لكل شعب سخافاته، وأسخف ما عند الانكليز هو ذلك الاعتقاد الراسخ بأن كل انكليزي في الخارج بريء. أمس عادت الممرضتان البريطانيتان لوسىل ماكلوكلان وديبرا بيري من السجن في المملكة العربية السعودية، واستقبلتا استقبالاً حافلاً، مع ان الارجح ان احداهما قاتلة، وربما كانت الاثنتان شريكتين في مقتل الممرضة الاسترالية ايفون غيلفورد. وهما ستجنيان مئات ألوف الجنيهات من رواية قصتهما للصحف، اي انهما ستكسبان من الجريمة، فهناك جريمة بالتأكيد والممرضة غيلفورد طعنت بسكين مطبخ، مع ترجيح التحقيق ان وسادة وضعت فوق رأسها لكتم صوتها، ما يعني ان شخصين شاركا في الجريمة. الا ان الصحافة البريطانية غير معنية بالجريمة فهي برأت ماكلوكلان وبيري لمجرد انهما انكليزيتان، كما كانت برأت المربية لويز وودوورد من تهمة قتل طفل اميركي كان في عهدتها في بوسطن. وأثارت الصحافة البريطانية ضجة ردت عليها الصحافة الاميركية بمثلها، وأعيدت محاكمة المربية، فلم يبرئها القاضي، وإنما خفض الحكم درجة الى القتل غير المتعمد. ومع ذلك بقيت الصحافة البريطانية تناصرها لمجرد انها انكليزية، متناسية ان طفلاً صغيراً قتل. ولكن نبقى مع الممرضتين، فالصحف البريطانية نفسها ذكرت ان ماكلوكلان فرت للعمل في السعودية وهي تكتم انها مطلوبة من القضاء البريطاني بتهمة استعمال بطاقة "كريدت" لمريضة على وشك الموت في عهدتها وعندما اعتقلت الممرضتان في السعودية كانت ماكلوكلان تسحب ما يعادل 800 جنيه من حساب غيلفورد، تماماً كما فعلت في انكلترا قبل ذلك، وما كانت الشرطة السعودية تعرف ابداً التهمة السابقة المماثلة وهي توجه اليها التهمة الثانية. اما بيري فقد توفي اخوها المراهق في حادث دراجة نارية، وماتت امها بعده بقليل غرقاً خلال اجازة في اليونان، وتعرضت هي لأزمة نفسية كبيرة وخضعت للعلاج النفسي أربع سنوات. غير ان الصحافة البريطانية سجلت كل هذا، ثم خلصت الى "قسوة" القضاء السعودي و"وحشية" السجن، مع "براءة" المتهمتين. وعلى الرغم من التغطية الاغراقية للموضوع فلم يسأل احد لماذا يختار القضاء السعودي ممرضتين بريطانيتين ليظلمهما كأن له ثأراً عندهما؟ أو كيف تتراجع المتهمتان عن اعترافاتهما بحجة ان الاعترافات الأولى تمت تحت الضغط والتهديد بالاعتداء الجنسي، مع ان سحب الاعترافات جاء وهما لا تزالان في عهدة رجال الشرطة انفسهم والقضاء نفسه، فكيف هددتا في البداية، ولم تهددا بعد ذلك؟ ولماذا ارتفع خطر التحرش او الاعتداء الى درجة ان تسحبا اعترافاتهما، من دون ان تتعرضا للتهديدات المزعومة نفسها من جديد؟ القضاء في السعودية اساسه القرآن الكريم، والقاضي رجل دين حسابه عند ربه، وهو بالتالي أشد حساباً لنفسه من أي قاض مدني، وأكثر مناعة من ضغط الاعلام او أي طرف مهتم، لأنه ينفذ قانون الله لا البشر. ومع اختلاف القانون السعودي عن القانون البريطاني، فان العدالة تبقى مصونة بموجب القانونين. وبالتأكيد فالقانون البريطاني من مستوى راق جداً ومتقدم، وهو القدوة لبلدان كثيرة، الا ان هذا لا يعني ان القضاء البريطاني بريء، فلجنة مراجعة القضايا الجنائية تلقت في السنة الأولى من تشكيلها 1300 طلب، وأعادت 11 قضية الى المحاكم للنظر فيها من جديد. وقد سمعنا عن "ستة برمنغهام" و"أربعة غيلفورد" و"ثلاثة بردجووتر" كلهم سجن مدداً طويلة ثم ثبتت براءته. كذلك سمعنا هذه السنة عن تبرئة البحار محمود ماتان بعد 48 سنة من اعدامه، وعن بادي نيكولز الذي غادر السجن في آذار مارس الماضي بعد قضائه فيه 17 سنة في جريمة ثبتت في النهاية براءته منها. وهناك امثلة كثيرة أخرى يضيق عنها المجال. ومرة اخرى، فالقانون البريطاني عظيم، الا ان القانونيين يخطئون، وإذا كان القضاة يخطئون فإن امكان خطأ الصحافة يزيد اضعافاً مضاعفة، فهي لا يهمها ان تكون المتهمتان بريئتين او مذنبتين، وانما تهمها الاثارة لبيع الصحف بغض النظر عن أي ذنب او براءة. وفي هذا الوضع فإن أصدق كلمات عن الموضوع ربما كانت تلك التي صدرت عن لوريل غيلفورد، زوجة شقيق الممرضة الضحية، فهي قالت: "انهما نجتا بأقل عقاب ممكن، وأدعو ان تصليا نار جهنم".