خرجت فيروز من عالم الزمن إلى عالم الأبد. إن تخطت مشارف العمر فلا تقف عند نهايته. الجميع يتذكر ميلادها، ولا يذكر أن الصوت يلد الكلمات والأنغام، فهو ذاكرة إلى الأبد. قليلة تلك الأسماء التي حفرت ملامح القرن العشرين في ذاكرة المجتمع العربي الثقافية. الأسماء قليلة جداً. ليست تلك الأسماء التي تمجد كل يوم قتلاً ونسياناً وإنما تلك الأسماء التي تبقى في الذاكرة إما كلمة وإما نغمة وإما صورة. بين الثقافة والسياسة تواريخ وجغرافيا.. بعض الأسماء تسردها الذاكرة وتشعلها المشاعر والأخلاق والسلوك، بعضها تدفنها وتتخشب في الأرشيف، لا تستعاد إلا لفضيحة أو هزيمة. كذلك هي الحناجر التي تجعل من الكلمة والنغمة صوتاً. الحنجرة هي ذاكرة الكلمة واللحن؛ بعض الحناجر مقبرة الشعر والنغم!. فيروز هي الذاكرة المستمرة للقصائد والألحان. لا تمتلك القصيدة معناها ولا الموسيقى انفعالها إلا بالصوت. هناك أصوات تسحقها القصائد وتفضحها الألحان. لا ترحمها ولا تواري سوأتها. إنها عملية تشهير مستمرة. الآلة بقدر ما تحفظ الصوت تحبسه أيضاً. تحفظ له المزية وتحبس له النشاز!. فيروز هي التي صارت ذاكرة منذ أولى تلك الكلمات التي شدت بها.. فقد ارتبطت فيروز ليس بالموسيقى وحدها وإنما بالكلمة بشعراء لبنان الخالدين. هناك جبران خليل جبران "1883- 1931" الذي اختارت من نصوصه الشعرية. تلك الرعشة الأولى لشعر استفتح القرن العشرين، كانت أولاها من قصيدة "المواكب" 1918 التي وضع ألحانها نجيب حنكش وأعد الأخوان رحباني اللحن في تصوير تلفزيوني أقرب إلى الحلم: "أعطني الناي وغنِّ وانْسَ داءً ودواء إنما الناس سطور كتبت لكن بماء" ورشحت فيروز قصيدة "سكن الليل"، مثلما رشَّح الأخوان رحباني قصيدة سعيد عقل "مر بي يا واعدا"، ليلحنها محمد عبدالوهاب حينما أرادت فيروز التعاون مع المدرسة المصرية، بعد أن شدت من ألحان مدحت عاصم في أغنية وغنت من شعر مرسي جميل عزيز في مرحلتها الأولى، عادت إليها عبر عبدالوهاب، ثم عادت إليها عبر رياض السنباطي في 1980 في أعمال عرفت متداولة بصوت ملحنها ولم تصدر بصوتها حتى الآن. ومن أجمل ما أجاد في تلحينه عبدالوهاب من تلك القصيدة مقطعها الأخير: "ومليك الجن إن مر يروح والهوى يثنيه فهو مثلي عاشق كيف يبوح بالذي يضنيه" واختار الأخوان رحباني من ترجمة ميخائيل نعيمة لكتاب "النبي" 1923 مقاطع أولفت في فاصل غنائي بعنوان "المحبة" -وضع في مسرحية "ناس من ورق" 1972- تخاطب الحب بلغة عميقة وضع موسيقاها الأخوان رحباني: "ولدتما معاً وتظلان معاً ومعاً حين تبددكما أجنحة الموت البيضاء كونا فرحين غنيا فرحين إنما اتركا بينكما بعض فسحات لترقص فيها رياح السماوات" وأوكلت فيروز بعض اختيارات أخرى من الكتاب نفسه، بالإضافة إلى كتابي "دمعة وابتسامة" و"رمل وزبد"، إلى الشاعر جوزف حرب ليعيد تحريرها ويضيف مقاطع تفوق ما كتب جبران نفسه وظهرت بعنوان "سفينتي بانتظاري" وضع موسيقاها زياد الرحباني: "أيامي بينكم كانت قليلة وكان كلامي أقل من الأيام وسآتي إليكم، إذا ما زالت محبتي وتلاشى صوتي" غير أن حرب وضع أجمل مقاطع شعرية فيها إذ يوحي بأنه يركب الجمل على موسيقى مسبقة الوجود: "ماذا بعد قتال اثنين جبارين؟ رماد حيث الحصادون.. دماء حيث الفلاحون وحيث مكان لحبيبين.. تلقى بقايا جنديين الأرض لكم وأنت أخي لماذا إذن تقاتلني؟" وختام ما شدت فيروز من شعر جبران "يا بني أمي" 1994 التي ضمت إلى أغنيات وموشحات وضعها ولحنها زكي ناصيف، فقد اتخذت هذه اللوحة الغنائية من مقالة لجبران في كتاب حديقة النبي بالإضافة إلى توليف عناوين مقالات في النص ذاته وتحرير جوزف حرب وإضافته المتميزة: "الويل لأمة كثرت فيها طوائفها، وقل فيها الدين الويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتشرب مما لا تعصر والويل لأمة مقسمة، وكل ينادي: أنا أمة! فأضاف إليها جوزف حرب: "وطني يأبى التنازل وطني أرض السلام وطني يأبى السلاسل.. أرض السنابل وطني الفلاحون وطني الكرامون وطني البناؤون الغار والزيتون وطني هو الإنسان" فيروز وطن الكلمة والنغم.. إن الحلم مجده فيروز..