قبل غزو العالم ومراقبته، تأكدت فعالية وسائل الاتصال الأميركية وقدرتها على التحكم في الرأي العام عبر نجاح بيل كلينتون في تخطي مختلف العقبات التي كانت تريد تشويش صورته في المجتمع الأميركي. في هذا المجتمع الذي يتبجج ب "اخلاقيته" ظهر الرئيس كرجل مراوغ، غير مستقيم، تلاحقه الفضائح المالية والجنسية. ورغم كل هذه المساوئ، استطاع كلينتون التربع على المرتبة الأولى في قلوب الأميركيين و... البقاء. شعبيته في الاستقصاءات ما زالت لا مثيل لها في التاريخ الأميركي الحديث. وسرّ هذا النجاح، استراتيجية اعلامية تلجأ تارة إلى التعتيم والصمت، وطوراً إلى شن الهجوم المضاد، وخصوصاً وجود وضع اقتصادي يخوله اتخاذ اجراءات اجتماعية - اقتصادية تثبت وضع الانتعاش الذي يشهده حالياً المجتمع الأميركي. هذا الانتعاش هو أيضاً مرتبط، خصوصاً بعد زوال الاتحاد السوفياتي، بقدرة الولاياتالمتحدة على السيطرة على العالم عبر وسائل الاتصال التي تراقب اليوم تحركات الدول وأسرارها. الاقتراحات الأميركية حول التعامل مع انترنت وتنويع مراكزه وتنويع الحركة الاقتصادية الناتجة عنها، أدت للمرة الأولى إلى تصدي دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة لها بشكل جدي. حتى بريطانيا، التي تحظى في هذا المجال بصداقة أميركية تاريخية وتعامل مفضل، لم تستطع الخروج عن الاجماع الأوروبي، فطالبت الولاياتالمتحدة بتعامل مع شبكة انترنت يأخذ في الاعتبار مطالب دول العالم كافة. "الكتاب الأخضر" الذي أصدرته الإدارة الأميركية حول كيفية ارساء شروط التعامل مع انترنت ظهر كمحاولة أميركية للسيطرة على شبكة هي في مفهومها دولية. ف "الكتاب الأخضر" يفرض على العالم القوانين الأميركية في ما يخص حقوق النشر أو نظام تخصيص المراكز الحساسة أو فكرة اخراج مراكز انترنت من الضرائب والرسوم المالية. عولمة انترنت وتخصيصها يبدوان اليوم كمشروع أميركي آخر لمراقبة القارات. وهذه المراقبة لم تعد سراً لأحد، وعدد من الدراسات والكتب وحتى شبكة على انترنت تخبرنا اليوم كيف تقوم الولاياتالمتحدة بمعرفة أسرار الدول وأسرار مواطنيها أيضاً. بيد ان التقرير الرسمي للاتحاد الأوروبي حول الموضوع الذي صدر في كانون الأول ديسمبر الماضي اعطى اثباتات جديدة لها كان يظهر كمجرد اشاعات وهمية. الولاياتالمتحدة، بريطانيا، كندا، نيوزيلاندا واستراليا تراقب اليوم، عبر الساتلايت "انتلسات" وجهاز التجسس الأميركي "ايشلون" المكالمات العالمية عبر التلفون، البريد الالكتروني، انترنت، الفاكس والتيليكس. الاتحاد الأوروبي يقوم حالياً بدراسة تأثير نتاج "ايشلون" على الحريات العامة كما على الحياة الاقتصادية. فهذا الجهاز يستطيع ان يحلل حتى مليوني مخابرة في الدقيقة الواحدة. غير ان بداية "ايشلون" كما كانت بداية انترنت خلال الحرب الباردة، كانت لأغراض عسكرية بحتة: مراقبة التطورات الحربية في الاتحاد السوفياتي. نهاية مرحلة الحرب الباردة وجهت هذه الشبكات العسكرية إلى عالم التجسس الاقتصادي ومراقبة حريات مواطني العالم وذلك باسم... الحرية. ل "ايشلون" ست قواعد أرضية في العالم، اثنتان منها في بريطانيا. هذه القواعد توجه يومياً معلوماتها إلى وكالة الأمن الأميركية NSA. فالمعلومات الملتقطة في هذه القواعد هي وليدة نشاط المخابرات وما تلتقطه في العالم عبر خمسة وعشرين ساتلايت "انتلسات"، كما عبر شبكة التجسس الساتلايتية "فورتكس". تحليل هذه البلايين من المخابرات يصبح معقولاً في فترة زمنية قصيرة عبر اختيار مجرد كلمة، كلما ذكرت عبر المكالمة، تلتقطها أجهزة الكومبيوتر وتحلل الجُمل التي تدور حولها. وحصيلة التحاليل تعود إلى المركز الأميركي الذي يقرر ماذا سيوزع على حلفائه الأربعة وماذا سيحفظ من أسرار للإدارة الأميركية. بالطبع معظم هذه الأسرار يدخل الآن في زاوية التجسس الاقتصادي، بيد أن هذا لم يمنع الإدارة الأميركية من مراقبة مواطنين عاديين أو حتى منظمات تعنى بالبيئة أو بحقوق الإنسان. في سنة 1994، التنصت على مخابرات الشركات الفرنسية سمح لشركة "مكدونل دوغلاس" الأميركية باختطاف صفقة طائرات نقل من زميلتها "ايرباص" الفرنسية، وذلك عبر تقديم تسهيلات أفضل من التي اقترحها الفرنسيون على زبائنهم. وكالة NSA غدت أهم من وكالة الاستخبارات الأميركية "سي. اي. اي" في موازنتها، كما في عدد موظفيها. مئتا ألف موظف في الولاياتالمتحدة وآلاف العاملين في العالم يسعون كل يوم إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية الأميركية عبر وسائل الاتصال والتجسس. ما جرى مع شركة "ايرباص" أعيد تكراره مع شركة "طومسن سي اس اف" الفرنسية التي خسرت أيضاً صفقة بيع رادارات للبرازيل لمصلحة شركة "رايتيون" الأميركية. كذلك فإن شركة ATT الأميركية نجحت في أن تسحب من اليابانيين عقد تجديد شبكة الهاتف في ماليزيا... هذا التجسس الذي يجري من دون أي عقاب هو ما يحمل اليوم الأوروبيين على بناء شبكة خاصة لهم لمراقبة المكالمات الدولية، ولكن بإشراف ومساعدة... ال FBI الأميركي! إلا أن للسيطرة الأميركية بعض الانتكاسات، فمهما عظم شأن دولة ما، لا يمكنها معرفة خبايا العالم كافة وبسط نفوذ لا ثغرات فيه. الخبر الغريب آت من كوبا: خلال حرب الخليج استطاع الاتحاد السوفياتي عبر مركز التجسس الالكتروني في كوبا معرفة التحركات الأميركية كافة، وحتى الخطط المتوقعة. لم تعلم الإدارة الأميركية بهذا المركز إلا بعد ان طلب أحد المسؤولين الروس حق اللجوء إلى الولاياتالمتحدة! هذا المركز لم يغلق أبوابه بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وفيديل كاسترو يطالب اليوم الحكومة الروسية بدفع ايجار جديد مقداره بليون دولار سنوياً، ستقوم موسكو بتسديده عبر ارسال نفط و... معدات حربية.