تعتبر محطة "مير" الفضائية الروسية اقدم واكبر مركبة تواصل الدوران حول الارض. وخلال المدة التي امضتها "مير" تجوب الفضاء في مدارها دون انقطاع، مر الاتحاد السوفياتي، البلد الذي اطلقها، بمحطات مهمة، فأنهى الحرب في افغانستان وخاض تجربة "بيريسترويكا" وواجه تصاعد الحركات القومية قبل ان ينحل. وخرجت "مير" الكلمة تعني "السلام" في اللغة الروسية سالمة من تفكك البلاد وإعادة بناء وكالة الفضاء وصناعة الفضاء. واصبحت هذه المحطة رمز الاستمرارية والانقطاع في ابحاث الفضاء السوفياتية - الروسية، وعكست في الوقت نفسه جانبيها المشرق والمظلم. وفي حديث ل "الحياة" فنّد سيرغي غروموف نائب رئىس مؤسسة الفضاء والصواريخ الروسية القصص المثيرة التي نشرتها الصحافة حول فقدان "مير" توازنها، ونفى ما يشاع عن احتمال أن يهوي هذا المجمع الفضائي الضخم نحو الأرض، وأكد أن "مير" ستستقبل بعثات فضائية في العام المقبل 1999، وستحدد البعثة الحالية الي المحطة ما اذا كانت ستواصل العمل بعد ذلك. تواصل "مير" الدوران حول الارض منذ شباط فبراير 1986. وسجّلت ارقاماً قياسية عدة في مجال ابحاث الفضاء وفي الكفاح من اجل البقاء. فهي تواصل العمل منذ 12 سنة، اي 5،3 مرة اكثر من المدة المحددة اصلاً لعملها. ويبلغ الوزن الكلي لهذا المجمع الفضائي الفريد من نوعه 130 طناً. وتتألف المحطة من 7 اجزاء ترتبط بالمركبة المركزية. وجاءت البداية باطلاق مركبة "كفانت" في 1987، واستكملت بعد ذلك بسنتين بمركبة "كفانت - 2"، ثم اُضيفت "كريستال" في 1990، واخيراً اُطلقت مركبتان اضافيتان لاجراء تجارب علمية، وهما "سبكتر" و "بريرودا" اللتان التحمتا بالمجمع الضخم بين عامي 1992 و 1996. وجُهّزت "مير" بمنافذ مشتركة لا تلائم سفينة الفضاء الروسية الصنع "سويوز" فحسب، بل يمكن استخدامها ايضاً للالتحام بالمكوك الفضائي الاميركي. ومنذ عام 1989، لم يتوقف وجود الرواد الروس على متن "مير". وغالباً ما ينضم اليهم خبراء عالميون في مجال الفضاء. وذكر المكتب الاعلامي لوكالة الفضاء الروسية ل "الحياة" ان رجال فضاء من 20 بلداً، من ضمنهم افغانستان والنمسا وبلغاريا وفرنسا والمانيا وبريطانيا والهند واليابان والولايات المتحدة، زاروا مجمع "مير" الفضائي. كما استضافت ممثلاً عن العالم العربي، هو محمد احمد فارس، رائد الفضاء السوري الذي عمل على متنها في الفترة من 22 الى 30 حزيران يونيو 1987. وذكر سيرغي غروموف نائب رئىس مؤسسة الفضاء والصواريخ "إنيرجي" الطاقة أن "مير" سجلت كثيراً من الارقام القياسية في الفضاء. ففي عام 1987 استطاع رائد الفضاء الروسي يوري رومانينكو البقاء اطول فترة في الفضاء، حيث امضى 326 يوماً. وفي 1990 حطم الثنائي الروسي فلاديمير تيتوف وموسى مناروف الرقم القياسي لفريق مناوبة فضائي عندما امضيا 366 يوماً على متن "مير". لكن الرقم القياسي الابرز سُجّل في الفترة 1991 - 1992 من قبل رائد الفضاء فاليري بولياكوف الذي تمكن من البقاء في المدار 438 يوماً. وواجه الرجال التحدي من رائدتي الفضاء، الروسية يلينا كونداكوفا التي بقيت على متن "مير" لمدة 169 يوماً والاميركية شانون لوسيد، التي امضت ستة شهور. تفكك الاتحاد السوفياتي وخلال السنوات الست من عمر "مير" في الفضاء تفكك الاتحاد السوفياتي وتبنّت الدولة الروسية الحديثة التكوين سياسة اصلاحات على نمط اقتصاد السوق. كان هذا يعني بالنسبة الى برنامج الفضاء و"مير" انتهاء الدعم الثابت من موازنة الدولة. وفي بلد هزّه انهيار الاقتصاد المخطط، أصبح مجرد وجود برنامج فضاء تبلغ كلفته بلايين من الدولارات موضع تشكيك. وكان على البرنامج بشكل عام، و"مير" بشكل خاص، كي يتمكنا من البقاء ان ينتقلا الى عالم الاعمال. وبدا ان الادارة العملية هي الوسيلة الوحيدة للاستمرار في اقتحام الفضاء. لم تعد الدولة تعير اهتماماً لمحطة "مير"، فقد اصبحت ضمن دائرة اهتمام "شركة الفضاء والصواريخ" إنيرجي الفتية، التي تولّت بناءها واطلاقها، و"وكالة الفضاء الروسية" التي تولت الاشراف على برنامج الفضاء الروسي. ويقول غروموف ان "هذا لا يعني ان الدولة لم تعد تموّلنا. فموازنة الدولة تتضمن تخصيصات للانفاق على برنامج الفضاء. لكن الحكومة تعجز عن الايفاء بالتزاماتها. على سبيل المثال، حصلنا العام الماضي على 50 في المئة فقط مما كان مخططاً في موازنة الدولة". واستبدلت السرية والانغلاق اللذان كانا يحيطان برامج الفضاء بالشفافية والانفتاح على المستثمرين المحتملين. ووقعت مؤسسة "إنيرجي" اتفاقات مع وكالة "ناسا" ووكالة الفضاء الاوروبية "إيسا". والتحم المكوك الفضائي الاميركي ب "مير" تسع مرات. ونقل المكوك الى المحطة الاسبوع الماضي فاليري ريومين، وهو رائد فضاء روسي مخضرم يشغل الان منصب نائب كبير مصممي شركة "إنيرجي"، والتقط في المقابل رائد الفضاء الاميركي اندرو توماس الذي يعمل على متن "مير" منذ كانون الثاني يناير 1998. ولا تؤدي شراكة الفضاء الروسية - الاميركية الى نتائج على صعيد الانجاز العلمي فحسب بل تساهم ايضاً في تخفيف اعباء موازنة الفضاء الروسية. تحديث "مير" وعلى رغم كل الضغوط التي وضعها الاقتصاد الروسي على برنامج "مير" فان المحطة تطورت وجرى تحديثها. وكان على مصممي رحلات "مير" ان يثبتوا ان المحطة الفضائية يمكن ان تواصل العمل دون قيود زمنية اذا جرى تحديثها في الوقت المناسب. وأوضح غروموف ان "التجربة العملية تظهر ان اي قطعة من المعدات، خصوصاً الاجهزة الالكترونية، تدوم لمدة اقصاها 3 سنوات ويجب ان تُستبدل بوحدات جديدة. واستطعنا بهذه الطريقة ان نجعل محطة "مير" تواصل العمل". وتحولت المحطة المدارية الى مجمع معقد من المركبات التي تحتاج الى دعم كفوء لادامتها والى انظمة كومبيوتر. فبرامج الكومبيوتر التي كانت متطورة في الثمانينات تقادمت بسرعة. وتستخدم على متن "مير" حالياً برامج كومبيوتر من الجيل السابع. وكان على كل رحلة ان تسهم في تحديث هذا الجهاز او ذاك كي يمكن مواكبة التقدم التكنولوجي. وشمل التحديث ايضاً البنى المعدنية الثقيلة، وقام رجال الفضاء بتركيب بطاريات شمسية جديدة ومنصات خارجية ومنافذ التحام واذرع رافعة. واصبحت جولات السير في الفضاء واعمال التصليح الخارجية حدثاً روتينياً، بالاضافة الى "شاحنات" فضائية عدة لنقل معدات احدث. حادث "مير" وفي العام الماضي عادت "مير" الى موقع الصدارة في الاخبار الرئيسية لوسائل الاعلام العامة خلال احدى الرحلات، التي كان يُفترض ان تكون مجرد رحلة روتينية اخرى. ففي 25 حزيران يونيو 1997، اصطدمت مركبة التموين الفضائية "بروغرس" بالمركبة العلمية "سبكتر"، وتسبب ذلك في تصدع الغلاف وتحطيم واحدة من البطاريات الشمسية الثلاث. ونجم عن الحادث بعض الاختلال في عمل اجهزة على متن المحطة وعطل مركبة "سبكتر"، ووقف عدد من التجارب الدولية. كما ادى فقدان الطاقة الى سلسلة انقطاعات اثرت على الحياة على متن المحطة، لان الكومبيوتر الرئيسي اصبح عرضة للعطل بين حين واخر. وبدأت وسائل الاعلام الروسية والعالمية تتحدث عن عدم صلاحية "مير". لكن الصحافيين لم يعيروا اهتماماً للمعلومات التي نشرتها لجنة تحقيق خاصة كانت توصلت الى ان الاصطدام بين "مير" و "بروغرس" نجم عن خطأ بشري ولم يكن نتيجة خلل في اجهزة التحكم. واصبحت الانباء الواردة من المحطة المدارية موضوعاً ساخناً. وادّعت بعض صحف موسكو، بعد انقطاع معتاد في امدادات الطاقة، ان المحطة فقدت اتجاهها وان "مير" بدأت "تدور بشكل عشوائي". وذكر غروموف ان "هيكلاً يبلغ وزنه 130 طناً ومثبّت في مدار لا يمكن ان "يدور بشكل عشوائي"، فهذا يتعارض مع قانون الجاذبية". وأضاف ان فقدان الاتجاه "يعني ان الرصد المضبوط للارض والفضاء الخارجي لم يعد ممكناً بشكل مؤقت. فالمحطة مزودة باجهزة جيروسكوب تستطيع ان تحفظ توازن موقع المحطة". مصير "مير" ويعتقد خبراء في "مركز السيطرة" ان "مير" يمكن ان تواصل العمل نحو خمس سنوات اضافية. ويمكن تجديد ما بين 70 و80 في المئة من معدات المحطة وتركيباتها. وفي النية ارسال المزيد من الرحلات التي تقل رجال فضاء، إذ يتوقع ارسال بعثة سلوفاكية في مطلع 1999، وفي وقت لاحق من السنة نفسها ستتوجه اليها بعثة فرنسية. ولا يستبعد برنامج "مير" ان يُمدّد التعاون مع وكالة الفضاء الاوروبية. ومن المقرر ان يبقى فاليري ريومين 58 سنة، على متن "مير" الى اب اغسطس المقبل ليعود بعدها الى الارض وهو يحمل تقريراً عن وضع معدات المحطة ومتطلبات تصليحها. وتأمل مؤسسة "إنيرجي" في ان تواصل "مير" اداء وظيفتها. وقال غروموف ان "الاميركيين دهشوا حقاً بقدرتنا على تحديث "مير". شاهدوا بانفسهم كيف حدّثنا نظام الكومبيوتر بشكل كامل. وسيكون امراً مؤسفاً الاّ تُستخدم المحطة على رغم ادراك قدرتها وامكان تطويرها". وذكر غروموف تعليقاً على تقارير صحافية توقعت خروج المحطة من مدارها وسقوطها فوق الأرض ان "إخراج المحطة من مدارها يتطلب 4 اطنان اضافية من الوقود. فالمحطة المدارية لا يمكن ان تفقد مدارها من دون تدخل خارجي. واذا وصلنا الى مرحلة تستدعي انهاء المحطة، سننفذ خطوات محسوبة بعناية وبطريقة تجعل المحطة تدخل طبقات الغلاف الجوي للارض وتحترق هناك بشكل كامل. ويمكن الحفاظ على بعض الاجزاء، المصنوعة من خليط معادن عالي المقاومة، وقد تسقط في الجزء الجنوبي من المحيط الهادى، وهي منطقة اشبه بصحراء نائية ومقفرة لا تحتوي اي جزر او خطوط للنقل البحري وتستخدم بشكل تقليدي لكب حطام الفضاء".