المنع. كل هذه السياسات غير شعبية بالمرة، وعسكر تركيا وضعوا انفسهم على طريق انقلاب عسكري رابع، لأن من الواضح ان ثمة غالبية تركية لا تؤيدهم، فبالاضافة الى حزب الرفاه - الفضيلة، هناك حزب الوطن الأم نفسه، وهو علماني مع علاقة طيبة بالناخبين الاسلاميين، فرئيسه يلماز لا يريد محاربة الاسلاميين على طريقة العسكر. والنتيجة ان عسكر تركيا عزلوا أنفسهم في الداخل والخارج، فلعل أوضح ما في سياستهم انهم يعطلّون عمل السلطة المنتخبة، من الشعب، في وقت ترزح البلاد تحت معدلات تضخم بلغت مئة في المئة، مع الاعتداء المستمر على الأكراد وحقوق الانسان عموماً، ثم يغضب العسكر اذا رفض الاتحاد الأوروبي البحث في امكان انضمام تركيا الى الاتحاد، ويهددون قبرص وغيرها. وربما انضمت تركيا الى الاتحاد الأوروبي يوماً، الا ان الخطوة الأولى نحو هذا الهدف ستكون بترك العسكر المهمة للحكومة، ما يعني ان يعيدوا النظر في أولوياتهم، فلا تعطل الديمقراطية بحجة حمايتها، ولا تصبح مهمة صيانة دستور أتاتورك العلماني عذراً للاعتداء على هذه الديموقراطية.