عاد المعلم إلى قريته بعد 12 عاماً، فإذا بأهل القرية يستجدونه ليحدِّثهم عن الحياة التي عاصرها، لعله يخفف عنهم أحزانهم وخيبات آمالهم التي عاصروها. فماذا قال المعلم وبكلمات جبران خليل جبران؟ «يا أصدقائي ورفاق طريقي، ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر. ويل لأمة تحسب المستبد بطلاً، وترى الفاتح المذل رحيماً. ويل لأمة تكره الشهوة في أحلامها، وتعنو لها في يقظتها. ويل لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد. ويل لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعه بالتصفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير. ويل لأمة حكماؤها خُرْسٌ ورجالها الأشداء لا يزالون في أقمطة السرير. ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة». فهذه كلمات جبران منذ أكثر من 80 عاماً، وكأنها كتبت بالأمس. ذلك أن الحياة هي الحياة، ولا يغيّر الله ما فيها حتى نغيّر ما فينا. وكما قالها جبران: «الحياة أقدم من الكائنات الحية. وأي شيء هي فصول الأعوام سوى أفكارنا تتغيّر وتتبدّل؟». دائماً ما يسألني المحيطون عن وصفة لأقدارنا فلا أجد جواباً أقرب من طائرة اشغَلْ فيها مقعداً قرب النافذة وانظر منها إلى تحدياتك على الأرض. وهذا أفضل مكان تتغلب فيه على تهويل مصابك، فأي شيء تنظر إليه من مكان عالٍ سيبدو في نظرك أصغر مما هو عليه مهما كان حجمه، وأي مشكلة أو عقبة ما هما إلاّ تحدٍّ في آخر النهار، وليس من تحدٍّ إلا وهناك من يشترك معك في مواجهته، فقد تكون أنت هنا في هذا الجزء من العالم، وهو هناك في أبعد جزء من العالم، والقاسم المشترك بينكما هو هذا التحدي. إذاً، أنت لست وحدك ولست وحيداً، لكننا قد نضيّق مدى نظرنا الواسع حتى لا يبلغ سوى أقدامنا، فنظن أن الدنيا هي نحن وأقدامنا. ها هو جبران يتلو الويلات الواحدة تلو الأخرى وكأنه لم يفارقنا، ذلك أن الربيع هو يقظة العقل والفؤاد، فهل حل ربيعنا؟ لا أرى إلاّ ربيعاً مقنّعاً في ثوب الربيع، ذلك أن الربيع إنما يبدأ من نفسك، ونحن نعلم أن ما فينا لا يزال فينا، فكل الحكاية أننا ننتظر غيرنا أن يتغيّر كي تطيب لنا الدنيا، أمّا نحن فلا نتغيّر، لأننا لا نرى حاجة إلى تغيّرنا، والمفارقة أن من ننتظر منه أن يتغيّر هو أيضاً قابع في زاويته ينتظر منا «نحن» أن نتغيّر، وهذا ينتظر ذاك، وذاك ينتظر هذا، والنتيجة أن ربيعنا يأتي بيقظة عقولنا وأفئدتنا، وحتى هذه بحاجة إلى دعاية وترويج، بحاجة إلى هداية سماوية أو أرضية بعمل العقلاء اليقظين عليها، ولن يعي مدى هذا الكلام إلاّ متيقظ واعٍ، ومَن عداه سيقرأ ويَمَلّ من الكلام، فكل ما لا نفهمه نتركه، ولا مانع من نعته بأسماء نخفف بها على أنفسنا. ولكن لا بأس، فكما يقول جبران: «وإن جاءت كلماتي غامضة على أفهامكم فلا تسْعَوا وراء إيضاحها، فإن الغموض هو بداءة كل شيء لا نهايته، وإنني بملء الرغبة أود أن تتذكروني كبداءة»، وهذا صحيح وواقعي! فكم من كلماتنا لا يصل، فلا بأس ولا حسرة، فكما أنطقنا بها خالقنا، الأكيد أنه تعالى أنطق بها غيرنا. أمّا التوفيق، فهو أن يتلاقى الناطقون بلغتهم. ولأن لا أحد يستطيع أن يكون قريباً ما لم يكن بعيداً، فلا بأس. ومع هذا كله، لا يحلو الختام سوى بالحكيم جبران وقوله: «قد أُخبرتم في ما مضى أنكم كالسلسلة، ضعفاء كأضعف حلقة في كيانكم، غير أن هذا إنما هو نصف الحقيقة. فأنتم أيضاً أقوياء كأقوى حلقة من سلسلتكم، لأننا إذا حكمنا عليكم بأصغر أعمالكم كنا كمن يحكم على قوة البحر بما في زَبَدِه من الضعف وسرعة الزوال، وإن حكمنا عليكم بخيبتكم كنا كمن يلوم الفصول لتعاقبها وعدم ثباتها»، فلا بأس: «فما تشعرون به من ألم هو انكسار القشرة التي تغلِّف الإدراك». [email protected]