قال مَعْبد: بعث اليّ بعض امراء الحجاز - وكان قد جُمع له الحرَمان - أن أشْخص الى مكة. فشخصتُ. قال: فتقدمتُ غلامي، فاشتدّ عليّ الحرّ في ذلك اليوم والعطشُ، فانتهيتُ الى خباء فيه أسودُ، واذا حِبَابُ ماء قد بُرِّدت، فملتُ اليه فقلت: يا هذا، إسقني من هذا. فقال: لا. فقلتُ: فأْذن لي في الكنِّ ساعة. قال: لا. فأنَخْتُ ناقتي ولجأتُ الى ظلّها فاستترت به، وقلت: لو احدثتُ لهذا الامير شيئاً من الغناء أقدمُ به عليه. ولعلّي ايضاً ان حرّكت لساني ان يُبلَّ حلقي فيخفّف عني بعض ما أجدُ من العطش. فترنمتُ بصوتي: القصر فالنخل فالجمّاء بينهما أشهى الى القلب من ابواب حيرون فلما سمع الأسودُ، ما شعرتُ به الا وقد احتملني فأدخلني خباءه، ثم قال: بأبي أنت وأمي! هل لك في سويق السُّلت بهذا الماء البارد؟ فقلت: قد مَنعتني أقلّ من ذلك، وشربةٌ من ماء تجزئني. قال: فسقاني حتى رَوِيت، وجاء الغلامُ، فأقمت عنده الى وقت الرواح. فلما اردت الرَّحلة قال: بأبي أنت وأمي! الحرُّ شديد، ولا آمن عليك مثلَ الذي أصابك، فأْذنْ لي ان أحمل معك قربة على عنقي وأسعى بها معك، فكلما عطشت سقيتُك صَحْنا وغنيّتني صوتاً. فقلتُ: ذلك لك. قال: فوالله ما فارقني يسقيني حتى بلغتُ المنزل.
قيل: أتى عبدالله بن فضالة الوالبي، ثم الأسدي، من أسد بن خُزيمة، عبدالله بن الزُّبير، فقال: نَفِذَتْ نفقتي، ونقبتْ راحلتي، فقال: احضرها. فأحضرها. فقال: أقِبْل بها. أَدْبر بها. ففعل. فقال: ارْفعها بسبتٍ، واخصفها بهُلْب، وأنجِد بها يَبْرُد خفُّها، وسِر بها البَرْدَيْن تَصِحّ. فقال: اني أتيتُك مُستحملاً ولم آتك مستوصفاً، فلعن الله ناقةً حملتني اليك. فقال: إنَّ وراكبَها. فانصرف عنه ابنُ فضالة، وقال: أقول لغلتمي شُدُّوا رِكابي أجاوِز بطن مكةَ في سَوادِ فمالي حينَ أقطع ذاتَ عرقٍ الى ابن الكاهليّة من مَعَاد سيُبعد بيننا نصُّ المطايا وتعليقُ الأوادي والمَزاد أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْب نُكِدْن ولا أميّةَ في البلاد من الأعياص او من آل حَرْب أغرَّ كغُرة الفَرَس الجَواد وكان عبدالله بن الزبير يُكنى أبا خبيب، وأبا بكر، وابو بكر هو المعروف. ولم يكن يَكْنِيه أبا خُبيب الا من اراد ذمّه، فيجعله كاللقب له. فقال ابن الزبير، لمّا بلغه الشعرُ: عَلِم انها شرُّ أمهاتي فعيّرني بها، وهي خير عمّاته.
قال بعضهم: رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضعف، والنحافة، لو هب عليها الهواء لطار بها، رافعة يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجة يا اختاه؟ أضنتني نحافتك، وأحزنني هزالك، وغلبني الأسى على ما أنت فيه؟ فقالت: اخدمني وناد بقولي: تزود كل الناس زادا يقيهم ومالي زاد والسلام على نفسي فناديت كما امرتني، وإذا بفتى نحيل الجسم قد اقبل إليّ فقال: أنا الزاد، فمضيت به إليها، فما زاد على النظر والبكاء. ثم قالت له انصرف بسلام، فقلت: ما علمت أن لقاء، كما يقتصر على هذا، فقالت امسك يا هذا أما علمت ان ركوب العار ودخول النار شديد، وأنشدت: كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني منه الحياء وخوف الله والحذر وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني منه الفكاهة والتأنيس والنظر
ذكر أن ابن سريج والغريض قدما المدينة يتعرضان لمعروف أهلها ويزوران صديقهما من قريش وغيرهم، فلما شارفاها تقدما ثقلهما ليرتادا منزلاً، حتى إذا كانا بالمغسلة، وهي الجبانة على طرف المدينة تغسل فيها الثياب، وإذا هما بغلام ملتحف بإزار وطرفه على رأسه، وبيده حبالة يتصيد بها الطير وهو يتغنى: القصر فالنخل فالجماء بينهما أشهى إلى القلب من أبواب جيرون وإذا الغلام معبد. فلما سمع ابن سريج والغريض مبعداً مالاً إليه واستعاداه الصوت، فأعاده، فسمعا شيئاً لم يسمعا مثله قط. فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قط؟ قال: لا والله، فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يتصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة! يعني المدينة، فأمّا أنا فثكلته والدته إن لم أرجع. فكَّرا راجعين.