كنت كتبت في هذه الزاوية قبل اسبوعين ان اجتماع لندن سيفشل، ثم كتبت متمنياً فشله، لأن "التنازلات المتبادلة" في حال النجاح، ستكون من الجانب الفلسطيني وحده. واكتب اليوم متوقعاً فشل اجتماع واشنطن القادم، هذا إذا عقد. كان يفترض أن يعقد الاجتماع بعد اسبوع، إلا أن أخبار الصحف الاسرائيلية أمس كشفت ان وزيرة الخارجية الأميركية السيدة مادلين اولبرايت لا تمانع في تأخير انعقاده اسبوعاً آخر لتمكين رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو من ترتيب الوضع داخل حكومته للموافقة على المبادرة الأميركية. غير أن "نتانياهو رد بصفاقة انه لن يذهب الى واشنطن، إذا كان هدف الاجتماع فيها الضغط عليه لقبول الانسحاب من 13.1 في المئة من أراضي الضفة. وحليفه الأساسي في الحكومة اريل شارون أعلن رسمياً أنه ضد الانسحاب من هذه النسبة التي لا يريدها نتانياهو أصلاً. وكان نتانياهو رفض ان يقدم الى السيدة اولبرايت في لندن شيئاً سوى شروطه على الفلسطينيين. وعندما عاد الى اسرائيل قال في تصريح على راديو الجيش "اننا نرفض ان يملي أحد علينا، هم لا يستطيعون ان يملوا في قضايا نقررها نحن وحدنا". ونتانياهو مصيب في عناده، فالكونغرس الأميركي كله في جانبه ضد الإدارة. وبعد رسالة 81 عضواً في مجلس الشيوخ رفضت الضغط على اسرائيل الشهر الماضي، وجه رئيس مجلس النواب نيوت غينغريتش رسالة الى الرئيس كلينتون مع اختتام مباحثات لندن حذره فيها من الضغط على اسرائيل. واختار من الرسالة بعض عباراتها، فغينغريتش يقول: أشعر بقوة بأن سلاماً حقيقياً ودائماً في اسرائيل لن يتحقق إلا عن طريق حوار طوعي بين الفرقاء، وليس عن طريق الضغط الخارجي الأميركي. ويجب ان تقرر اسرائيل حاجتها الأمنية وأن تضع شروطها بمعزل عن أي ضغط أميركي... وإذا استخدمت ادارتكم نفوذها لفرض حل من طرف واحد أو لارغام اسرائيل على التفاوض رغم مخاوفها المشروعة إزاء الارهاب، فاننا نلغي أي حافز للسيد عرفات والسلطة الفلسطينية للتفاوض... اسوأ من هذا فالضغط الأميركي سيرسل اشارات خاطئة الى مؤيدي الارهاب هي أن أعمالهم الاجرامية ترغم اسرائيل على تقديم تنازلات. وإذا كان ما سبق لا يكفي فإن غينغريتش، وهو يمثل حضيض الانتهازية السياسية في أي بلد، عقد بعد ذلك مؤتمراً صحافياً اتهم فيه الإدارة الأميركية بابتزاز اسرائيل. ولم يكن غينغريتش يتحدث باسم الغالبية الجمهورية التي يمثلها في مجلس النواب، بل باسم نواب من الحزبين الجمهوري والديموقراطي تسابقوا الى الدفاع عن اسرائيل وتهديد الإدارة، ما يعني أن التسوية مع الفلسطينيين صعبة الى مستحيلة، وما يجعل الحديث عن مفاوضات بعد ذلك مع اللبنانيين والسوريين نوعاً من العبث. الإدارة الأميركية، باستثناء الرئيس كلينتون نفسه، تكاد تقتصر على أعضاء من اليهود الأميركيين في المراكز المعنية بالشرق الأوسط، ومع ذلك فأعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الوقاحة أن يتهموا يهوداً أميركيين بالضغط على اسرائيل أو ابتزازها، ويدافعون عن رئيس وزراء عنصري متطرّف سيقود المنطقة الى حرب جديدة تدفع المصالح الأميركية فيها الثمن. ونتانياهو يعرف كل هذا، وبما أنه محاط بمن هم على شاكلته من المتطرفين أو مجرمي الحرب، فهو لن يسلّم بشيء حتى والذين يطالبونه بالمضي في اتفاقات موقعة هم من المسؤولين اليهود الأميركيين الذين وصلوا الى مناصبهم عن طريق تأييد اسرائيل. في مثل هذا الوضع لا يمكن لمفاوضات واشنطن القادمة إلا أن تفشل، بل أن فشلها رحمة بالعرب، لأن "النجاح" لن يتحقق إلا بتنازلات. وبما أن نتانياهو لن يتنازل، ولا يحتاج أن يتنازل في عقر داره، فإن التنازلات المطلوبة يجب أن تأتي من الجانب الفلسطيني. غير أن هذا الجانب يصنع من الضعف قوة، وأبو عمار لا يبدو في مناخ "تنازلي"، فهو قدم كل ما يستطيع تقديمه، ووصل الى نقطة "عليّ وعلى أعدائي يا رب". ومع ذلك أريد ان اختتم بشيء ايجابي انتزعه من نكد السطور السابقة، فقول الاميركية الاولى هيلاري كلينتون عبر الاقمار الاصطناعية لأطفال عرب واسرائيليين في سويسرا ان قيام دولة فلسطينية ترعى شؤون شعبها مهم للسلام في الشرق الاوسط، أثار أنصار اسرائيل في اميركا وأزعجهم إزعاجاً شديداً. وكانت السيدة كلينتون نجت قبل يومين من توجيه قرار اتهام اليها في فضيحة وايتووتر، وهي قريبة جداً من فكر زوجها، تذكّرني شخصياً بزوجة جيمس بيكر التي اعتادت ان تلصق له على المرآة في الحمّام قصاصات عن أخبار الفلسطينيين وحقوقهم ليقرأها وهو يحلق شعر ذقنه. ولم نسمع ان السيدة كلينتون على هذه الدرجة من الاهتمام، غير ان تصريحها الاخير مهم جداً، وهو استطراد لدعوة "واشنطن بوست" في افتتاحيات عدة ان تؤيد الادارة الاميركية قيام دولة فلسطينية، ومن يعش يَرَ.