لا يكتم رؤساء الجمهورية اللبنانية الثانية رغبتهم في إنصاف "التاريخ" ولايتهم، المجددة أو الممددة، وسجل أعمالهم وأفعالهم. فهم، شأن عامة الناس، يرغبون في الخلود على الدهر، وفي بقاء الأحدوثة عليه. فإذا تواضع السيد إلياس الهراوي، وهو بعد ثمانية أعوام ونصف العام رئيس الجمهورية العتيدة الأوحد، لربه قال: "إن التاريخ يمكن أن ينصفني أو ]يمكن أن[ لا ]ينصفني[". ودعا إلى المباهلة، أو ما يشبهها، فقال: "فإذا كنت عامل خير كان خيراً، وإذا كنت عامل ويل أتمنى أن أصاب بكل ما يتمنونه لي". لكن السيد الهراوي، يستبق حكم التاريخ، ويُسلم هذا الحكم إلى الخالق: "فأنا اعتبرت أن الله سماني الياس حتى وفقت ]صالحت[ اللبنانيين مع بعضهم البعض، وأنقذت لبنان". وفي ختام هذه الجملة التي كانت صحيفة "النهار" اللبنانية رفعتها عنواناً أول، بحرف عريض وغليظ، ودعت القراء، وأولهم "أهل" السياسة، إلى النظر فيها، كتب محاورو السيد الهراوي الخمسة من محرري الصحيفة: "ضحك". وترسم "ضحك" هذه صورة "منقذ" لبنان على حقيقتها، المضحكة أو الأليمة، أو المضحكة والأليمة معاً على حسب القارئ وهواه. فالرئاسة البنانية، وينبغي إتباعها بالأولى تمييزاً لها من رئاسات ونيابات رئاسات تناسلت كالأرانب في العهد العروبي، تترجح بين وهم "الإنقاذ"، من طريق القبول بشروط أهل القوة والاستيلاء على الخاسرين في حروب أكرهوا عليها وتحامقوا فنسبوها إلى أنفسهم، وبين "الإضحاك"، شأن من يرتدي زياً ليس على مقاسه. وحصاد الرئاسة وولايتها، على ما يصنع السيد الهراوي، الأطول ولاية منذ بشارة الخوري، مزيج من معنيين من معاني القَدَرية: معنى التسليم والانصياع "مرة واحدة انتخب لبنان رئيس جمهوريته ونجح بصوت واحد" والباقون "انتخبتهم" قوة أجنبية" ومعنى الإقدام والبطولة "... الله سماني الياس...". فالرؤساء الأوائل، وهم مسيحيون موارنة إلى اليوم وفي الآتي المنظور، والمرشحون إلى الرئاسة الأولى، يريدون التوفيق بين الإقرار بواقعة النفوذ الأجنبي، فهم ليسوا رؤساء إلا بواسطته ومن طريقه، وبين مزاعمهم في دور يضطلعون به وينفردون، وينسبون إليه اختيارهم هم، دون كثيرين لا يحصون، رؤساء. فينكبُّ المرشحون، ويسميهم اللبنانيون المسترئسين، على نحت تمثال لأنفسهم يجمع الضدين: الامتثال لإرادة المرئِّس، أو المرئسين إذا كانوا جمعاً، وتتويج عمر كامل من الصبوة لدور تاريخي ومن الإعداد له. ولا يقلق "التناقض" لا الرئيس، المتكلم بلسان رئيس سابق وهو ما زال يلي الأحكام ويرئس مجلس الوزراء و"يحضره"، على نحو ما لا يقلق المرشح الثابت إلى المنصب. ويسمي السيد الهراوي حال الرئيس والمرشح جميعاً هذه: "بين القصة العاطفية والقصة الواقعية في البلد". فإذا سئل عن ترشيح السيد سليمان فرنجية - الزعيم الماروني الشمالي، وصديق "بيت الأسد" على نحو تعريفه نفسه وربما دوره، ووزير الصحة ظرفياً - العماد إميل لحود، قائد الجيش اللبناني منذ قبل ابتداء رئاسة السيد الهراوي، ثم ترشيحه بعده السيد جان عبيد، وزير التربية منذ خريف 1996، أجاب على المثال المتناقض نفسه: "أنا ليس لدي صوت" ]مقترع[، "ولا أريد أن أستبق". وكانت الواحدة تغني عن الأخرى. وأجاب: "عال"، أي لا بأس بالترشيح، وزاد: "ومدح ]السيد فرنجية[ نسيب لحود ]نائب المتن الشمالي المعارض والمرشح للرئاسة[ وقال إنه سيعمل له جلسة فحص ضحك". وهذه كذلك تجمع الإقرار بصفة المرشِّح، وبقوته، إلى الإزراء بالمرشَّح والإضحاك منه. وهي من ثمار الحال التي انتهت إليها السياسة اللبنانية، ولم تكن عليها على رغم طمأنة معظم السياسيين اللبنانيين أنفسهم بإلقاء التبعة عن هذه الحال على عاتق قدر لبناني "سورية ليست طارئة عابرة بل ثابتة على الحدود، وفي التاريخ والجغرافيا والمصالح والأحساب والأنساب..."، على قول السيد جان عبيد. فعلى نحو ما دان السيد الهراوي بتمديد ولايته، قبل سنتين ونصف السنة تقريباً، لشطر من جملة جاء في تصريح أدلى به الرئيس السوري، السيد حافظ الأسد، إلى صحيفة "الأهرام" وعلم النواب اللبنانيون من هذا الشطر أنهم يختارون إبقاء السيد الهراوي حيث هو، قد يدين السيد جان عبيد بالرئاسة الأولى إلى قول أدلى به السيد فرنجية إلى تلفزيون القاهرة، في 21 نيسان أبريل، وفهم بعض مراقبي السياسة اللبنانية، أو هذا الوجه الغالب اليوم منها، أن قول الوزير "وليد تخطيط مدروس وليس مصادفة". بل هو "ذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه وزير الدفاع السوري العماد ]أول[ مصطفى طلاس في امتداحه، من منطقة نفوذ فرنجية، قائد الجيش العماد إميل لحود". وهكذا يقرأ رؤساء الجمهورية علامات طالعهم في كهانة الكهان، وزجر الزاجرين، وقيافة القافة، ورمي الأزلام والسهام وخروجها. وعلى هذا قد يكون طالع السيد جان عبيد فألاً ويمناً، وإن كانت الريح تهب شآماً وتتشاءم، على قول العرب الواقعين بين ريح متيامنة، تهب من اليمن عن يمينهم وهم يستقبلون الشمس الطالعة، وريح تهب من الشمال. والحق أنها ليست المرة الأولى التي يتفاءل فيها السيد عبيد خيراً. بل زعم الخبر، وأهله، أن الرجل أعد العدة لقدره الواعد، والموعود، منذ ربيع عام 1976 الميمون، يوم خلف الياس سركيس سليمان فرنجية تحت حمم السيد ياسر عرفات القليلة والممسِكة. فيومها، على زعم أهل الخبر إياهم، اشترى الصحافي السابق وصهر قائد الجيش اللبناني الأسبق و"ابن المجهول بدوي عبيد" فيصل سلمان، من "السفير"، سيارة رولز رويس، أو بِنْتلي، جديدة، وعلق عليها لوحة معدنية من ثلاثة أرقام، تدل على العراقة والمكانة وتقرِّب من الرقم واحد، أو من إغفال الرقم البتة، ومن القرينة على صدارة ما بعدها صدارة. واشترى المرشح الخفي على أعين العامة، والظاهر لأعين أهل العلم، اللوحة الفأل باثني عشر ألف ليرة لبنانية، أي ما كان يساوي أجور سبعين شهراً يتقاضاها عامل "ثابت" في عمله. وقيل، والأرجح أن القول صادق، أن السيد عبيد، ولم يكن يومها لا نائباً ولا وزيراً ولا منصباً معروفاً من "المناصب"، عاد في خريف عام 1989، من باريس، حيث يرعى موطئ قدم عوض مربط خيل، في طائرة السيد رفيق الحريري، المعاون على صناعة الرؤساء اللبنانيين في الجمهورية الثانية، رئيساً أو كالرئيس. فحظي بالمنصب رينيه معوض، الرئيس القتيل الذي لم يقلق مقتله أناساً كثيرين، قبل أن يفضي الأمر إلى السيد الياس الهراوي، وينقاد له. ولا يغفل من لا يرى غضاضة في تسمية نفسه "مرشَّح الوزير فرنجية الذي انتهت إليه زعامة آل فرنجية" "العمل"، في 22 كانون الثاني / يناير 1995، عن إذاعة "صوت لبنان" عن أن الإقامة على حال المرشح الدائم والوفير الحظ قد لا تنتهي بصاحبها، والمقيم على الحال هذه "عمره" كله، إلى "تحقيق تغيُّر الظروف لصالحه"، أي إلى الرئاسة. ولا يخفى ما في هذا الرأي من إقرار برجحان الظروف، وتغيرها، في ميزان الرئاسة المأمولة والفوز بها. وهذا إقرار يلازم المسترئس اللبناني في حله وترحاله. وحرص المرشَّح جان عبيد، أو مرشَّح المرشِّح المأذون، على أن يكون دوماً أهلاً لانتخاب الظروف المتغيِّرة، واقتراعها لصالحه، ودمجها "القصة العاطفية والقصة الواقعية" في رجل واحد هو السيد عبيد. فهو ينسج قصته العاطفية، وأخباره العائلية والنضالية، والاجتماعية السياسية معاً، على قصد مؤاتاتها القصة الواقعية، أي مؤاتاة "الرصيد ... عند المسلمين و... عند الأطراف العربية المتصلة في لبنان"، على ما قال بشيء من الخفر إلى صحيفة "الأنوار"، الأثيرة عنده تصريحاً وحديثاً. فيلخص حكاية عمره في دمجه المارونية في العروبة، بعد دمج المارونية في اللبنانية. فيروي أن عائلته، عبيد، ترجع إلى آل منصور، ويتحدر هؤلاء، نسباً وحسباً، من آل رحمة، من أهل بشري، اللصيقين بمعقل المارونية الأول. ولا يضعف قوة الخبر، ولا قوة النسب الذي يرويه "الفلاح" الماروني المولع بالأنساب على مثال العرب الأشراف، رجوع الراوي إلى "مئتي سنة أو ثلاثمئة سنة"، على قوله. وحط الأجداد بمزرعة علما، بين زغرتا وطرابلس. ويسرع سليل آل رحمة، فمنصور، فعبيد، إلى تخليص العبرة العاطفية والواقعية المفيدة من موقع هذا المهجر. فهو "مؤشر منطقة مشتركة بين زغرتا ]المارونية[ وطرابلس ]المسلمة والعروبية["، والمتطلعة إلى "العاصمة الأصيلة في دمشق" بحسب السادة فيصل سلمان وابراهيم الأمين وجورج بكاسيني، "السفير" في 30 آب / أوغسطس 1993. وكان مؤشر "اشتراك" آخر، لا يقل وطأة عن الاشتراك الجغرافي والبلداني، زواج زمرد منصور، ابنة عم جده، قبيل الحرب الأولى، بأحد أعيان طرابلس السنّة، راشد المقدم. فانقسمت العائلة، وهرب الجد، جبور، في عام 1912، إلى كوبا، وسافر بعده كل من انضم إليه من الأقارب الذين ربما ناصروا، على ما يوحي المرشح المنتظر اليوم، زواج زمرد من راشد. فلما ولد جان، حفيداً لجبور منصور وابناً لعلما "المشتركة"، في الثامن من أيار مايو 1939، وكان اليوم الميمون يوم الإثنين، ولد تحت طالع ماروني ومسلم، ولبناني وعروبي، ومقيم ومهاجر، وفلاحي وبكوي من بك، واحد. فكان رابع ولد من تسعة أولاد لأبيه وأمه، بقي منهم سبعة، وثالث شاب أو ذكر ونسج على هذا المنوال، الجامع، من غير عسر. فكان في مدرسة "الفرير" الإخوة بطرابلس طالباً ومتظاهراً وخطيباً وكاتب مجلة، وفي كل أحواله هذه كان "وطنياً"، أي بعثياً وقومياً عربياً وناصرياً، من غير ترجيح ولا وقوف. فطرد من "الفرير". فحل في "الثانوية"، الرسمية. فلم يبدل. فطرد. لكن ذلك لم يمنعه من دراسة الحقوق في الجامعة اليسوعية ببيروت، في عام 1960. ومزج الدراسة بالعمل الصحافي. فكان صحافياً في "لسان الحال"، الأرثوذكسية و"القومية"، في 1960. ثم في "الأحرار" البعثية في عام 1965، وكان رئيس تحريرها السيد الياس الفرزلي، الأرثوذكسي كذلك، و"القومي" من لون صار في ما بعد لوناً آخر. وتولى في "الصياد"، من عام 1966 إلى عام 1972، نيابة رئاسة التحرير أو رئاسة التحرير نفسها، من غير جزم. وفي الأثناء كان يتنقل بين مراتب الاستماع والحديث والمحاضرة في حلقات السياسيين العرب الوافدين إلى بيروت. فعهد إليه شارل حلو، الرئيس الأسبق، التوسط عند ساسة العراق الجدد في حل مسألة سياحية. فكانت وساطته الأولى، "الوطنية" والناجحة. وفي الأثناء، في عام 1970، اقترن بالسيدة لبنى إميل بستاني، بنت موقّع اتفاق القاهرة مع الفلسطينيين في خريف 1969. فولد له أربعة أولاد، بكرهم سليمان، على مثال سليمان فرنجية، وصغيرهم بدوي عاطفية أم واقعية؟. ولم ينفك الرجل الطامح، وهي مثل الجمل التركي بثلاثة أسنام متساوية، من التوسط والوساطة بين الأضداد، ولا من الإشارة على طالبيها: من الياس سركيس إلى أمين الجميل، ومن ميشال عون إلى رفيق الحريري. فكان تعيينه، في 1991، "نائباً معيناً، ونائباً في غير منطقته ]في الشوف[، وفي محل زعامة مسيحية كبيرة ]محل كميل شمعون["، على قول فؤاد دعبول وحنا خوري من "الأنوار"، تمهيداً لنيابة أصيلة عن شماله. لكن الموشك السابق على الرئاسة لم يحظ بالوزارة إلا بديلاً عن وزير مستقيل، في آب 1993. فكان وزير دولة مهمته الأولى التوسط بين "الأطراف العربية" وهي واحد وبين بكركي، والخروج على بكركي، وعلى "المجمع" المزمع، إذا اقتضت "الظروف" الخروج، على ما حصل وجرى. وعاد، منذ خريف 1996، وزيراً ثابتاً لوزارة التربية، وهي الوزارة التي نيط بها من طريق كتاب التاريخ "الموحد"، وكتاب التربية المدنية "الموحد"، تطويع الانعزال الطائفي، الماروني والمسيحي وحده، وحمله على العروبة السورية وحدها. فلا غرابة إذا أوكل هذا الأمر، وهو قد يودي بالتعليم اللبناني برمته إذا عمل فيه بمشورة السيد وليد جنبلاط، إلى ماروني "مشترك" يخلف مارونيَّين كان أولهما، هو السيد مخايل الضاهر، مرشح السيد مورفي والسياسة السورية لخلافة السيد أمين الجميل "وإلا الفوضى" وعلى المثال نفسه قد ينتخب السيد جان عبيد رئيساً. فتوكل الرئاسة المارونية، وهي ليست الأولى قطعاً، إلى من لا حول له ولا طول ولا باع، في السياسة والعصبية والرأي، إلا التوسط والتجوال ونقل الرسائل والأجوبة والشروط والرد على الشروط، والاستقواء بالزعامات "الأصيلة" أو الطريفة. ولا ريب في أن مثل فخامة الرئيس هذا، غداة السيد الياس الهراوي، هو مرحلة أخيرة في النزع اللبناني.