القمة العربية الاستثنائية المقرر عقدها قريباً في سرت بليبيا ستكون مختلفة في أجندتها عن سابقاتها من القمم. ومرّد هذا الاختلاف لا يعود إلى التوقع بأنها ستحل القضايا والملفات المستديمة، بقدر ما يرجع إلى نوعية الملفات الرئيسية المطروحة عليها من ناحية، وكونها من المزمع أن تشكل بداية لعقد أكثر من قمة عربية خلال السنة من ناحية أخرى، حيث تشكل القمم النوعية العربية على أصعدة العمل العربي المشترك المختلفة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فرصة للتواصل والتشاور بين القادة العرب بما يخدم المصالح العليا للأمة العربية. ولعل أهم بندين مطروحين على أجندة القمة يتمثلان في تطوير منظومة العمل العربي المشترك وإقامة رابطة دول الجوار العربي، وتقف خلف هاتين الفكرتين فلسفتان مختلفتان، لكن، متصلتان، هما على التوالي فلسفتا التكيّف السياسي والمحاكاة السياسية. في ما يتعلق بتطوير آليات العمل العربي المشترك، يمكن القول إن الأمانة العامة شهدت حراكاً فكرياً وعملياً ملحوظاً لبلورة ومواءمة المقترحات المختلفة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك المقدمة من بعض الدول العربية، والمقدمة من الأمانة العامة نفسها، بما يستجيب للتحولات والتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم، لا سيما ما يتعلق منها بالتنظيمات الدولية. فهناك رغبة جادة في تطوير هيكل الجامعة العربية في شكل جذري نحو مزيد من التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الدول العربية. وتمت بلورة ذلك من خلال تصور جديد تم طرحه على الدورة العادية ال134 لمجلس وزراء الخارجية العرب الذي عقد في مقر الأمانة العامة في 16 أيلول (سبتمبر) الماضي. وتم خلاله تبادل الآراء حول الصيغة الجديدة للعمل العربي المشترك المزمع عرضها على الزعماء العرب خلال هذه القمة. إن هذا التصور الجديد يمثل خطوة مهمة على طريق تحديث مؤسسات الجامعة العربية بعد أكثر من ستة عقود من إنشائها. ويرتكز هذا التحديث على مزيد من التخصص والتنوع في أداء مؤسسات الجامعة، ومشاركة أكبر من قبل صناع القرار العربي في فعالياتها، من خلال تأسيس المجلس الأعلى للاتحاد الذي يضم ملوك ورؤساء الدول الأعضاء وأيضاً المجلس التنفيذي الذي يضم رؤساء الحكومات العربية أو من في حكمهم. وهذا من المؤمل أن يعطي جرعة إضافية نحو مزيد من التشاور والتنسيق العربي وتوحيد السياسات العربية المختلفة، بما يحقق المصالح العربية العليا. إضافة إلى التركيز على تفعيل دور مجلس السلم والأمن العربي بمؤسساته المختلفة مثل هيئة الحكماء وقوات حفظ السلام العربية، نظراً لما لقضايا الأمن القومي العربي من أهمية بالغة، ولما للنزاعات العربية من تداعيات سلبية على وحدة الصف العربي. أما الموضوع الرئيسي الثاني الذي من المتوقع أن يحظى بنقاش مستفيض فيتمثل في الطرح الجريء للأمين العام حول رابطة أو محفل الجوار العربي. وقد خضعت هذه الفكرة للتطوير من قبل الأمانة العامة وتم عرضها ايضاً على الدورة الوزارية الاخيرة لمجلس الجامعة. وتحظى الفكرة بدعم عربي واسع كونها تتماشى مع النمط السائد في السياسات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث ظهرت وانتشرت التكتلات الإقليمية والتجمعات الدولية المبنية على أسس اقتصادية وسياسية، بعيداً من التكبيل الأيديولوجي. وقد أدركت الأمانة العامة ذلك النهج باكراً من خلال تعزيز التعاون العربي مع عدد كبير من القوى الفاعلة على الساحتين الإقليمية والدولية، مثل منتديات التعاون التي أقيمت مع الصين والهند واليابان وروسيا وتركيا...الخ. الآن تم نقل الفكرة ووضعها في إطار مؤسسي جماعي، ووفق منظور جيوسياسي واقتصادي، فالعالم العربي يحتل موقعاً جغرافياً مميزاً ويزخر بالكثير من الموارد المادية والبشرية، وتربطه بدول العالم علاقات متعددة على الأصعدة كافة. وكما هو معروف في أدبيات العلاقات الدولية أنه كلما تشعبت علاقات الدول كلما زادت فرص التعاون أو التصادم بينها، بما يعني أن فرص تعزيز المصالح تكون أعظم، في الوقت الذي تتعاظم التحديات والاستحقاقات المختلفة. وهذا ينطبق في شكل واضح على علاقات العالم العربي مع دول الجوار التي ما برحت توسع من نشاطها في التخوم العربية بما يضمن لها تعزيز نفوذها وحماية مصالحها، حتى وإن كان ذلك على حساب النفوذ العربي في بعض الأحيان. لذلك فإن فكرة رابطة الجوار العربي يجب أن لا ينظر اليها من خلال مفهوم «الأدوار» في المنطقة، لأنها تتجاوز ذلك من ناحية الهدف من إنشائها ونطاقها الجغرافي. فهي تشمل نحو ثماني عشرة دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، تختلف في مقدراتها ونفوذها، بل وفي نظرتها للمصالح العربية. ويظل الهدف الرئيسي من إنشاء الرابطة هو خلق تعاون أوثق بين الدول العربية ودول الجوار، بما يخدم المصالح العربية ومصالح هذه الدول أيضاً. كما أن من متطلبات نجاح هذه الرابطة التدرج الزمني في تطبيقها، لا سيما في ما يتعلق بدول الجوار التي تثور حولها بعض الشكوك والتحفظات لسبب أو آخر، والتي قد تجد نفسها معزولة عن محيطها الإقليمي إذا لم تستجب لمبادئ حسن الجوار والتعاون التي ترتكز اليها فكرة الرابطة. وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون الدخول في مثل هذا الفضاء الإقليمي حافزاً لها لتبني سياسات تعاونية يتم التركيز من خلالها على القواسم والمصالح المشتركة بعيداً من اعتبارات التنافس والهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. أخيراً، يظل العمل العربي المشترك البوتقة التي يتم من خلالها تكامل وتمازج هاتين الفلسفتين، ويظل تبني استراتيجية جديدة لتعزيز التضامن السياسي العربي، ذات دعامتين: «رتق الخلافات البينية» و «تعظيم المصالح الجمعية»، أمراً مهماً لتفعيل وتطبيق هذا النهج الجديد، ويظل توفر الإرادة السياسية العربية الضامن لنجاحه واستمراره. * مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية