هذا المقال نشرته في هذه الزاوية من "الحياة" في 25/11/89 أي قبل تسع سنوات، وعثرت عليه محفوظاً بين أوراقي. وعندما أعدت قراءته وجدته صالحاً لليوم والغد وكل يوم لأنه يتحدث عن معضلة حقيقية نعاني منها وهي "المحبة المفقودة". سألتني: لو طلب منك ان تحدد بكلمة واحدة ماذا ينقصنا كعرب أفراداً وجماعات؟ أجبت من دون تردد: المحبة. فهي بكل أسف أصبحت مفقودة في قاموس حياة معظمنا، ان لم يكن كلنا... والله أعلم. والمحبة المطلوبة التي تركناها لنركض وراء المادة والبهارج والمظاهر البراقة والبحث عن السراب، تبدأ من البيت الى الجار الذي أوصانا الله به، الى الشارع، الى المدينة فالوطن فالأمة. وهي محبة تراب الوطن ونسيمه ومحبة الأرض التي اعطتنا الكثير فأهملناها لنحشر أنفسنا في علب التنك والاسمنت في العواصم والمدن الملوثة: هواء وفكراً وقيماً وأخلاقاً. والمحبة هي أن نقدم باقة حب يومية لمن نحب، ليس بالقول والشعر، ونحن أسياد الشعر والكلام، وانما بالفعل والعمل من أجل ان نبني ونعمل ونزرع لنأخذ ونتطور ونحصد. فمع ضياع المحبة وفقدانها، اختلت القيم والموازين وندر الأصدقاء وتباعد الاخوة والأقرباء وحل الشقاق محل الاخاء والفرقة محل الوحدة، وصار كل واحد منا يبدأ صباحه بنشيد "يا رب نفسي"، أو "أنا ومن بعدي الطوفان". فلم نعد نأكل ما نزرع ولا نبني لابنائنا وأحفادنا، فالمهم أن نكسب الآن وبأي طريقة من الطرق، ومهما كانت الوسائل التي نستخدمها في تحقيق لذاتنا الزائلة، فساد التناحر والاختلاف والتنافس غير الشريف وعم الفساد والنفاق فحق علينا قول جبران خليل جبران في حكمته التي تحمل أكثر من دليل وتشعر كأنه كتبها ليومنا هذا مع أن عمرها 56 عاماً "حديقة النبي" العام 1933 اذ قال فيها: "ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر. ويل لأمة تحسب المستبد بطلاً، وترى الفاتح المذل رحيماً. ويل لأمة تكره الشهوة في أحلامها، وتدنو لها في يقظتها. ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة، ولا تفخر الا بالخراب ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع". "ويل لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد. ويل لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعه بالصفير لتستقبل آخر بالتطبيل. ويل لأمة حكاماؤها خرس من وقر السنين ورجالها الأشداء في أقمطة السرير. "ويل لأمة مقسمة الى أجزاء... وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة". لقطة من عنترة، زين الرجال: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلى من طبعه الغضب ان الأفاعي وان لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب ان كنت تعلم يا لقمان أن يدي قصيرة عنك فالأيام تنقلب