ذات مساء احتفلنا بعيد ميلادي السادس واستطعتُ بهذه المناسبة، مستغلاً كوني الشخص المميز بين الجمع، أن ألتهم كمية من الحلوى وقطع الكيك والبسكويت ما جعلني أستيقظ في منتصف الليل تملكني نوبة تقيؤ شديدة. هرعت إليَّ والدتي ثم لحقها والدي. كانا مذعورين مثلي. نثرت محتويات معدتي على الفراش والسجادة الجديدة وعلى طول الطريق الى الحمام. كنتُ أظن أن أعياد الميلاد تسمح بارتكاب الهفوات دون عقاب. * * * وسط بيتنا الكبير حديقة صغيرة مهملة لا يحبها أحد غيري" فيها زيتونة عقيمة وشجرتا نارنج وشجرة رمان مستعصية على النمو. قال أحد ضيوفنا لأبي: ان هذه حديقة معوقة" غير أني لم أجد فيها اختلافاً عن غابة طرزان التي كان يتقافز بخفة بين أغصان أشجارها كالقرد دون أن يسقط، وخيل إليَّ أن ما من سبب يدعوني الى عدم التلاعب مثله، مستغلاً خفة جسمي النحيل للغاية. صرختُ صرخته المميزة تلك مرات عدّة حتى حذرتني جدتي بأن بلعومي سينشق آخر الأمر. ثم تسلقت جذع الزيتونة الجاف وبدا لي أن أقوم بعملية قفز مذهلة ترفع من شأني في العائلة وتوطد شهرة الحديقة وعلاقتها بطرزان وغابته. تلك أفكار ملعونة لا يعلم إلا الشيطان من أين تأتي وكيف تساورنا هكذا. ورغم تخطيطي الدقيق لقفزتي بين أشجار الحديقة المجدبة، فإن الأمر لم يستغرق غير ثوانٍ معدودة وجدتُ نفسي بعدها مرمياً على الأرض يتناوشني الألم من ساقي وكوعي وأنفي وجبهتي. لم تكن سقطة مادية فحسب، بل كانت معنوية وكارثية عليَّ وعلى الحديقة" إذ حوّلها أبي بعد حين الى مخزن للمياه القذرة. غير أن سمعة طرزان والغابة بقيت صامدة ولم يمسها أي سوء والحمد لله. * * * اعتدت ألاّ استعمل السلالم في صعودي من الطبقة الأرضية الى الطبقة الأولى حيث سكنانا. استسهلتُ دائماً التسلق على قضبان شبابيك السرداب الكبير، لأصل منها الى المحجر الخشبي المتآكل فأتخطاه الى الطارمة" وقد يعنّ لي أحياناً أن أمارس السير متوازناً على المحجر، حتى تعلو صرخات والدتي وجدتي من المطبخ تحذران من وقوعي. عندئذ أصير بين خطرين... خطر السقوط وتحطم عظامي وخطر أن يسمع أبي تلك الصرخات فيسرع لعقابي، فأضطر للقفز الى الطارمة وأنهي المشهد بسرعة. لم تكن الحياة، يومئذٍ، تسمح بأن نحيا حسب المقولة الشهيرة... عش في خطر. * * * قيل لي يوماً إن حصاناً منفلتاً من اسطبلات الخيول الواقعة في نهاية الدرب قد داهم جمع الأطفال المحتشدين وهم يلعبون آنذاك، فاختارني من دونهم ليضربني بإحدى سيقانه" وحملوني مغمىً عليَّ إلى بيتنا. لا أدري من حملني ولم أصدق أن حصاناً يمكن أن يرفس طفلاً مثلي ويتركه حياً بعد ذلك" غير أني استسلمتُ لهذا الرأي بعد اصرار عائلتي عليه. أنا الآن طفل ضربه حصان بإحدِ سيقانه ولم يمت. لكني، من جهة أخرى، شاهدتُ بنفسي نقيب أشراف بغداد وهو يقبل من بداية الدرب، محاطاً بمرافقيه، يسير الهوينى مقترباً من مكان لعبنا. أشار المرافقون بأذرعتهم فتراجع الأطفال وتراجعت مثلهم" والتصقوا بالجدران وجلين فالتصقت أنا أيضاً ولكن بدون وجل. كان نقيب الأشراف شيخاً قصيراً سميناً بلحية بيضاء، وفوق رأسه ما يشبه العمامة" وكان يسير ببطء وقد رفع طرف ردائه الحريري خوف أن يمسَّ تراب الأرض. تلبث هنيهات حين صار أمامي ثم توقف يتمعن في وجهي: - ابن من هذا الطفل؟ فأجابوه: - إنه ابن السيد عبدالرحمن. فهزَّ رأسه مرات: - ارسلوا إليهم دجاجة، هدية منا. كان لهذه الحادثة مغزى خاص لدى أهلي، بقيت أجهله لحد الآن. * * * من بين الساعات الهنية، أيام الصيف، تلك التي كنت أتعشى فيها مع العائلة ونحن على سطح الدار والشمس لم تغب بعد تماماً والسماء فسيحة تنطفىء زرقتها بهدوء. كنت اتناول صحني المملوء بالكوشري من يدي أمي وأتسلق "التيغة" التي تفصل بيننا وبين الجيران وأجلس على فسحة ضيقة حيث ألتقي بصديقي محمود الذي كان يجلس ومعه صحن التمن المخلوط بمرق الطماطة. نجلس نأكل دون كلام، في غبش الغروب، محاطين بأهالينا، تفعم قلوبنا سعادة غامضة. لم تكن تلك إلا دقائق قليلة من هذا الزمان. * * * لم أكن أسكن إلى نفسي وأرتاح وأدع الآخرين يرتاحون" كانت هنالك، من حولي على الدوام، حركة لا بد لي أن أقوم بها" وغالباً ما كانت تزعج فرداً أو أكثر" وغالباً، كذلك، ما كنتُ أُعاقب عليها. لم يكن في العائلة من يعاقبني غير أبي" لا أحد سواه" ولكم كان يجد مشقة في ذلك! ذات مساء، في أحد الأصياف البغدادية التي لا توصف حلاوتها، آوينا جميعاً الى أسّرتنا المنتشرة في السطح الواسع ذي الأرضية الترابية، نسترخي عليها ونتمتع بطراوة نسائم الليل الباردة، إذ بدر مني ما لا أتذكره مما أثار حنق والدي بشدة فقام بغضب يلاحقني والعصا مرفوعة في يده. أعتدت في هذه المواقف الحرجة أن أنهزم بسرعة، راكضاً لا ألوي على شيء كما يقولون. كان الظلام قد تكاثف وساحة السطح ضيقة مهما اتسعت" وكنت" بسبب هلعي مضطراً أن أركض على غير هدى حقاً، وإذا بي قبالة مدخل السلالم المؤدية الى الأسفل. كانت أمامي ظلمة سوداء دامسة تحيط بالمدخل وخطوات والدي المهددة ورائي، فتوقفت. تلك لحظة في الحياة لم أنسها قط ولن أستطيع نسيانها. كنتُ أبكي بحرقة ودموعي تتسايل، وفي لمحة خاطفة تشكلت أمام عينيَّ صورة واضحة ساطعة لرجل مهيب يقف بصلابة، مرتدياً ثياباً مزركشة تتلامع ألوانها الحمراء والصفراء والخضراء. بُهرت بإشعاعات الألوان وجفلت مرتداً، مفزوعاً من مظهر الرجل المهيب فصرخت صرخة رعب وأنا أهرع راجعاً الى أحضان أبي. أخذني والدي بين ذراعيه وقبلني رامياً عصاه بعيداً. * * * قيل لي، أيضاً، إني أنقذت أبي وأخي ونفسي من موت محقق، لأني أردتُ ألاّ احتذي حذائي الا مع جوربين. كنا نقصد الخروج ثلاثتنا ذلك الصباح، فلبسنا ثيابنا كما يجب ونزلنا نقصد باب الخروج. كان بيتنا بعيداً عن الدرب، في العمق، حوالي عشرين متراً، فكنا نخترق مجازاً ضيقاً بين حيطان عالية جداً حتى نصل الى الباب الخارجي الكبير. قبل أن نترك حوش الدار الى المجاز خطر لي، وأنا ابن السادسة، بأن من غير اللائق بتاتاً أن أسير هكذا دون جوربين" وكلما خطوت خطوة انحسر السروال وبان أعلى قدمي عارياً. توقفتُ بحزم وأعلنت عن رغبتي بصوت مرتفع، فبدأ النقاش والاستنكار والعجب. أصررتُ إصراراً أعمى يعرفه الأهل مني حق المعرفة" فحسم والدي الأمر بعد لأي وطلب من والدتي أن تنهي المشكلة وتلبسني جواربي. ومع نزول والدتي بسيرها المتأني، تجلب معها الجوارب وإصراري، مرة أخرى، على ارتدائها بنفسي وتثاقلي الطبيعي في تنفيذ هذا الأمر، مضى ربع ساعة من الزمان اللامنتهي، تسنى فيه لحائط الجيران العالي أن ينهار على المجاز بكل ثقله وحجارته وترابه فيغطيه حتى منتصفه ويخطىء بتسرعه هذا، ثلاثة أنفار من البشر، كان أحدهم بدون جوربين. * * * الوقت، في سنوات الطفولة، طويل ممل وبلا ثمن، والقضاء عليه يتطلب خططاً متقنة. أخافنا أحد الرفاق يوماً بقطعة بلاستيكية سوداء على شكل عقرب، واقترح ان نتشارك في العبث بالمارة ونسلي أنفسنا قليلاً. ربطنا العقرب بخيط طويل أسود بعد أن شكّلنا ذنبها بحيث يرتفع الى الأعلى، ثم انتظرنا أن تميل الشمس الى الغروب لتعسر الرؤية على الضحايا. كنا ثلاثة" تقاسمنا الأدوار في ما بيننا: واحد يقف على مبعدة ويمسك بطرف الخيط، يسحبه بما يمكن من بطء، والإثنان الآخران يتعاونان على إتمام الملهاة بالتظاهر بالخوف والصراخ بأن عقرباً تسعى هناك على الأرض. ساق لنا الحظ في الدقائق الأولى حمدان الأعرج بعكازته الغليظة" ومنذ البداية هجم حمدان بساقه الخشبية دون تردد وحاول أن يفسد الحلية البلاستيكية بسحقها وإتلافها، مما كان خارج توقعات صاحبها فأخذ يسحبها بعجلة ثم ركض، آخر الأمر، مبتعداً، تاركاً لنا أن نواجه شتائم حمدان وتهديداته. ثم عدنا فجاء دور الحاج صالح ورفيقه. ما أن تصارخنا بأن عقرباً تدب قرب الحائط حتى تهيّج الحاج صالح هياجاً عظيماً وبادر الى نزع خفّه الضخم ثم انحنى وأخذ يضرب اللعبة البلاستيكية المتحركة ضربات شديدة شبه جنونية والتراب يتطاير من حوله وهو يهتف: - الله أكبر... الله أكبر. كان ذلك المنظر الحماسي اللامألوف، فوق ما تتحمل طاقتنا على الصبر، فانفجرنا بضحك هستيري عالٍ وأسرعنا، كل من جهته، نهرب وننجو بجلدنا من غضب الحاج صالح ومن خفّه. لم تكن المتعة، آنذاك، باهظة الثمن لحسن الحظ.