يتساءل كثير من الكتاب والمفكيرين المعاصرين الذين يتعاملون مع القضايا الاسلامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ومنهم: محمد سعيد العشماوي، محمد شحرور، محمد أركون الخ... عن كيفة التوفيق بين نصوص ثابتة القرآن والسنة وواقع متغير، وهم من أجل حل هذه الإشكالية يصدرون أحكاماً جديدة مخالفة للأحكام الاسلامية السابقة، ويتعللون بأن تلك الاحكام كانت نتاج واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي معين، لذلك ومع تغير هذا الواقع يجب ان يتغير الحكم، فهل هذه المشكلة حقاً مشكلة جديدة؟ وهل يجوز ان نصدر أحكاماً مجردة من أية ضغوط من أجل حل هذه المشكلة؟ المشكلة ليست جديدة، بل قديمة قدم النص القرآني، ونحن من أجل تسهيل مناقشتها يمكن ان نجزئها الى قسمين: 1- النصوص المتعلقة بالعقيدة وبالأسرة وبالحدود الخ... 2- النصوص المتعلقة بالاجتهاد بشكل عام. اما بالنسبة الى النصوص المتعلقة بالعقيدة وبالأسرة وبالحدود فقد جاء ثبات أحكامها من ارتباطها بالجانب الثابت من كيان الانسان الذي أطلق عليه القرآن الكريم مصطلح "الفطرة"، فقال تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" الروم 30، ومن مظاهرة الفطرة الثابتة على مدار التاريخ: التعبد، حب المال، حب التملك، التجاذب بين الذكر والأنثى، الخوف الخ...، لذلك وجدت نصوص عالجت هذه الجوانب الفطرية. ففي مجال التعبد بينت النصوص صفات الله الذي يجب ان يتجه المسلم اليه بالعبادة، وبينت أنواع العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج، ووضحت كيفيتها وأوقاتها، وبينت أجر المتعبد وعقوبة غير المتعبد. وفي مجال التملك والمال، فقد أباحت النصوص التملك وحللت بعض طرق الكسب وحرمت بعضها الآخر، قال تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" البقرة 275، ووضحت أوجه انفاق المال فحرمت الإسراف والتبذير، ووضعت حدّ السرقة لمن يدفعه الطمع الى التعدي على مال غيره، ووضعت الضوابط المتعددة لهذا الحد. وفي مجال التجاذب بين الذكر والأنثى، دعت النصوص الى الزواج وتكوين الأسرة، واعتبرت الزواج هو الطريق المشروع للعلاقة بين الاثنين وحرمت ما عدا ذلك، لذلك بينت نصوص كثيرة الحقوق والواجبات لكل من الزوجين والأورد، وبينت أحكام الطلاق والميراث، وو ضحت عقوبة الزنا والقذف. وفي مجال الخوف بينت النصوص ان هناك خوفاً فطرياً لا إثم فيه فقد وقع فيه الأنبياء، فقد خاف النبي ابراهيم من الملائكة عندما وجد ان أيديهم لا تصل الى الطعام الذي قدمه إليهم، وخاف موسى وهارون عليهما السلام المواجهة مع فرعون، لكن هناك خوفاً محرماً هو الذي يحول دون قول الحق أو الوقوف الى جانبه، ودعت النصوص المسلم ان يوجه خوفه الى مقام الله وعذاب الآخرة لكي يستطيع ان يكون في مستوى الصدع بالحق والجهر به. أما بالنسبة للآيات الأخرى المتعلقة بالاجتهاد فقد حكمها بشكل عام علم أصول الفقه الذي جاء استجابة لآيات متعددة في القرآن الكريم تبين للمسلمين طبيعة القرآن الكريم وصفاته. فقد جاء في تلك الآيات انه قرآن عربي، قال تعالى: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" يوسف2، وجاء فيها ان فيه نسخاً قال تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسبها نأتي بخير منها أو مثلها إن الله على كل شيء قدير" البقرة 106، وان فيه محكماً ومتشابهاً، قال تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأٌخر متشابهات" آل عمران 7، وان فيه المجمل والمفصل، قال تعالى: "الر، كتابٌ أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" هود1 الخ... كانت تلك الآيات محور علوم متعددة: المحكم والمتشابه، الناسخ والمنسوخ، المجمل والمفصل الخ... وقد تكوّن علم أصول الفقه من العلوم السابقة بالإضافة الى قواعد أخرى مثل: الاستحسان، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والاستصحاب الخ... وقد مرّ علم أصول الفقه بمرحلتين مهمتين هما: الأولى: إقراره بتعليل الأحكام في وجه الاتجاه الظاهري الذي يرفض مثل هذا الاقرار بحجة ان الله لا يسأل عما يفعل، وانه لا حكمة ولا علة وراء أي امر من الأوامر، وان البحث عن الحكمة والعلة تنطع في الدين وبعد عن الصواب وافتراء على الله، ولكن هذه المدرسة في الفقه والتي مثلها داود الظاهري في المشرق وابن حزم في المغرب انحسرت لصالح المدرسة الثانية التي وضحت ان الله بين لنا الحكمة من بعض الاعمال حيث قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" البقرة 183، وكان ابن القيم الجوزية من العلماء الذين قبلوا تعليل الاحكام والبحث عن الحكمة من ورائها، وأقر بالعجز عن احصاء الآيات والأحاديث التي عللت الاحكام لكثرتها، وقد سمح لنفسه ان يذهب في البحث عن الحكمة شوطاً بعيداً فتساءل عن الحكمة في أداء صلاة الفجر ركعتين في حين ان صلاة الظهر أربع ركعات الخ... الثانية: أخذه بمقاصد الشريعة واعتباره ان الله أرسل الانبياء وأنزل الشرائع لتحقيق مصالح العباد، وقد جاء هذا التطور على يد أبي اسحاق الشاطبي تتويجاً للمرحلة السابقة، واعتبر الشاطبي ان استقراء آيات الشريعة تبين لنا ان القصد من إنزال الأديان السماوية هو تحقيق خمسة أمور: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ العقل، حفظ المال، واعتبرها من الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس من دونها، واعتبر ان هناك أموراً حاجية تأتي بعد الضروريات في المرتبة لترفع الحرج عن الناس وتيسر سبل العيش كالرخص في العبادات، واعتبر كذلك ان هناك أموراً تحسينية تأتي بعد الحاجية ترجع الى مكارم الاخلاق ومحاسن العادات، فلما ندب الشرع الى الانفاق ندب ان يكون الانفاق من طيب الكسب. ودعا الشاطبي الى ضرورة تسلح المجتهد بعلمين: الأول: العلم باللغة العربية، والثاني: العلم بمقاصد الشريعة، كي يستطيع ان يربط بين الجزئي والكلي في ما يُستفتى فيه. وبعد هذا التوضيح نستطيع ان نقول لقد كانت العلاقة بين النص الثابت والواقع المتغير محلولة في ما سبق من تاريخ الاجتهاد الاسلامي، واذا ادعى بعض الباحثين الآن ان هناك مشكلة بين النص الثابت والواقع المتغير من دون الدخول في النوايا أو الانتماءات الايديولوجية فإننا نقول عليهم ان يثبتوا أحد أمرين أو كليهما: الأول: انه ليست هناك فطرة، وليس هناك جانب ثابت في كيان الانسان، بل داخل الانسان في تغير وتحول مستمرين كالمحيط الخارجي. الثاني: ان يثبوا عدم ملاءمة علم أصول الفقه للاجتهاد في وقتنا الحاضر، وعجزه عن التوفيق بين النص الثابت والواقع المتغير. إن أبرز من قام بجهد في الحقل الثاني الدكتور عادل ضاهر في دراسته التي تناولت النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، والتي جاءت في جريدة "الحياة" بدءاً من العدد 12035 بتاريخ 5 شباط فبراير 1996، والتي رددت عليها في عدد تال، والى ان توجد مثل هذه الدراسات التي تسد هذه الثغرة بشكل علمي وموضوعي فإنه يجب الاستمرار في الاعتماد على علم أصول الفقه، مع الانتباه الى وجود فرصة جيدة لتنميته وبالذات في مجال المقاصد بحيث تتسع قدرة المجتهدين على المواءمة بين النص الثابت والواقع المتغير.