المملكة تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية    الإحصاء تنشر إحصاءات استهلاك الطاقة الكهربائية للقطاع السكني لعام 2023م    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    فصل التوائم.. أطفال سفراء    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    ألوان الطيف    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    كلنا يا سيادة الرئيس!    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    القتال على عدة جبهات    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو زيد أسعد أبو العردات الغائب خمسون سنة عن فلسطين : لا نزال هنا في لبنان منذ نزوحنا ... لكن لم يعد احد من اهلي حياً سواي 2
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 1998

كنت أعرف عكا من قبل، وسبق أن زرتها مراراً للتسلية ومشاهدة السينما وللعب كرة القدم. كانت لم تزل محاطة بالسور القديم نفسه الذي بناه الجزار واستعصى اقتحامه على نابليون بونابرت. أفرغتنا العبّارة في الميناء الواقع خارج السور، ومن هناك دخلنا المدينة من بوّابتها التي تقع في أحد جوانبه. في المدينة أخذ النازحون يتوزعون على المساجد. أمي وأخي رزق ذهبا إلى المسجد مع النساء وأولادهن، أمّا أنا فذهبت إلى مقهى في المدينة لم أعد أذكر ان كان الناس يسمونه باسم ما. في هذا المقهى نمت ثلاث ليالٍ على الكرسي، قاعداً، ولا أقوم عنها إلاّ حين يطلع الصباح فأذهب إلى الجامع لأرى ما إذا كانت أمي وأخي بحاجة إلى شيء. بحثنا عن أختي وأخواي فلم نجدهم، واعتقدتُ أنا أن المراكب التي استطاعوا الصعود إليها لا بد أن تكون حملتهم إلى لبنان.
في عكا لم نكن بحاجة إلى مساعدة أحد، إذ كانت أمي أخرجت معها جميع ما نملك من مال، وهو آنذاك نحو 400 جنيه فلسطيني أو ليرة فلسطينية كما كنا نقول أيضاً. وقد وازى الجنيه الفلسطيني آنذاك الجنيه الاسترليني وربما زاد عنه قليلاً. ظلت إقامة أمي وأخي بالمسجد، لكن في "النهارات" كنا نخرج معاً لنتنزه في بستان جعلته البلدية حديقة للعامّة. أمّا طعامنا فلم يختلف عما تقدمه المطاعم الكثيرة الموجودة هناك، والتي تبيع الفلافل والفول والحمص التي كنا نشتريها ملفوفة بالأرغفة.
في أثناء إقامتنا بعكا جعلنا نأكل ونتجول ونمضي "النهارات" كأننا في نزهة أو في رحلة. أذكر من أيام عكا تلك سيرنا أنا وأمي وأخي رزق في الطرق الذاهبة بنا إلى البستان، كما أذكر شوارع المدينة التي أعرفها وكنت أتباهى بمعرفتي بها أمام أمي. كانت تلك نزهة أو رحلة، إذ لم نشك في أن إقامتنا ستطول. أمّا وجهة انتقالنا من عكا، بحسب ما كنا نفكر ونتخيّل، فلم تكن إلاّ وجهة الرجوع إلى حيفا، وربما بالعبّارة ذاتها التي حملتنا إلى هنا. وكان لشعورنا هذا ما يزكيه ويؤكده إذ شاع بيننا في أثناء خروجنا، كما في أثناء إقامتنا بعكا، أن خروجنا من حيفا يمهّد السبيل لدخول القوات العربية التي سيربك اقتحامها وجود العائلات العربية في المدينة. خمسة عشر يوماً على الأكثر، كان يقال لنا. أمّا أمي فلم يظهر عليها القلق الشديد على أختي وأخواي، الضائعين بالنسبة إلينا.
لم نشعر بأي خوف من احتمال اقتحام عكا وسقوطها. أمضينا فيها خمسة عشر يوماً كذّب آخرها توقعاتنا، إذ بدأ آنذاك الاقتحام اليهودي لها. بدأ التقدم في موقعين هما تل الفخار، وهو هضبة مطلة على المدينة، وموقع مركز البوليس الذي أتاه اليهود من الشمال حيث نهاريا التي كانت لهم. بسقوط الموقعين، دبَّ الذعر في أهل المدينة وبدأ بعضهم الفرار من خلال سور المدينة في اتجاه الشرق حيث تنتشر قرى عربية. كان الذين قصدوا الميناء للفرار بحراً قليلين، إذ لم تكن ترسو هناك مراكب كثيرة وعبّارات، كما هي الحال في حيفا. نحن سلكنا طريق البرّ شرقاً ماشين على الأقدام مدة يومين ونصف يوم حتى بلغنا المشيرفة، وهي مركز الحدود البريطاني، وكنا نسميها الناقورة الإنكليزية. كان الجنود البريطانيون ما زالوا معسكرين هناك، في المركز، وسمحوا لنا بعبور الحدود إلى لبنان، سيراً على الأقدام طبعاً. كنا في قافلة طويلة إذ سبقنا أشخاص كثيرون إلى الخروج، كما أن أشخاصاً آخرين لحقوا بنا وكنا نرى بعضهم يتقدمنا على الطريق.
في مركز الحدود اللبناني منعنا الأمن العام اللبناني من العبور، فافترشنا الأرض بالمئات، هناك عند نقطة الحدود، مدة ثلاثة أيام. كنا نشتري ما نحتاج إليه من الدكاكين القائمة في البلدة القريبة التي اسمها الناقورة. في آخر هذه الأيام الثلاثة قدم إلينا صحافي صار يحادثنا ويلتقط صوراً لنا. ثم ما لبثنا أن سمعناه بعد ذلك يرفع صوته برجال الأمن العام قائلاً لهم انه سينشر ما شاهده في الصحف وسيصل كلامه إلى رئيس الجمهورية ]بشارة الخوري آنذاك[ ورئيس الحكومة ]رياض الصلح[. هذا الصحافي اللبناني لم نعرف اسمه قط ولم نعرف لأي صحيفة كان يعمل، وحين رحل من الناقورة كان ما زال على غضبه وتوعّده. لكن حملته تلك أثمرت، إذ في مساء ذلك اليوم قدم جنود من الجيش اللبناني وأذنوا لنا بعبور الحدود، لكن في مجموعات صغيرة لا يزيد عدد أفراد كل منها على عشرة أشخاص.
استأنفنا المسير فعبرنا البيّاضة الواقعة بعد الحدود. لا أعرف كيف تفرّق الناس. خرج الناس تباعاً من الحدود، لكن أنا وأمي وأخي ظللنا نمشي حتى بلغنا مشارف صور بعد نحو يوم ونصف يوم من المسير. هناك، خارج المدينة، توقفنا كي نرتاح قبل الدخول وكنا في مجموعة من نحو ثلاثين شخصاً. كنا أُنهكنا من المشي فاستظلينا ببناء قيد الإنشاء ما لبث صاحبه، واسمه الحاج علي بحسون، أن أتى وسمح لنا بأن نبقى في هذا البناء قدر ما نشاء. كان البناء يعدّ كي يصبح دكاكين، لذلك كانت حُجُراته متلاصقة الواحدة بجانب الأُخرى.
توزعنا الدكاكين، ستة أشخاص أو سبعة أو أكثر في الدكان الواحد. نحن، في حجرتنا، تشاركنا في الإقامة مع الحاج عبدالله أبو داهش، وهو خالي، وقد التقيناه وزوجته وأولاده الخمسة على الطريق قبل وصولنا. في الدكاكين حيث أقمنا لم تكن هناك حمامات ولا مراحيض فكنا نقصد البساتين لقضاء الحاجة، كما كنا نذهب إلى منطقة البص لنجلب ماء بالجرار التي اشتريناها من فاخورة كان موقعها قريباً، كما اشترينا بطانيات وفرشاً وطناجر و"بوابير" للطبخ وأباريق للشاي من المدينة التي صرنا نقصدها لشراء جميع حاجاتنا. بقينا في تلك الدكاكين التي تقفل ليلاً بأبواب الحديد الجرارة فترة ستة أشهر تقريباً. وكان مضى على وجودنا هناك شهران حين أتى من بلّغنا أن أخي أحمد موجود في طرابلس مع زوجته وأولاده، وأخي حسن موجود في صيدا مع زوجته وابنه. أنا وأخي رزق ذهبنا إلى صيدا بعد ذلك بأيام، ثم إلى طرابلس، للقاء أخواي وإبلاغهما أننا مقيمون حيث نحن بالقرب من صور. أمّا أختي حسنية فعرفنا أنها ذهبت مع زوجها إلى دمشق. ذهبت أنا وأخي لزيارتها هناك بعد ان استقرت احوالنا.
في أثناء أشهر إقامتنا الستة بمُلك الحاج علي بحسون ظلت تصلنا الأخبار متواترة عن دخول الجيوش العربية فلسطين. حيناً، كنا نسمع أن الجيش المصري وصل إلى هذه المدينة، نسمع بعد ذلك أن الجيش الأردني حاصر هذه المدينة نفسها. هذا وكنا نفرح دائماً بهذه الأنباء التي، إن داخلها خطأ، قلنا إنه نتيجة إبلاغ الخبر ونقله. الهدنة الأولى التي فرضتها هيئة الأمم أوقفت تقدم الجيوش العربية، لكن حين اندلع القتال من جديد تقدم اليهود وأسقطوا الجليل واللد ومدناً وقرى كثيرة أُخرى. وحين بدأ التفاوض في جزيرة رودس للهدنة الثانية فقدنا الأمل بالعودة، وقلنا إننا سنبقى خارج فلسطين.
رافق معرفتنا هذه بطول بقائنا نفاد ما كان معنا من أموال. أنا لم أجد عملاً في صور، كذلك أخواي أحمد وحسن لم يجدا عملاً في صيدا وطرابلس. كانت الحكومة اللبنانية، بعد نحو سبعة أشهر من وصولنا، قد وزّعت علينا طحيناً ونقوداً بلغت ثلاث ليرات لبنانية أو أربعاً للشخص الواحد. عقب مبادرة الحكومة اللبنانية، جاءت مبادرة من الصليب الأحمر الدولي الذي ظلّ مدة تقل قليلاً عن السنة يوزّع علينا حصصاً من الطحين والسكر والرز والزيت والجبن. كما وزع علينا بطانيات أيضاً في مطلع مبادرته تلك. تلك الثياب كنا نشتريها من صور التي كنا نرى في أسواقها فلسطينيين كثيرين.
انتقلنا من الدكاكين بعد ستة أشهر، إذ أتانا الحاج علي بحسون، رحمه الله، وقال لنا معتذراً أنه يريد اكمال البناء. وكي لا يتركنا من دون مأوى بنى لكل عائلة منّا، على نفقته، برّاكية من ألواح الزنك أقيمت على أرض مشاع في جوار أرضه. هناك، بعد ستة أشهر من انتقالنا إلى البراكيات، تمكنت من الحصول على عمل. كان ذلك في البساتين التي كنت أقف فيها حاملاً رفشي وأمامي كومة الزبل العالية أملأ منها القفف التي تتتالى أمامي لتحملها البنات بعد ذلك على رؤوسهن. كانت البنات العاملات جميعهن فلسطينيات. أمّا أجر الواحدة منهن فليرة لبنانية كل يوم. أنا أيضاً كنت أتقاضى الأجر ذاته. كانت الليرة، إضافة إلى المواد التي بدأت أونروا توزيعها علينا، تقيتنا. في تلك الأيام كان سعر أوقية اللحم، كما أذكر، أربعين قرشاً، أي ما يساوي خُمسي أجري اليومي.
في الشغل كان صاحب المشروع أو الملتزم يشير علينا في نهاية كل يوم أين يجب أن نتجمّع غداً، أي أن كلاً منا لم يكن ضامناً عودته إلى شغله في اليوم التالي. ثم إن موسم تسميد الأرض، وهذا ما كنا نشتغل به، لا يطول كثيراً وربما سيكون علينا الانتظار شهوراً قبل أن يحين موسم القطاف الذي قد نعمل فيه أيضاً. كان ذلك متعباً ومتقطعاً لجميع من عملوا فيه. لكن، على الرغم من ذلك، توجه أكثر فلسطينيي المخيمات إلى العمل في البساتين. عند مجيئنا، وفي فترة إقامتنا الأولى، أذكر أن الأرض كانت تزرع بزراعات موسمية مثل زراعة الخضار وغيرها. مع مجيء الفلسطينيين انتشرت عدوى البستنة بين أصحاب الأراضي فتحسن أجر العامل من جراء ذلك إلى ثلاث ليرات يومياً. لكن هذه الليرات الثلاث سريعاً ما انخفضت قيمتها وصارت، كما كانت الليرة الواحدة من قبل، لا تكفي قوتاً من دون حصة أونروا التي تسندها.
كان الفلسطينيون الذين أقاموا في المخيمات بعد نزوحهم هم الأقل حظاً من سواهم. فمنذ مجيئهم كان وجودهم كثيفاً، وهم انتشروا في مخيمات أحاطت بصور، مثل مخيم البص والرشيدية والبرج الشمالي والقاسمية والبرغلية وشبريحا. معظم سكان المخيمات هؤلاء قدم من قرى الجليل القريبة من لبنان الذي كان بعضهم يعرفه، أو يعرف تلك المنطقة الجنوبية منه، بسبب الجوار. وكان مخيما البص والرشيدية قد أقيما قبل مجيء الفلسطينيين، إذ كان يقيم فيها لاجئون من الأرمن بنت الحكومة الفرنسية لهم تلك الغرف، غرفة لكل عائلة.
الفلسطينيون في المخيمات عملوا في البساتين وما زالوا، أو ما زال أكثرهم، يعملون فيها إلى الآن. هذه الأعوام الخمسون التي أمضوها في لبنان لم تفلح في تغيير أوضاعهم وتحسينها. ما زالوا كما كانوا، محاطين بحدود المخيمات التي يسكنونها. كما أن المخيمات نفسها ظلت كما هي لأن الدولة اللبنانية تمنع إدخال مواد البناء إلى المخيمات. دائماً كان يقال إن هذا التدبير المتواصل غايته إبقاء سكان المخيمات في وضع العيش الموقت كي يشعروا بأنهم ينتمون إلى هناك لا إلى هنا.
إن الفلسطينيين الذين نزحوا إلى المخيمات هم الأقل حظاً، إذ يطبق عليهم ذلك المبدأ كاملاً غير منقوص. والذين تمكنوا من تعليم أولادهم أعطوا هؤلاء الأبناء فرصة الخروج، لكنه الخروج البعيد، إلى خارج لبنان، ما دامت فرص العمل محظورة على الفلسطينيين جميعهم. هؤلاء الأبناء كان عليهم ان يعملوا في دول الخليج، مثلاً، من أجل إعالة أهلهم الباقين في قيد الحياة" ذلك بأن أونروا، بعد خدماتها التي استمرت نحو أربعين عاماً، قطعت إعاشاتها وقصرتها على المحتاجين الذين لا معيل لهم.
حظّي أنا كان أفضل من حظ من أقاموا في المخيمات. في سنة 1954، نزعنا "الزنكو" وبنينا غرفتنا باللبن وهو الطين الممزوج بالتبن. بعد فترة انضم إلينا أخي حسن قادماً من صيدا وبنى له ولعائلته غرفة في جوارنا. كما بنينا مرحاضاً لغرفتنا. ساعدتنا وكالة أونروا في البناء وقدمت لنا أخشاباً وألواح زنكو جديدة جعلناها سطوحاً لغرفنا.
كما أننا تزودنا المياه التي أخذت تصلنا من الشركة لقاء اشتراك سنوي ندفعه. أمّا الكهرباء فوصلتنا عندما تولّت الدولة أمرها من صاحبها في صور، وهو من آل منسى، وكان أقام مولِّده الضخم بالقرب من المدرسة الجعفرية قريباً من الآثار.
بعد العمل في البساتين، الذي لم تطل مدته في أية حال، اشتغلت مع صياد بجرِّ الجاروفة من الماء. كان الأجر يتراوح بين لا شيء وبين ما يصل إلى الليرتين أو حتى الثلاث بحسب ما يجود البحر به على الصياد. إنْ سُئلت عن المهنة التي عملت فيها خلال إقامتي بلبنان أقول صيد السمك الذي بقيت أعمل فيه حتى سنة 1967، أي حين صار عمري سبعة وثلاثين عاماً.
في أثناء ذلك، سنة 1960، تزوجت من فايزة كامل عبدالرحمن، وهي من منطقة الزيب ومقيمة مع أهلها بمخيم البص القريب. أقمنا بالغرفة الصغيرة التي بنيناها باللبِن وأنجبنا تسعة أولاد أتبعناهم باثنين ولدا في صيدا في الغرفتين اللتين استأجرتهما بالقرب من الميناء.
خلال عملي في صيد السمك تعرفت إلى لبنانيين كثيرين، وعاملوني كأنني واحد منهم، لا في أوقات الصيد فقط، بل أيضاً في أوقات الراحة والتسلية حين كنا نجتمع في المقاهي القريبة من رصيف الميناء. لكن هنا، أيضاً، كان يجب أن يُحفظ للبنانيين نوع من الحق يتميزون به. حين كنت في صور كنا، كي يتاح لنا نزول البحر، نأخذ إجازة صيد موقتة من القاعدة البحرية التي أقامها الجيش اللبناني هناك. وعندما سعينا لأن تكون هذه الإجازة بمثابة تصريح لا وجوب لختمه كل مدة، أحدث هذا الأمر جدالاً بيننا وبين الصيادين اللبنانيين زملائنا الذين كانوا يريدون أن نعمل معهم، لكن من دون إجازة. كان يجب أن يأتي أحد يقنع النقابة بالموافقة على منحنا الإجازة" هذا الرجل كان ضابطاً كبيراً هو جميل الحسامي، وكان قائداً لمنطقة الجنوب، وقد سعى معنا لنحصل على الإجازة.
انتسبت إلى حركة فتح منذ قيامها سنة 1965. حتى ذلك التاريخ بقيت أعتقد ان انتصار اليهود علينا كان بسبب أخطاء ارتكبناها نحن، وأن الأمور ربما تعود إلى سويتها إن جرى تلافي هذه الأخطاء. ثم إننا نعلم أن اليهود يُرهَقون أمام الضغط الذي قد يأتيهم جرّاء العمليات العسكرية. عملتُ عسكرياً في فتح وكنت تابعاً للقطاع الغربي، وأقوم بعمليات عسكرية تحت إشرافه وتنظيمه. في نهاية سنة 1967، شاركت في عملية ضرب المصفاة في حيفا، مدينتي، كما شاركت في عمليات أخرى، اعترضتنا الزوارق الإسرائيلية في إحداها فضربناها ب الآر.بي.جي من قاربي الصيد اللذين كانا وسيلتنا للوصول إلى الأرض المحتلة. بعد إطلاق النار علينا أُصيب أحد القاربين وغاص في الماء، والمقاتلان اللذان كانا على متنه، أحدهما من آل عطية من البص والآخر اسمه حمادة القر، كادا يغرقان إذ إنهما لا يجيدان السباحة، فنزلت إليهما لإنقاذهما. الرجلان توفيا الآن، أولهما بعد عملية الزوارق بعامين حين انفجرت فيه رزمة ديناميت كان يعدّها لصيد السمك، والثاني توفي سنة 1996 بانفجار صاروخ كان يفككه في مخيم عين الحلوة.
مع مجيء المقاومة تحسنت أوضاع الفلسطينيين في لبنان، إذ أنها أمنت عملاً لكثيرين منهم في قواتها وأجهزتها المتعددة. أنا تفرّغت للعمل معها، تاركاً الصيد، منذ سنة 1967، أي قبل حلولها بلبنان، وتدرجت في العمل العسكري حتى صرت نقيباً في قواتها. وهي، المقاومة، قوّت معنويات الفلسطينيين وخصوصاً بعد مجيئها إلى لبنان سنة 1969، فصارت المخيمات معها حصوناً قوية بعد أن كانت مأوى للاجئين ضعفاء. صار وجودها يشكل أملاً بالعودة، لكن أيضاً قوة تحمي الفلسطينيين في الوقت الذي يسبق أوان العودة. ذلك، طبعاً، انتهى كله بخروج المقاومة من لبنان، إذ عادت الحال إلى ما كانت عليه سابقاً، من دون أي تغيير. بل ان الأحوال، بحسب ظني، تغيرت نحو الأسوأ إذ لو استمر الزمن بنا، كما كان سنة 1969، فلربما قطعنا مسافة عن تلك البداية التي ابتدأناها في سنة 1948.
بعد رحيل المقاومة كان على الفلسطينيين أن يبدأوا بداية جديدة بعد مضي أعوام القوة الثلاثة عشر. الآن أعتبر نفسي متقاعداً من عملي في المقاومة، الذي أتقاضى منه تعويضاً شهرياً هو 130 دولاراً أعيل به خمسة أولاد ما زالوا مقيمين معي بالبيت الذي انتقلنا إليه في صيدا القديمة. ان البيت قديم، مبني منذ مئات الأعوام وقد هجره سكانه، مع سكان بيوت صيدا القديمة الأُخرى. كي نقيم فيه نحن.
أعيش في بيت بحارة الكشك في صيدا القديمة في حال من الاكتفاء الذي هو تحت خطّ الفقر. لديّ ولد في كندا يساعدني بين وقت وآخر. من أهلي وإخوتي الذين نزحت معهم عن فلسطين لم يبق أحد حيّاً سواي. أبي مات هناك كما قلت، قبل قرار التقسيم، ودفنّاه في مقبرة "بلد الشيخ" وهي بلدة تقع شرقي حيفا، كان أهل المدينة يدفنون موتاهم فيها إذ لم تعد مدافنها تتسع لموتى جدد. الوالدة توفيت سنة 1982 عن نحو 85 عاماً. أخي حسن توفي سنة 1983، بعد أمي بعام، وكان مقيماً بوادي الزينة ولم ينجب إلاّ ابناً واحداً يعمل الآن مدرساً في السعودية. أخي أحمد الذي كان في طرابلس توفي فيها سنة 1986. أخي رزق، الصغير، توفي في آخر تلك السنة نفسها، وقد عانى كثيراً في حياته إذ صدمته سيارة على طريق البص الزمته القعود سبعة أعوام ظلّ بعدها ضعيفاً وفقيراً. أختي حسنية التي سلكت مع زوجها، سنة النزوح، الطريق الذي أخذتها إلى دمشق، توفيت هناك سنة 1983 بينما كنت معتقلاً، أنا وابن زيد، في معتقل أنصار، وهي لم تنجب أولاداً.
لم يعد أحد من أهلي حياً سواي. في سنة 1995، توفيت زوجتي أيضاً وأنا أعيش مع أولادي الخمسة، الباقين عندي، من دونها. الآن أعتقد أن لا مجال لرجوعنا إلى فلسطين. لا أقصد جيلي، طبعاً، لكن أقصد أولادي وأولاد أخواي الذين لم يعش أحد منهم فيها. الآن هم متوزعون بين كندا والسعودية والخليج في إقامات موقتة - لا أعرف إن كان يجب أن استثني المقيمين في كندا - في انتظار العودة، الموقتة أيضاً، إلى لبنان.
أعتقد أن لا مجال لرجوعنا إلى فلسطين. بعد موتي أنا، وموت الرجال الكبار الذين التقيهم هنا في صيدا، لن يتذكر أحد ماذا هناك في حيفا أو في مدن فلسطين الأُخرى. الحاجّة جميلة الخطيب التي كانت مقيمة في صيدا ذهبت إلى فلسطين في آخر الستينات بعد أن أُعطيت تصريحاً. قالت بعد عودتها أنها شاهدت بيتنا موجوداً لكنه متروك مهمل. قبل موتها في الثمانينات، ذهبت مرة ثانية، وقالت بعد عودتها إن بيتنا لم يعد موجوداً. لقد أزالوه. ما زلت إلى الآن محتفظاً بسند البيع بالنسختين العربية والعبرية اللتين بموجبهما انتقلت ملكية الأرض من أبراهام خلفون إلى أبي. كذلك ما زلت محتفظاً بخريطة بنائه وبإيصالات الضرائب التي كان يدفعها والدي إلى البلدية كل سنة حتى سنة 1947" السنة التي سبقت نزوحنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.