هناك شيء مشترك بين نظرة فريق من السياسيين البريطانيين يشكلون غالبية زعماء حزبي المحافظين والعمال الى اوروبا، وبين نظرة بعض الاوساط العربية الى النظام الاقليمي العربي. هذا التشابه يبرز في مناسبات كثيرة منها القمة الأوروبية التي اجتمعت اخيراً في منتصف شهر حزيران يونيو الحالي في مدينة كارديف البريطانية، ومنها ايضاً الدعوة الى عقد القمة العربية التي اطلقت خلال الاسابيع المنصرمة رداً على سياسة حكومة بنيامين نتانياهو تجاه "عملية السلام".ففي القمم الأوروبية وخارجها، يسعى الزعماء البريطانيون المؤثرون الى قيام نمط من التعاون بين دول القارة سمي بپ"اوروبا آلا كارت". والمقصود هنا ان يكون البيت الأوروبي شيئاً يشبه المطعم الذي يأتيه المرء لكي ينتقي الطبق الذي يريده من قائمة الطعام التي تعرض عليه والتي تتضمن عدداً كبيراً من انواع الطعام التي تناسب الاذواق والحاجات المختلفة. البيت الأوروبي اذاً لا يشبه المطعم الذي يقدم وجبة جاهزة واحدة تفرض فرضاً على الزبائن بل هو جاهز لتقديم وجبات متنوعة. ينطبق هذا، في نظر الزعماء البريطانيين المؤيدين لنظرة أوروبا "آلا كارت"، على الدول الاعضاء في البيت الأوروبي وعلى نمط ومجالات تعاونهم. فهنا يفضل ان يستمر التعاون الأوروبي وأن تستمر الهوية الأوروبية ولكن ان تكون اطاراً مرناً بل فضفاضاً للتركيز على موضوعات وقضايا التعاون الأوروبي وليس على مؤسساته. فاذا انصب التعاون الأوروبي على مواجهة قضايا معينة بدلاً من التمحور حول بناء المؤسسات، بات من الممكن ان تنشأ تجمعات اوروبية متنوعة وفقاً للقضايا المطروحة. ففي أوروبا هناك دول تعاني مثلاً من الهجرة غير المشروعة. هذه الدول يمكنها ان تكثف تعاونها مع بعضها البعض، من دون غيرها، من اجل معالجة هذه القضية. وهذه التجمعات ليست، بالضرورة، دائمة، اذ انه اذا نجحت هذه الدول في معالجة المشكلة التي اقتضت تعاونها، تعمد الى اعادة النظر في اولوياتها والى التركيز على قضايا اخرى تقتضي تجمعاً جديداً من الدول الأوروبية. نظرية "أوروبا آلا كارت" اطلقت من قبل حكومة المحافظين السابقة، وكانت موضع انتقاد واسع في اوساط مؤيدي فكرة الاتحاد الأوروبي. وجد هؤلاء انها تحول الاتحاد الأوروبي من اطار متطور وفعال للتعاون بين الدول الغربية، الى موزاييك من التجمعات الموقتة الضعيفة. كذلك وجد مؤيدو الاتحاد الأوروبي في الفكرة البريطانية ما يحول مشاريع التعاون الأوروبي الى آمال واهية. فحتى تتحقق هذه المشاريع ينبغي ان تتوفر لها آليات تنفيذ ومتابعة. واذا انشأت كل مجموعة من التجمعات الأوروبية التي تعالج قضايا محددة، آليات متابعة خاصة بها، فانها سوف تعاني من متاعب كثيرة هيكلية وسياسية كفيلة بتحويل التعاون الأوروبي الى فوضى ادارية عارمة. بالمقارنة، فان تطوير مؤسسات الاتحاد الأوروبي كفيل بتمكين الأوروبيين من معالجة قضاياهم المشتركة بأسلوب اكثر فاعلية وأقل هدراً للطاقات. هذه الاسباب وغيرها مما قد يطول شرحه هنا جعلت منتقدي "اوروبا آلا كارت" - ومنهم زعماء بريطانيون - يرون فيها محاولة اخرى من منحاولات حزب المحافظين الرامية الى اضعاف التعاون الأوروبي. ولقد زادهم اقتناعاً تأكيد زعماء المحافظين انهم يريدون ان يكونوا في قلب اوروبا وأن يكونوا قوة رئيسية من قوى الاتحاد الأوروبي، اي انهم سعوا الى توطيد قدمهم داخل الاتحاد لكي يضمنوا عرقلة نموه من الداخل. وعندما انتقل الحكم من حزب المحافظين الى حزب العمال، اوحت حكومة بلير انها سوف تتخلى عن السياسة التي اتبعتها الحكومة السابقة. وقد حدث، فعلاً، بعض التغيير في الموقف البريطاني تجاه التعاون الأوروبي اذ وافقت الحكومة العمالية على القوانين الأوروبية المتعلقة بالقضايا الاجتماعية، الا ان الموقف الاجمالي البريطاني بقي على حاله. فالنزوع البريطاني الى تحقيق اكبر قدر من المكاسب من الاتحاد، مع العمل على وضع سقف لنموه كقوة سياسية دولية لا يزال مستمراً. فعلى صعيد السياسة البريطانية تجاه المنطقة العربية، مثالاً، تسعى حكومة لندن الى استمرار الاتحاد الأوروبي في تبني الاستراتيجية الانجلو - اميركية تجاه عملية السلام. وتقضي هذه الاستراتيجية بقيام الاتحاد بتمويل عملية السلام مع العمل في نفس الوقت على تقليص دور الاتحاد السياسي في هذه العملية الى ادنى حد ممكن. الدعوات الى القمم العربية تطلق، احياناً، استناداً الى منظور يشبه في جوهره نظرة "أوروبا آلا كارت". ففي ذهن اصحاب هذه الدعوة ان التضامن العربي هو مثل المطعم الذي يفتح ابوابه ليلاً نهاراً والمهيأ أبداً ودائماً لكي يقدم لزبائنه أية وجبة يطلبونها ساعة يشاؤون وبالكيفية التي يرغبون بها. او انه يشبه فرقة الاطفائية التي يتم اللجوء اليها عندما تنشب الحرائق، بينما ينساها او يتجاهلها الناس في الحالات العادية. وحيث ان التضامن العربي ومشاعر الاخوة العربية موجودة ابداً وحيث ان النظام الاقليمي العربي بمؤسساته ورجاله جاهز لتلبية النداءات فانه من الطبيعي انه بامكان ذلك الطرف العربي الذي يواجه مأزقاً حاداً، او الذي يعتقد بأن مجموعة الدول العربية تواجه خطراً داهماً، بامكانه ان يدق جرس الانذار فيسرع الجميع الى تلبية نداء الاستغاثة. ان هذه النظرة ليست خاطئة عندما تعتبر ان الالتزام بالرابطة العربية يقضي بأن ينجد العرب بعضهم بعضاً في ساعات الشدة والحرج، او عندما تبرز تحديات تؤثر على امن العرب ومصيرهم. من هذه الناحية فان الدعوة التي اطلقت لعقد مؤتمر قمة عربي خلال الاسابيع الاخيرة هي دعوة سليمة وفي محلها لأن حكومة ليكود ماضية من دون توقف في توسيع رقعة الاحتلال للأراضي العربية عن طريق بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية. الا ان هذه الدعوة لم تكتسب تأييداً كافياً لأنها مشوبة بنظرة خاطئة اساساً لطبيعة العلاقات العربية - العربية ولموقع القمة العربية في شبكة العلاقات هذه. وهذه الدعوة لم تكتسب التأييد المتوقع لأنها مشوبة ايضاً بنظرة خاطئة لموقع العمل الجماعي العربي في مواجهة التوسعية الاسرائيلية. فمن يأمل في الاستعانة في الاجماع العربي كوسيلة للحد من تعنت حكومة ليكود، عليه ان يتخلى عن تلك النظرة التي اشرنا اليها اعلاه والتي تعامل الفكرة العربية وكأنها تحصيل حاصل. ان هذه الفكرة مثل أية فكرة او مشروع تاريخي او كيان بشري، تحتاج الى عمل دائم واهتمام مستمر وتغذية مستمرة. انها تتطلب جهداً لا ينقطع من اجل تنمية المؤسسات العربية الاقليمية، ونشاطاً لا يهدأ سعياً وراء تطبيق قراراتها وتوصياتها، ومتابعة حثيثة لمستوى اداء هذه المؤسسات بقصد تطويره وتحسينه. فالذي يلجأ الى العروبة وقت الحشرة، كما يلجأ المرء الى فرقة المطافئ عندما يدب الحريق في بيته، عليه ان يذكر ان فرقة المطافئ لن تستطيع القيام بواجبها اذا تعرضت الى الاهمال في الاوقات العادية وإذا لم يتلق افرادها تدريباً يومياً للمحافظة على لياقتهم وحسن استعدادهم، وإذا لم يزودوا بأحدث الوسائل والمعدات من اجل مكافحة النيران. وحتى يكون الكيان العربي الجامع، ممثلاً في القمة او غيرها من المؤسسات، فانه من الضروري العمل، اساساً، على ترسيخ الفكرة العربية في النفوس، وحمايتها من الحملات المتجنية التي ترمي الى القضاء عليها وعلى تجلياتها في مجالات الفكر والاقتصاد والثقافة والسياسة والاجتماع. وليس المطلوب من قيادة عربية وحدها ان تتحمل هذه الاعباء بل المطلوب من الجميع ان يساهموا به بما يتناسب مع طاقاتهم وامكاناتهم. ولكن بين هذه القيادات هناك مسؤولية خاصة في الحفاظ على الفكرة العربية تقع على الذين يواجهون الاعباء والتحديات الخارجية الجسيمة. فالذين يواجهون مثل هذه التحديات هم احوج من غيرهم الى الاجماع العربي والى مؤسساته ومقوماته، ومن ثم فان الحكمة تقضي بأن يكونوا هم الاكثر حرصاً على تنميته بصورة يومية وبجهد لا ينقطع، وان يكونوا هم الاكثر اهتماماً على النهوض بالعمل العربي الجماعي حتى اذا اشتدت الضغوط على هؤلاء ولم يعد بامكانهم مواجهتها بالاعتماد على الامكانات المحلية والقطرية وحدها، كانت المجموعة العربية في حالة من الجهوزية والتأهب تسمح لها بمساندة ذلك الطرف العربي الذي يعاني من المتاعب والتحديات ما يفوق طاقته. ما يحدث في السياسة العربية يسير، احيانآً في خط مناقض لهذا المسار. فالدعوة الى مؤتمر القمة العربية اليوم تصدر بعد ان تعرقلت "عملية السلام"، او بالاحرى تطبيق اتفاق اوسلو. والمطلوب من القمة هو انقاذ ذلك الاتفاق مع انه تم على حساب العمل العربي الجماعي وخارج مؤسساته وبالضد من فكرة التنسيق بين الدول العربية، بل وحتى من وراء ظهر المؤسسات الفلسطينية الجماعية. فضلاً عن ذلك، فان الاتفاق قام على اساس بناء شراكة اسرائيلية - فلسطينية اقليمية تنتفي معها عروبة فلسطين وتستند الى المنظور الاسرائيلي الى العلاقات الاقليمية. ومن يدعو اليوم الى قمة عربية من اجل انقاذ اتفاق اوسلو، فكأنه يدعو الدول العربية لكي تعمل معاً على اضعاف العمل العربي الجماعي. والحقيقة ان المطلوب هو انقاذ مؤتمر القمة العربية من حاله الراهن، بحيث يصبح مؤسسة حقيقية وفاعلة تملك القدرة على تجميع الطاقات العربية على نحو ينهض بأبناء المنطقة، ويحفظ امنها واستقلالها ويردع المعتدين على حقوقها. والسبيل الى تحقيق هذه الغاية هو في العودة الى فكرة القمة العربية الدورية التي تتطرق الى ما هو طارئ وداهم من الهموم والمشاغل القومية، كما تنظر ايضاً في امر تطوير العلاقات العربية البينية وترسيخ مؤسساتها وقواعد العمل فيها. * كاتب وباحث لبناني