يعقد في القاهرة يوم 2 حزيران يونيو لقاء حوار حول العلاقة العربية - الكردية وكيفية تطويرها وتعزيزها، يحضره ممثلون عن الحزبين الكرديين العراقيين، بارزاني وطالباني، وعدد من المثقفين المصريين ممن ينتسبون الى تجمعات واحزاب في مقدمها الناصريون. وابتداء، يمكن التشديد على ان الحوار في حدّ ذاته فكرة جيدة وطريقة مثالية لخلق التفاهم والتفاعل الايجابي بين الافراد او الجماعات او الشعوب، خصوصاً اذا كان المقصود منه تنشيط التعاون الثقافي والحضاري وحلّ المعضلات وفتح آفاق جديدة لبناء مجتمعات مدنية متضامنة. ويمكن التشديد ايضاً على ان العلاقات العربية - الكردية تعاني بالفعل من شروخ عميقة احدثتها ممارسات نظام صدام حسين طوال العقدين الماضيين. وان ردم تلك الشروخ اصبح يتطلب اقامة اكثر من ندوة وحلقة حوار. لكن المشكلة في اللقاء ان اغراضه لا تمت الى كل ذلك بصلة، بل كل ما يريد تحقيقه هو نقطتان واضحتان: الاولى، حثّ الاكراد على تسريع محادثاتهم مع بغداد بغية التوصل الى اتفاق بين الطرفين يفضي الى تخلي اميركا عن حمياتهم من جهة، والى تهيئة مقدمات تمويهية للإيحاء بأن النظام العراقي ينهمك بالفعل في تطبيق القرار 688 الخاص بحقوق الانسان في العراق من جهة اخرى. والثانية، تأجيج مخاوف الاكراد من دور تركيا في المنطقة. ما يمكن ان يجرّ الى اقناعهم بتحويل انتباههم من مخاطر نظام الرئيس صدام حسين الى مخاطر الدولة التركية. والواقع ان النقطتين اعلاه تفسران رغبة القائمين على اللقاء في تحديد المشاركة الكردية بقائمتين تعدّان سلفاً وتقتصران على عشرة اشخاص لكل منهما ترشحهما قيادتا الحزبين. اما المشاركة المصرية فتجري على اساس تحديدات تقوم بها التجمعات الناصرية، إضافة الى عدد محدود من العراقيين يراعى في اختيارهم كونهم من دعاة الانفتاح على النظام في بغداد. بالنسبة الى الغرض الاول يمكن الاشارة الى ان الاتجاه القومي الناصري خصوصاً في اوساط المعارضة المصرية، اصبح يؤكد منذ مدة ليست بالقصيرة على ان العراق يتعرض الى مؤامرة اميركية - اسرائيلية تستهدف تفتيته والنيل من شعبه عبر فرض عقوبات دولية على نظامه السياسي الحاكم. وان اميركا، ومن ورائها اسرائيل تحاول استثمار الورقة الكردية لايذاء العراق والنيل من دوره العربي. واستناداً الى ادبيات تلك الاحزاب فان الواجب القومي اصبح يحتم على كل الدول العربية، بما فيها تلك التي اكتوت بنار صدام حسين كالكويت، ان تسارع الى تطبيع علاقاتها مع بغداد والعمل على اعادتها الى موقعها الطبيعي ضمن الساحة القومية العربية، من دون مراعاة الموقف الدولي الناشئ عن احتلال الكويت والقرارت الدولية المتعلقة بذلك. تلك النغمة ليست جديدة ولا علاقة لها بالحساسية المفرطة التي اصبح عليها الموقف العربي بعد التشدد الاسرائيلي حيال عملية السلام منذ وصول الليكود الى الحكم. وهي الحساسية التي يستخدمها البعض، ومنهم، ربما، منظّمو ندوة القاهرة، لتمرير مطالبتهم بمساعدة صدام حسين واعادة تأهيله انطلاقاً من اهميته في اعادة التوازن الى ميزان الصراع العربي - الاسرائيلي. وأخذوا في الفترة الاخيرة يحاولون اقناع الشعب العراقي نفسه، بعربه واكراده، بتلك الطروحات. فقبل فترة ليست ببعيدة، مارسوا ما في جعبتهم من ضغوط لاقناع افراد وتجمعات عراقية معارضة معينة للتوجه نحو التصالح مع نظام صدام حسين، بل والذهاب الى بغداد طلباً لذلك. كما شرعوا يشجعون الاكراد العراقيين على نسيان الماضي واعادة جسور التفاهم مع حكومتهم التي أذاقتهم مرارة حلبجة والأنفال. وكان اقتراحهم المتعلق بتنظيم ندوة محددة يحضرها ممثلون عن الحكومة العراقية او حزب البعث العراقي مع ممثلين من احزاب كردية وناصرية، آخر الاشارات في ذلك الخصوص. وعلى رغم ان الحكومة العراقية رفضت الحضور رسمياً، الا انها ظلت تبارك المقترح انطلاقاً من قناعتها ان الاكراد في الندوة سيكونون في "أيد أمينة" ما دام الغرض هو اقناعهم بالتصالح معها. وما يستدعي الانتباه ان الاوساط الناصرية ما فتئت تكرر على مسامع الاكراد، او على الاقل على مسامع ممثليهم في القاهرة، ان الافضل بالنسبة اليهم هو التعاون مع صدام حسين وتفضيل ذلك على التشبث بحماية اميركية وغربية يمكن ان "تلغى في اي لحظة". فالصراع المحتدم بين المجتمع الدولي والنظام العراقي لا يمكن ان ينتهي، في نظر تلك الاوساط، الا ب "انتصار!" صدام حسين. وكانت بغداد نفسها التجأت الى خطوة مشابهة، قبل ما يقرب من شهرين، حين اقنعت موسكو بإرسال سفيرها في العراق الى المنطقة الكردية لاقناع قادة الحزبين بالاستعجال في توقيع اتفاقية سياسية مع بغداد انطلاقاً من حقيقة ان "صدام حسين باق من دون تغيّر على رغم جهود واشنطن لإزاحته!". وبالنسبة الى المسألة الثانية فالواضح ان الاوساط الناصرية تعمل منذ فترة ليست بالقصيرة على استثمار انعكاسات الاتفاق العسكري التركي - الاسرائيلي، للقول بخطر تركيا المتعاظم على الامن والاستقرار في الشرق الاوسط. والواضح ايضاً انها تحاول جهدها استغلال اكراد العراق، خصوصاً جلال طالباني، للقيام بدور التصدي للخطر التركي. وتجلي ذلك بشكل واضح حين جرى اقناع الاخير في العام الماضي بالتعاون مع حزب اوجلان ضد تركيا. واستطراداً لا يمكن الجدال في حقيقة ان تركيا تنتهك حقوق اكرادها بشكل فظّ، وان مؤسستها العسكرية الشوفينية تخوض ضدهم حرباً مدمّرة تستدعي التنديد والإدانة. وهي تشكل انطلاقاً من تلك الحقائق خطراً محدقاً بأكرادها المحرومين من ابسط الحقوق الانسانية. لكن الواضح ان تلك الدولة المؤسسة على ايديولوجية قومية استعلائية، لا تمثّل بالنسبة لأكراد العراق سوى خطر ثانوي اذا جرت مقارنتها بالخطر الصدامي المحدق. بل ويمكن للاحزاب الكردية العراقية ان تجد طرقاً سلمية مؤاتية لحل مشكلاتها مع الدولة التركية، شبيهة بالطرق التي تنتهجها الشعوب والحكومات العربية معها. اما اذا كان المقصود بتلك المخاطر تزايد عدد المواقع التركية ومقار الاحزاب التركمانية في أربيل منطقة نفوذ بارزاني فيمكن التذكير في الوقت عينه بتزايد المواقع الايرانية وافتتاح حسينية كبيرة في مدينة السليمانية منطقة نفوذ طالباني التي تخلو تجمعاتها السكانية من شيعي واحد. ثم لماذا تشجيع اكراد مقهورين على الدخول في حرب اخرى مع تركيا، في حين تحاول حكومات عربية، في تصرف حسن، تطبيع وتطوير وتعزيز علاقاتها مع تلك الدول الشرق الاوسطية المهمة؟ ولماذا اقناعهم بالتغاضي عن مخاطر صدام حسين؟ ولماذا دفعهم لمقاتلة دولة تخصص احدى قواعدها الجوية لحمايتهم؟ وحتى اذا اتفقنا على مساوئ الاتفاق العسكري التركي - الاسرائيلي، فهل يبرر ذلك اقدام الاكراد عن الانقطاع عن تركيا في وقت تحرص فيه دولة عربية قوية كسورية على طرح مبادرات ودعوات سلمية للتطبيع وتسوية المشكلات معها؟ من دون شك، يمكن فهم الاسباب التي تدعو ببعض الاوساط العربية الى التقليل من مخاطر صدام حسين. لكن ما لا يمكن فهمه هو اصرار بعض الاوساط على توريط الاكراد واستخدامهم للوقوف في وجه مخاطر خارجية مزعومة واشغالهم عن الاندماج مع المعارضة العراقية في بناء عراق معافى من صدام حسين وسلوكياته العداونية. فتركيا بالنسبة الى اكراد العراق دولة كبيرة ومهمة في الشرق الاوسط وتمتلك معهم حدوداً تمتد لاكثر من ثلاثمئة كيلومتر. ما يعني ان الاكراد اذا ارادوا فعلاً ان يتحولوا الى عنصر استقرار وسلام في الشرق الاوسط، فلا بد لهم من تجنب الدخول في صراعات مسلحة مع الدول المجاورة وفي مقدمها تركيا وايران وسورية. وكل ذلك لا يعني البتة السكوت السياسي عما يلاقيه بنو جلدتهم في تركيا من أهوال. وبعيداً من النقطتين اعلاه يمكن الاشارة الى نقطة اخرى متعلقة بآلية انعقاد الندوة. فهي، وعلى رغم كونها تجري تحت اسم "الحوار العربي - الكردي"، الا انها في حقيقتها لا تعدو ان تكون ندوة بين ممثلين لاحزاب واتجاهات حزبية وسياسية محدودة. ثم ان المشاركة الكردية فيها تتمثل في اشخاص اثبتت تجربة السنوات القليلة الماضية ان اكثرهم يفتقر الى الحدّ الادنى من الإلمام بثقافة الحوار. بل ان بعضاً منهم وضع بندقيته في المجشب لحين انتهاء الندوة، مع عزم اكيد للعودة الى حوار البنادق بمجرد ان تطأ قدماه ارض كردستان العراق. والأدهى ان هؤلاء اثبتوا عجزهم الكامل عن اقامة حوار داخلي في ما بينهم يكفل انهاء حربهم. فكيف يمكن التصديق بأنهم قادرون على ادارة حوار مشترك مع طرف ثالث؟ اما المحاورون الناصريون، فكانوا اكدوا عجزاً مشابهاً قبل سنوات حين تداعوا بصوت واحد لرفض استضافة عاصمتهم ندوة تعلّقت بحوار الاعراق والاقليات. وكانت حجتهم المعلنة ان الندوة تبحث ضمن مواضيعها المختلفة موضوع اقباط مصر. والمعلوم ان رئيس مركز ابن خلدون المصري سعد الدين ابراهيم اضطر على إثر ذلك الرفض الى نقل موقع ندوته الى قبرص. فكيف اذن يمكن الوثوق بصدقية هؤلاء في ادارة حوار ناجح مع الاكراد؟ وخلاصة القول ان الندوة تعقد. لكن الاكيد انها تكون ندوة يتحاور خلالها طرشان. اما المتحدث الوحيد فلن يكون سوى صدام حسين... وذلك في الواقع قمة مأساة لا تدعو إلا الى السخرية.