لنحاول البداية مباشرة من بؤرة الحدث التجسّسي الأبرز في عالمنا الواقعي، وهو مُركّب من افتراضي وفعليّ في آن: هناك عين هائلة تراقب الجميع وتخترق حيوات الناس كلها. يتعلّق الأمر بمؤسسة استخباراتية أميركية مرهوبة الجانب، «وكالة الأمن القومي»، بل أن صورتها بوصفها المستوى الأعلى في مجتمع وكالات الاستخبارات الأميركية، هي جزء من رهبة خفائها وسطوتها التي يزيد الخفاء والصمت قوّتها وتعقيدها. عقب أيام على تفجير «بوسطن»، زُوِّدت «وكالة الأمن القومي» بأمر رئاسي سري للحصول على معلومات شركة «فريزون» للاتّصالات اللاسلكيّة عن 98.9 مليون مشترك، ثم شمل الأمر شركتي «إيه تي أند تي» (107 ملايين شخص) و «سبرنت» (55 مليوناً)، ما يعني وضع حوالى 260 مليون شخص تحت الرقابة، في بلد يبلغ تعداد سكانه 350 مليوناً! ردّ الجمهور الأميركي بتغريدات تسخر من شعار لشركات الاتّصالات يقول: «هل تسمعني الآن»؟ إنها الصورة التي رسمها الروائي الأميركي جورج أورويل في رواية «1984» عن زعيم مسيطر هو «الأخ الأكبر» الذي يراقب الجميع، عبر شاشات لا تنطفئ. يُعرف عن «وكالة الأمن القومي» أنها تدير برنامج «إيشلون» للرقابة على كل أنواع الاتّصالات الهاتفية واللاسلكية (راديو، تلفزيون، برقيات، فاكس، مكالمات دوليّة بالميكرويف...) على امتداد الكرة الأرضيّة. إذ يستند «إيشلون» إلى مجموعة من الرادارات المتطوّرة العملاقة، وهي مترابطة مع شبكة أقمار إصطناعيّة خصّصتها الوكالة للتنصت على الاتّصالات عالميّاً (تضمّ قبرص مثلاً، أحد الرادارات الأساسيّة في مشروع «إيشلون»، ويتزامن الأمر مع فتح ملف حقول الغاز في شرق المتوسّط). كيف يعمل برنامج «بريزم»؟ ترجمة كلمة «بريزم» هي الموشور الذي يرشح الضوء ويكسّره الى موجات وألوان طيف. وربما تشي الصورة بفكرة عن عمل «بريزم»: حتى لو كانت المعلومات المطلوبة مراقبتها متدفقة كضوء الشمس، يمكن اعتراضها وترشيحها وتصنيفها. وإلى الآن، ليس من معلومات محدّدة عن «بريزم»، بل أن الاتحاد الأوروبي يضغط علناً على الرئيس باراك أوباما للحصول على التفاصيل. ويبدو أن «بريزم» يمتلك مواصفات تقنيّة تشبه برنامج «كارنيفور» (الاسم مقتبس من عوالم الديناصور) الذي أُطلِق عقب هجمات 11 ايلول (سبتمبر). واشتهر «كارنيفور» بين المستخدمين وبريدهم الإلكتروني، إذ «يتشمّمهم» بحثاً عن كلمات مفتاحية من نوع «بن لادن»، «متفجرات»، «ضربات»، «مكمن» و «كُفّار» وغيرها. حينها، زُوّد «كارنيفور» قدرة الدخول الى أي بريد إلكتروني، من دون موافقة المستخدم، بل من دون عِلمه أيضاً. ويحوز «بريزم» كل قدرات «كارنيفور»، ويجمع إليها تقنية للرقابة على الشبكات الإجتماعية وصفحاتها وتغريداتها وأشرطتها، إضافة الى الربط مع المعلومات التي تأتي برامج مثل «إيشلون»! يمتلك هذا العملاق المتجسّس يداً اخرى هائلة إسمها «باوندليس إنفورمانت». بالرجوع الى القاموس، يعني اسم البرنامج «مُخبِر منفلِت» أو «مُخبِر بلا حدود». يتعامل ال «مُخبِر» مع المعلومات التي تتصل بالمكالمات (المتّصل، جهة الاتصال، مدّة المكالمة)، بمعنى أنها تحدّد جهاتها وزمانها. وينطبق وصف مماثل على قدرة «المُخبِر» على التعامل مع التواصل عبر الشبكات الاجتماعيّة. بذلك، تُنسَج شبكة من المعلومات التي يجري التدقيق في تراكيبها، وعند «الاشتباه» بنمط من التواصل، يمكن الدخول الى المحتوى الذي تضمّنه التواصل، عبر الشبكات الاجتماعية أو البريد الالكتروني، بل يستطيع «بريزم» الوصول إلى المكالمات، إذا لزم الأمر.