مشاهدة اللوحات في صمت مطبق امر عادي جدا في متحف الفن الحديث في لندن، لا يخرج عليه احد كأنه القانون. لكن الهمس يسود في معرض لوسيان فرويد الذي افتتح هذا الاسبوع، اما من الاستغراب او من الغيظ والانزعاج. الفنان تجاوز درجة الاستحسان وما يسمى بالجمال المقبول. العلاقة الوحيدة بينه وبين الجمهور الحالي هي ما تخلفه هذه اللوحات من شعور بالتأفف، ثم التعليق عليها بغموض: اذا اراد الانسان ان يكره جسداً فما عليه الا ان ينظر من بعيد الى الاجسام العارية، المتلحّمة المظهر، القائمة الكيان على لون فاقع ليس له مصدر. حتى اصحاب العزلة تخرج من شفاههم اصوات خافتة. يجب ان تقول شيئاً، لنفسك او للوحة او حتى للجدار. ليس هذا لعباً بالمظاهر. يمكن القول ان اللوحة بمثابة تحديد مساحة تطويق المخيلة. لا احد يجرؤ هنا على سؤال الفنان: ماذا حدث اثناء رسم هذا الجسد وذلك البورتريه؟ ما هي علاقة هؤلاء المرسومين به؟ لماذا يكشفون عن انفسهم بهذه الطريقة امامه؟ لماذا تظهر الوجوه هكذا باهتة، محتقنة، لا يركز منظرها على شيء كأنها غائبة عن الوعي؟ الحقيقة ان هناك توتراً متبادلاً بين اللوحة والمشاهد، لعله ينجم عن المنظر المقرب، عن الطريقة التي تحشر بها اللوحة محتواها عند المشاهد. للمنظر إطار، لكن لا حدود للمشاعر التي تطلقها هذه اللوحات. لا اطار سوى الغرفة الضيقة التي توجد فيها. هل هذا ما يحاوله فرويد؟ ان يفرغ الاطار من اي معنى، ان يسهل علينا الرؤية المباشرة في حالة نصل معها الى موقع اللاجاذبية. اي ان ما يقربنا الى العمل ليس الموضوع او الاسلوب، وإنما اللوحة في ذاتها. اشخاص اللوحات لا ينظرون الى احد، انهم يتأملون عالماً داخلياً، ذكرى او حادثاً. جالسون على كنبة في استوديو كأنه محطة سفر بين الواقع والخيال... محطة تفسير حالهم للعالم الخارجي. ما أصعب تلك العملية حتى بالنسبة الى فنان ذي تقنية ماهرة وقدرة على تدبير الصورة التعبيرية. الوجوه هنا كأنها ظهرت من قبل في لوحات قديمة، او في كتالوغات معارض سابقة او في كتب عن الفنان، الا انها تظل جزءاً من عالم الرسام: الكنبة البنية نفسها، المغسلة البيضاء، النبات، الجدران المقشورة. عالم واقعي مغلق كأنه مختبر ينظر فرويد من خلاله الى عزلة الذين يعرفهم... عزلة ذهنية لا محالة. تظهر الاجساد والوجوه في لقطات مجمدة كأنها توقفت عن الوجود منذ فترة. الرسام يضع لشخصياته وجوداً آخر جديداً. لا بطولة هنا. وما عليهم سوى الانطلاق خارج الاستوديو الى ما يشبه الحزن والتعاسة والعزلة. بينها حالة دفء وعزاء قصيرة يمثلها كلب صيد بني، يظهر في اللوحات من حين لآخر. ولد لوسيان فرويد في برلين العام 1922. هاجر مع والده وجده العالم النفسي سيغموند فرويد الى انكلترا هرباً من النازيين وهو في الحادية عشرة من العمر. بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية، التحق بمعهد الفن لفترة قصيرة. ثم ركز في بدايته على العلاقة بين الاشخاص والمكان... انتقل بعدها الى تصوير مواقف سوريالية في الحياة اليومية. ومنذ اواخر الستينات عادت ميوله الى وصف الجسم البشري في اوضاع عدة. الا ان اسلوبه القوي في كشف القناع اكسبه مكانة مرموقة في الفن البريطاني والعالمي. هذه الطريقة الفنية لا تزال تعيش على التوتر بين الموضوع والمكان، بين المظهر والألوان... انها حالة لا يراها المشاهد فحسب ولكنه يعيشها في المعرض، ويظل يشعر بها لفترة طويلة بعد ذلك!